قال تعالى: (قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجاً على أن تجعل بيننا وبينهم سداً (94) قال ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردماً).
أقول: هؤلاء القوم حالهم يشبه إلى حدٍ حال أمتنا اليوم أمة يتسلَّط عليها مفسدون ولا قِبَل لهم بهم فيما يَظهر للناس
وفي مثل هذه الحال تتشوف النفوس إلى (مخلِّص) ولعلك ترى هذا في عدد ممَّن يتكلم عن (المهدي) أو (نزول المسيح) أو يتكلم عن تيار معين على أنه المخلِّص ولكن هناك فارقاً جوهرياً بين انتظارنا وانتظارهم وإن شئت فقل فروقاً
الأول: أنهم كانوا واعين بأن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهُم عندهم مقياس صحيح للفساد والصلاح وهذا ما يفتقده كثيرون اليوم إذ أنهم ينظرون للعدل والصلاح من خلال منظور غربي ويرون الكثير من الفساد في الأرض ضرورة عصرية فالربا ضرورة عصرية يُحتال لها، ومقدمات الزنا ضرورة عصرية، والتضييق على عملية النكاح الشرعية ضرورة عصرية وقد ورد في الحديث: (إذا أتاكم مَن ترضون خلقه ودينه فزوجوه، إلَّا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض) وهذا الحديث وإن لَم يكن له إسناد قائم غير أن الشريعة في كلياتها تعضده ففي القرآن (والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتَّبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيماً) وهذه الآية جاءت بعد آيات تجويز نكاح الأمة ممَّن لا يستطيع نكاح الحرائر وآية الحد في الزنا فدل على أن التضييق في عملية الزواج وتسهيل الحرام ممَّا يريده أهل الشهوات والميل العظيم في الآية هو الفساد العريض في الحديث، وكذلك التبرج حرية شخصية وهي مِن ضمن الفساد العريض حتى تجرأ بعض الجهلة وقال أنا ضد النقاب هل يوجد مخلوق يلبس نقاباً وفي الواقع لو اقتدينا ببقية المخلوقات ما لبسنا الملابس أصلاً وهل رأيت كائناً الزينة على وجهه غير أنثى بني آدم؟ والأمثلة على هذا كثيرة وإنما هنا انموذجاً
الثاني: أنهم انعزلوا عن هذا الفساد وباينوا أهله ولَم ينخرطوا معهم حتى يصيروا جزءاً من منظوماتهم الفاسدة بغير ضرورة
الثالث: أنهم لَم يتشرطوا على المخلِّص دون مقابل بل فهموا أنهم لا بد أن يبذلوا له شيئاً لكفايته وللدلالة على الجدية في الطلب فقالوا (فهل نجعل لك خرجاً) وكثير اليوم ممَّن يتذمر مِن الفساد هو لا يعين المصلحين بشيء، بل تجده سلبياً جداً لا يُقِيم خيراً ممَّا بين يديه ويمكنه فعله بحجة أنَّ ذلك لن يأتي بصلاحٍ جذري ومَن قال أنَّ الصلاح لا بد أن يأتي دفعةً واحدة؟ ثم لا يلبث حتى يصير معيناً على الفساد أو مبرِّراً له
الرابع: أنهم ما اكتفوا بالإعانة المالية وانتقاء الرجل الصالح وبيان الأمر له بل لمَّا طلب منهم أن يعينوه بقوة بإعانة بدنية ممْكنة ما قصَّروا وأعانوه وهذا دليل على صدقهم وفيه أنَّ المخلِّص ليس (علةً تامة) بل هو بشر ناقص جعله الله سبباً في الخير ولكنه أيضاً يحتاج إعانة وهذا يقطع باب الغلو فيه وعبادته من دون الله أو الاتكال الكامل على الأسباب مع الاعتراف لأهل الفضل بالفضل، ولكن أمة يفشو فيها الشرك والغلو بالصالحين سواءً غلو الطرقية أو الغلو في المشايخ أو الغلو في الأسباب هي أبعد ما تكون عن مثل هذه المنَّة الإلهية
وهكذا في باب العلم والشبهات إن وجدت مفسدين ينشرون الشبهات والشر وجاءك كلامهم دون تطلُّب فاعرضه على مَن تظن فيه علماً ومقدرةً على أن يحيط الناس بسدٍ منيع تجاه هذه التشويشات ثم أنت بعد ذلك أعن بما تقدر عليه في نشر هذا الكلام ونقله لكل مَن يحتاجه، ولا تهمِّلن مع ذلك تقوية نفسك حتى لربما تكون أنت (المخلِّص) في بعض الأوقات فالأمة لو تأملت ينبغي أن يكون فيها مخلِّصون كُثر وهنا مَن يكون (مخلِّصاً) في باب وفي باب آخر هو من عامة الناس إن فهمت هذا توسَّع نظرك في البحث عن دورك في هذه العملية.