قال علي ملا قاري الحنفي _ وقد نشأ نشأة ماتردية صوفية _ في مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح معلقاً على طعن ابن حجر الهيتمي في ابن تيمية وابن القيم :” صانهما الله عن هذه السمة الشنيعة والنسبة الفظيعة، ومن طالع شرح منازل السائرين لنديم الباري الشيخ عبد الله الأنصاري الحنبلي – قدس الله تعالى سره الجلي – وهو شيخ الإسلام عند الصوفية حال الإطلاق بالاتفاق، تبين له أنهما كانا من أهل السنة والجماعة، بل ومن أولياء هذه الأمة، ومما ذكر في الشرح المذكور ما نصه على وفق المسطور هو قوله على بعض صباة المنازل، وهذا الكلام من شيخ الإسلام يبين مرتبته من السنة، ومقداره في العلم، وأنه بريء مما رماه أعداؤه الجهمية من التشبيه والتمثيل على عاداتهم في رمي أهل الحديث والسنة بذلك، كرمي الرافضة لهم بأنهم نواصب، والنواصب بأنهم روافض، والمعتزلة بأنهم نوائب حشوية، وذلك ميراث من أعداء رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في رميه ورمي أصحابه، بأنهم صراة قد ابتدعوا دينا محدثا، وهذا ميراث لأهل الحديث والميمنة من نبيهم بتلقيب أهل الباطل لهم بالألقاب المذمومة، وقدس الله روح الشافعي حيث يقول، وقد نسب إليه الرفض:
إن كان رفضا حب آل محمد … فليشهد الثقلان أني رافضي
ورضي الله عن شيخنا أبي عبد الله بن تيمية حيث يقول:
إن كان نصبا حب صحب محمد … فليشهد الثقلان أني ناصبي
وعفا الله عن الثالث حيث يقول:
فإن كان تجسيما ثبوت صفاته … وتنزيهها عن كل تأويل مفتر
فإني بحمد الله ربي مجسم … هلموا شهودا واملئوا كل محضر
ثم بين في الشرح المذكور ما يدل على براءته من التشنيع المسطور، والتقبيح المزبور، وهو ما نصه: إن حفظه حرمة نصوص الأسماء والصفات بإجراء أخبارها على ظواهرها، وهو اعتقاد مفهومها المتبادر إلى أفهام العامة، ولا نعني بالعامة الجهال، بل عامة الأمة، كما قال مالك رحمه الله، وقد سئل عن قوله تعالى: {الرحمن على العرش استوى} [طه: 5] كيف استوى؟ ، فأطرق مالك رأسه حتى علاه الرحضاء، ثم قال: الاستواء معلوم، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة.
فرق بين المعنى المعلوم من هذه اللفظة، وبين الكيف الذي لا يعقله البشر، وهذا الجواب من مالك – رحمه الله – شاف عام في جميع مسائل الصفات من السمع والبصر والعلم والحياة والقدرة والإرادة والنزول والغضب والرحمة والضحك، فمعانيها كلها معلومة، وأما كيفيتها فغير معقولة، إذ تعقل الكيف فرع العلم بكيفية الذات وكنهها، فإذا كان ذلك غير معلوم، فكيف يعقل لهم كيفية الصفات؟ والعصمة النافعة من هذا الباب أن يصف الله – بما وصف به نفسه: ووصف به رسوله من غير تحرير ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، بل يثبت له الأسماء والصفات، وينفي عنه مشابهة المخلوقات، فيكون إثباتك منزها عن التشبيه، ونفيك منزها عن التعطيل، فمن نفى حقيقة الاستواء فهو معطل، ومن شبهه باستواء المخلوقات على المخلوق فهو مشبه، ومن قال: هو استواء ليس كمثله شيء فهو الموحد المنزه اهـ كلامه. وتبين مرامه، وظهر أن معتقده موافق لأهل الحق من السلف وجمهور الخلف، فالطعن الشنيع والتقبيح الفظيع غير موجه عليه ولا متوجه إليه، فإن كلامه بعينه مطابق لما قاله الإمام الأعظم، والمجتهد الأقدم في فقهه الأكبر ما نصه: ” وله تعالى يد ووجه ونفس، فما ذكر الله في القرآن من ذكر الوجه واليد والنفس فهو له صفات بلا كيف، ولا يقال إن يده قدرته أو نعمته ; لأن فيه إبطال الصفة، وهو قول أهل القدر والاعتزال، ولكن يده صفته بلا كيف، وغضبه ورضاه صفتان من صفاته بلا كيف اهـ”
الكلام واضح وعبد الله الأنصاري الذي قال أنه شيخ الإسلام بلا منازع عند الصوفية هو صاحب ذم الكلام الذي نقل فيه تكفير الأشعرية عن أكثر من ألف شيخ وهو مشهور بالجلالة حتى أن السجزي راوي صحيح البخاري يعرف نفسه ب( خادم أبي إسماعيل الهروي ) والجويني على أشعريته يترضى عليه وقد عبد قبره بعد وفاته بهراة إلى يومنا هذا وأهلها إذا ذكروا بلدهم افتخروا وقالوا بلدنا بلد الخواجة عبد الله الأنصاري وفقط في عصرنا وفي هذا المحيط صار هذا الرجل محتقراً غاية أقواله خارجة عن حيز الاعتبار مع أنه ما طعن أحد في روايته وهو نظير الشيخ عبد القادر الجيلاني المشهود له بالولاية والكرامات عند الجميع حتى عبده كثير من جهمية عصرنا وهو في كتبه مثل الغنية يكفرهم بأصنافهم
وقال اللكنوي الحنفي في النافع الكبير لمن يطالع الجامع الصغير :”:
(ومن نظر بعين الإنصاف وغاص في بحار الفقه والأصول، متجنباً عن الاعتساف، يعلم علماً يقيناً: أن أكثر المسائل الفرعية والأصلية التي اختلف فيها العلماء، فمذهب المحدثين فيها أقوى من مذاهب غيرهم. وإني كلما أسير في شعب الاختلاف أجد قول المحدثين فيه قريباً من الإنصاف. فلله درّهم، وعليه شكرهم! كيف لا، وهم ورثة النبي -صلى الله عليه وسلم-، حقاً، ونواب شرعه صدقاً. حشرنا الله في زمرتهم، وأماتنا على حبهم وسيرتهم”
وقال ابن أبي العز الحنفي في رسالته الاتباع ردا على حنفي آخر في تفضيله لأبي حنيفة على بقية الأئمة وأنه لا يترك إلا المنسوخ أو المردود :” أيضا فإن الأحاديث كلها ناسخها ومنسوخها لم تجمع في زمن أبي حنيفة رحمه الله ولقد رحل أهل الحديث في جمعها في زمن أبي حنيفة وبعده حتى جمعوها ودونت وهذا مسند الإمام أبي حنيفة الذي خرجه البخاري موجود رويناه مع جملة تيسر روايته من كتب الحديث ومسند الإمام أحمد أكبر منه بلا ريب بأضعاف كثيرة وكذلك موطأ مالك أكبر منه ومسند الشافعي أيضا وقد ألف غيرهم من أهل الحديث من السنن والمسانيد مؤلفات عديدة”
وقال أيضاً :” وإنما قولنا رواه البخاري ة ومسلم كقولنا رواه القراء السبعة والقرآن منقول بالتواتر لم يختص هؤلاء السبعة بنقل الشيء منه
وكذلك التصحيح لم يقلد أهل الحديث فيه البخاري ومسلما بل جمهور ما صححاه وما كان قبلهما عند أئمة الحديث صحيحا متلقى بالقبول وكذلك في عصرهما وبعده وقد نظر أئمة هذا الفن في كتابيهما ووافقوهما على تصحيح ما صححاه إلا مواضع يسيرة نحو عشرين حديثا غالبها في مسلم إنتقدها عليهما طائفة من الحفاظ وقد انتصر طائفة لهما وطائفة قررت قول المنتقد والصحيح التفصيل”
وهذا تقرير نفيس غاية ويصلح للرد على كثير من التشغيبات المعاصرة وقد قاله في معرض الرد على طعونات بعض أهل الرأي على أهل الحديث
قال ابن الوزير اليماني ( وهو زيدي وتحرر بآخره ) في العواصم والقواصم :” وكذلك حديثُ معاوية بن أبي سفيان، فإني ما أعلم أنه قد مرَّ لي في فقه الفُقهاء، ولا مذاهب المحدثين في التحليلِ والتحريم مسألةً ليس لهم فيها حُجَّةٌ إلا حديثَ معاوية وروايتَه، وفي عدمِ ذلك، أو نُدرته ما يدّلُّكَ على ما ذكرنا من أن جلَّة الرواة هُمْ عيونُ الصحابةِ المشاهير لا جُفاةُ الأعراب المجاهيل، فدع عنك هذه الشبَه الضعيفة والمسالِكَ الوعرة. وإما أن يكون من أهل العلم المجدِّدين لما دَرَسَ من آثاره، المجتهدين في الرَّد على من أراد خفضَ ما رفع الله مِن مناره، وإلا فباللهِ أرحنا من تعفيتك لِرسومه، وتغييرك لوجهه، فحديثُ رسولِ الله – صلى الله عليه وسلم – ركنُ الشريعة المطهرة المحروسة إلى يوم القيامة وليس يَضُرُّ أهلَ الإسلام جهالةُ بعضِ الأعراب، فلنا عن حديثهم غُنيةٌ بما رواه عليٌّ بن أبي طالب، وأبو بكر، وعثمان، وعَمَرُ، وطلحة، والزبيرُ، وسعدُ بن أبي وقاص، وأبو عبيدة بنُ الجراح، وعبدُ الرحمن بنُ عوف، وسعيدُ بنُ زيد، هؤلاء العشرةُ المشهود لهم بالجنة -رضي الله عنهم- وبعدَهم من لا يُحصى كثرةً من نبلاء المهاجرين والأنصار، والذين اتَّبَعوهم بإحْسَانٍ مثل الإماميْن الكبيريْنِ سيِّدَيْ شبابِ أهلِ الجنة الحسنِ والحسينِ -عليهما السلام- وأمَّهما سيدةِ نساء العالمين -رضي الله عنها-، وعمّارُ بنُ ياسر، وسلمانُ الفارسي، وخزيمةُ بنُ ثابت ذو الشهادتين، وأنسُ بن مالك خادمُ رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وعائشةُ أُمُّ المؤمنين -رضي الله عنها-، وحَبْرُ الأمَّةِ عبد اللهِ بن العباس، ووالدُه العباس عمُّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وأخوه الفضلُ -رضي الله عنهم-، وجابرُ بنُ عبد الله، وأبو سعيد الخدريُّ، وصاحبُ السِّواد عبدُ الله بن مسعود، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، والبراءُ بن عازب، وأمُّ سلمة أمُّ المؤمنين، وأبو ذر الغِفاريُّ الذي نصّ -عليه السلام- أنّه لم تُظِلَّ السَّماءُ أصْدَقَ لهجةً منه، وعبدُ الله بن عمرو الذي أَذِنَ له -عليه السلامُ- في كتابة حديثه الشريف، فكتب ما لم يكتبْه غيرُه ” ثم بقي يسرد مشاهير رواة الصحابة وهذا الكتاب فيه دفاعات عظيمة عن السنة النبوية على هنات للمصنف
وقال بدر العيني الحنفي وهو ماتردي في تقريظ الرد الوافر :” لا شك أن الشيخ الإمام العالم تقي الدين أبا العباس احمد بن عبد الحليم ابن عبد السلام المشهور بابن تيمية الحراني الحنبلي كان من العلم والدين والورع على جانب عظيم وكان ذا فنون كثيرة ولا سيما علم الحديث والتفسير والفقه وغير ذلك وله تصانيف شتى وكان سيفا صارما على المبتدعين وكانت له مواعيد حسنة وكان كثير الذكر والصوم والصلاة والعبادة وكان أمارا بالمعروف نهاء عن المنكر ونكب في آخر عمره نكبات وجرت عليه أمور في مسائل تكلم بها فأخذ علماء دمشق عليه ورفعوا أمره إلى نائب الشام تنكز فاعتقلوه يوم الإثنين السادس من شعبان المكرم عام ست وعشرين وسبع مئة بقلعة دمشق وكان في قضيته تلك وإفتائه بحبسه قاضي القضاة بدر الدين ابن جماعة والقاضي شمس الدين الحريري وتوفي في الحبس ليلة الإثنين المسفر صباحها عن عشرين من ذي القعدة من سنة ثمان وعشرين وسبع مئة وكانت جنازته مشهورة”.