رد الجاحظ على الجاحظ
فمعلوم أن الجاحظ حاطب ليل وقد عرف أنه كان يكفر معاوية بل يكفر من لا يكفره ، هذا مع ذبه عن عثمان بن عفان _ رضي الله عنه _
وقد علم أنه يورد في كتبه الأكاذيب ليثلب من لا يحبهم من الصحابة مع كونه يوقر كبارهم
وقد تعجب من جرأته في كتاب البخلاء حيث قال :” وأكل عبد الرحمن بن أبي بكرة على خوان معاوية، فرأى لقم عبد الرحمن. فلما كان بالعشّي، وراح إليه أبو بكرة، قال: ما فعل ابنك التّلقامة » ؟ قال: «مثله لا يعدم العلة»”
وهذا الخبر ليس بابه البخل وإنما بابه التأديب وسخاء معاوية متواتر والطعن في ذلك هجنة
قال الخرائطي في مكارم الأخلاق 264 – حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْجُنَيْد نَا إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم نَا هشيم نَا الْعَوَّامُ عَنْ جَبَلَةَ بْنِ سُحَيْمٍ عَنِ ابْنِ عمر قَالَ
مَا رَأَيْتُ أَحَدًا كَانَ أَسْوَدَ مِنْ مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان
قُلْتُ وَلَا عُمَرَ قَالَ كَانَ عُمَرُ خَيْرًا من مُعَاوِيَة وَكَانَ مُعَاوِيَة أسود مِنْهُ.
وأسود يعني أسخى ثم وجدت كلاماً للجاحظ يصلح نقضاً لكلامه الذي قاله في البخلاء
قال الجاحظ في التاج في أخبار الملوك :” ألا ترى إلى معاوية بن أبي سفيان، حين وضع بين يدي الحسن عليه السلام، دجاجةً، ففكها، نظر إليه معاوية، فقال: هل كان بينك وبينها عداوة؟ فقال له الحسن: هل كان بينك وبين أمها قرابة؟.
إن هذا الكلام الذي دار بينهما قد قرح في قلب كل واحدٍ منهما. ومعاوية لم يقل هذا القول، لأنه كان يعظم عليه قدر الدجاجة.
فكيف يكون ذلك، وهو يكتب إلى أطرافه وعماله، ولى زيادٍ بالعراق بإطعام السابلة، والفقراء، وذوي الحاجة؟ وله في كل يومٍ أربعون مائدة يتقسمها وجود جند الشام؟ ولكن علم أن من حق الملك توقير مجلسه وتعظيمه، وليس من التوقير والتعظيم مد اليد، وإظهار القرم، وشدة النهم، وطلب التشبع بين يدي الملوك وبحضرتها”
ومع كون القصة بين معاوية والحسن لا تصح ولكن تأمل اعتراف الجاحظ بسخاء معاوية الشديد وهذا أمر متواتر وشواهده يصعب حصرها فذكر خبره في البخلاء سقطة وكلامه في التاج في أخبار الملوك يصلح نقضاً على كلامه في البخلاء
والعجيب أن كتاب الجاحظ في التاج في أخبار الملوك كان كثيراً ما يستشهد بأخلاق معاوية ويعظ الملوك بها !
فقال في هذا الكتاب بعدما ذكر خبراً بين معاوية ويزيد بن شجرة :” فلئن كان يزيد بن شجرة خدع معاوية في هذه، فمعاوية ممن لا يخادع ولا يجارى؛ ولئن كان بلغ من بلادة يزيد بن شجرة وقلة حسه ما وصف به نفسه، ما كان بجدير بخمسمائة ألف في عطائه. وما أظن ذلك خفي عن معاوية، ولكنه تغافل على معرفةٍ، لما وفاه حق رياسته.
ويروى عن معاوية انه كان يقول: السرو التغافل”
وقال الجاحظ أيضاً :” وكان معاوية يقول: يغلب الملك حتى يركب بشيئين: بالحلم عند سورته، والإصغاء إلى حديثه”
وقال الجاحظ أيضاً :” وهكذا فعل معاوية بن أبي سفيان في يوم عيدٍ، وقد قعد للناس، ووضعت الموائد وبدر الدراهم والدنانير للجوائز والصلات فجاء رجل من الجماعة، والناس يأكلون، فقعد على كيس فيه دنانير. فصاح به الخدم: تنح! فليس هذا بموضع لك.
فسمع معاوية، فقال: دعوا الرجل يقعد حيث انتهى به المجلس فأخذ كيساً، فوضعه بين بطنه وحجزة سراويله، وقام. فلم يجسر أحد أن يدنو منه. فقال الخادم: أصلح الله أمير المؤمنين! إنه قد نقص من المال كيس دنانير. فقال: أنا صاحبه، وهو محسوب لك.
وهذه أخلاق الملوك معروفة في سيرهم وكتبهم”
وقال الجاحظ أيضاً :” وكان ملوك العرب، منهم من يلبس القميص مراراً، ويغسل له غسلاتٍ: معاوية وعبد الملك وسليمان وعمر بن عبد العزيز وهشام ومروان بن محمدٍ وأبو العباس وأبو جعفر والمأمون.
فأما يزيد بن معاوية، والوليد بن يزيد، ويزيد بن الوليد، والمهدي والهادي والرشيد والمعتصم والواثق، فإنهم كانوا لا يلبسون القميص إلا لبسةً واحدةً، إلا أن يكون الثوب نادراً معجباً غريباً”
وقال أيضاً :” فيقال إن الأمم كلها، أولها وآخرها، وقديمها وحديثها، لم تخف أحداً من ملوكها، خوفها أردشير بن بابك من ملوك الأعاجم، ومن كان قبلهم، وعمر بن الخطاب من خلفاء الإسلام.
فإن عمر كان علمه بمن نأى عنه من عماله ورعيته كعلمه بمن بات معه في مهادٍ واحدٍ، وعلى وسادٍ واحد. فلم يكن له في قطر من الأقطار، ولا ناحية من النواحي عامل ولا أمير جيشٍ إلا وعليه له عين لا يفارقه ما وجده. فكانت ألفاظ من بالمشرق والمغرب عنده في كل ممسً ومصبح.
وأنت ترى ذلك في كتبه إلى عماله وعمالهم، حتى كان العامل منهم ليتهم أقرب الخلق إليه، وأخصهم به. فساس الرعية سياسة أردشير بن بابك في الفحص عن أسرارها خاصةً.
ثم اقتفى معاوية فعله، وطلب أثره، فانتظم له أمره، وطالت له مدته.
وكذا كان زياد ابن أبيه يحتذي فعل معاوية، كاحتذاء معاوية فعل عمر”.