دقائق في علم العلل من كلام الإمام ابن القيم

في

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

قال ابن القيم في كتاب الفروسية ص231 :

” وقال بعض الحفاظ يبعد جدا أن يكون الحديث عند الزهري عن سعيد بن
المسيب عن ابي هريرة مرفوعا ثم لا يرويه واحد من أصحابه الملازمين له المختصين به الذين
يحفظون حديثه حفظا وهم أعلم الناس بحديثه وعليهم مداره

وكلهم يروونه عنه كأنما من قول سعيد نفسه وتتوفر هممهم ودواعيهم على ترك
رفعه إلى النبي

وهم الطبقة العليا من أصحابه المقدمون على كل من عداهم ممن روى عن الزهري
ثم ينفرد برفعه من لا يدانيهم ولا يقاربهم لا في الاختصاص به ولا في الملازمة له ولا
في الحفظ و لا في الإتقان وهو معدود عندهم في الطبقة السادسة من أصحاب الزهري”

أقول : تأمل هذا الكلام وقارنه مع قول من يقول :” فلان رفع والرفع
زيادة ثقة “

وقال أيضاً في 281 :” وأما قولكم إن الحديث صحيح لثقة رجاله إلى آخره
فجوابه من وجهين

أحدهما : ما تقدم مرارا أن ثقة الرواي شرط من شروط الصحة وجزء من المقتضى
لها فلا يلزم من مجرد توثيقه الحكم بصحة الحديث

يوضحه أن ثقة الرواي هي كونه صادقا لا يتعمد الكذب ولا يستحل تدليس ما
يعلم أنه كذب باطل

وهذا أحد الأوصاف المعتبرة في قبول قول الرواي لكن بقي وصف الضبط والتحفظ
بحيث لا يعرف بالتغفيل وكثرة الغلط ووصف آخر

 ثانيهما وهو أن لا يشذ عن الناس
فيروي ما يخالفه يه من هو أوثق منه وأكبر

 أو يروي ما لا يتابع عليه  وليس ممن يحتمل ذلك منه كالزهري وعمرو بن دينار وسعيد
بن المسيب ومالك وحماد ابن زيد وسفيان بن عيينة ونحوهم

 فإن الناس إنما احتملوا تفرد أمثال
هؤلاء الأئمة بما لا يتابعون عليه للمحل الذي أحلهم الله به من الإمامة والإتقان والضبط

 فأما مثل سفيان بن حسين وسعيد
بن بشير وجعفر بن برقان وصالح بن أبي الأخضر ونحوهم فإذا انفرد أحدهم بما لا يتابع عليه فإن أئمة الحديث لا يرفعون به رأسا

وأما إذا روى أحدهم بما يخالف الثقات فيه فإنه يزداد وهنا على وهن فكيف
تقدم رواية أمثال هؤلاء على رواية مثل مالك والليث ويونس وعقيل وشعيب ومعمر والأوزاعي
وسفيان ويحيى بن سعيد وعبد الرحن بن مهدي وأضرابهم هذا مما لا يستريب فيه من له معرفة بالحديث وعلله في بطلانه وبالله التوفيق “

أقول : تأمل كيف أن ابن القيم لم يقنع بقولهم أن وثاقة الرجال تكفي لتصحيح
الحديث بل اشترط أن ( أن لا يشذ
عن الناس فيروي ما يخالفه يه من هو أوثق منه وأكبر أو يروي ما لا يتابع عليه )

ففرق بين المخالفة ، والانفراد المستنكر الذي يستنكره أئمة النقد فتأمل
هذا ، وموافقته لما قررته في ( تحرير معنى الحديث المنكر عند أئمة النقد )

وقال أيضاً تقريراً لما سبق ص284 :” وكذلك أصحاب أحمد إذا انفرد راو
عنه برواية تكلموا فيها وقالوا تفرد
بها فلان ولا يكادون يجعلونها رواية إلا على إغماض ولا يجعلونها معارضة لرواية الأكثرين
عنه وهذا موجود في كتبهم يقولون انفرد بهذه
الرواية أبو طالب أو فلان لم يروها غيره

فإذا جاءت الرواية عنه عن غير صالح وعبد الله وحنبل وأبي طالب والميموني
والكوسج وابن هانئ والمروزي والأثرم وابن القاسم ومحمد بن مشيش ومثنى بن جامع وأحمد
بن أصرم وبشر بن موسى وأمثالهم من أعيان أصحابه استغربوها جدا ولو كان الناقل لها إماما ثبتا

ولكنهم أعلى توقيا في نقل مذهبه وقبول رواية من روى عنه من الحفاظ الثقات
ولا يتقيدون في ضبط مذهبه بناقل معين كما يفعل غيرهم من الطوائف

 بل إذا صحت لهم عنه رواية حكوها
عنه وإن عدوها شاذة إذا خالفت ما رواه أصحابه عودة إلى زيادة الثقة

 فإذا كان هذا في نقل مذاهب العلماء مع أنه يجوز بل يقع منهم الفتوى بالقول ثم يفتون بغيره لتغير اجتهادهم
وليس في رواية من انفرد عنهم بما رواه ما يوجب غلطه إذ قد يوجد عنهم اختلاف الجواب
في كثير من المسائل فكيف بأئمة الحديث مع
رسول الله الذي لا يتناقض ولا يختلف كلامه “

أقول : فتأمل كيف نزل ابن القيم قواعد العلل على كلام الأئمة ، فجعل انفراد
رجل عنهم من دون جميع أصحابه المعروفين يكون مستنكراً ، ولو كان الناقل لها إماماً
ثبتاً ، إذا لم يكن من أصحابه المعروفين بالملازمة ، ولا يوجد في أخبارهم ما يعضد خبره

وهذا قريب مما قررته في ( تحرير معنى المنكر عند أئمة النقد ) ، من أن
انفراد الضعيف عن مثل سفيان بن عيينة أو الزهري أو عمرو بن دينار يكون مستنكراً ، وربما
استنكر بعض انفرادات الثقات بمثل هذا ، بالقيود التي قدمنا ذكرها

وقال ابن القيم في الفروسية ص292 :” فإن راويه مجهول العين والحال
لا يعرف اسمه ولا نسبه ولا حاله إلا أنه رجل من بني مخزوم ومثل هذا لا يحتج بحديثه
باتفاق أهل الحديث وأيضا فإن هذا الحديث منكر

 فإن هذا المجهول تفرد به من بين أصحاب أبي الزناد كلهم مع اعتنائهم بحديثه
وحفظهم له فكيف يفوتهم ويظفر به مجهول العين والحال “

أقول : فتأمل كيف جعل رواية المجهول منكرة ، واستدل لنكارتها بانفراد هذا
المجهول من دون أصحاب أبي الزناد كلهم ، وهو كثير الأصحاب جداً ، وهو ممن يجمع حديثه
، وعادة كثيرٍ من المعاصرين في مثل هذا أن يضعفوا السند ثم يجعلونه صالحاً للاعتبار
في الشواهد والمتابعات

هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم