درس في الإخلاص والوفاء وأدب الطلب

في

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

درس في الإخلاص والوفاء وأدب الطلب …

كتاب بدائع الفوائد لابن القيم فيه أبحاث لغوية نفيسة غاية لا تجدها مجتمعة في مكان آخر والكتاب لا يعطى حقه إلا بمدراسة متأنية بين عدة من طلبة العلم النابهين
غير أن فيه مقطعاً مؤثراً جداً أعتبره درساً في الإخلاص والوفاء وأدب الطلب

قال ابن القيم في بدائع الفوائد (1/108_109) ط دار الكتاب العربي :
ولا يتسع المقام لبسط هذا فإنه يطول ويدق جدا حتى تسكع عنه أكثر الأفهام وتنبو عنه للطافته
فإنه ينشأ من جوهر الحرف تارة وتارة من صفته ومن اقترانه بما يناسبه ومن تكرره ومن حركته وسكونه ومن تقديمه وتأخره ومن إثباته وحذفه
ومن قلبه وإعلاله إلى غير ذلك من الموازنة بين الحركات وتعديل الحروف وتوخي المشاكلة والمخالفة والخفة والثقل والفصل والوصل
وهذا باب يقوم من تتبعه سفر ضخم وعسى الله أن يساعد على إبرازه بحوله وقوته
ورأيت لشيخنا أبي العباس بن تيمية فيه فهما عجيبا كان إذا انبعث فيه أتى بكل غريبة ولكن كان حاله فيه كما كان كثيرا يتمثل:
تألق البرق نجديا فقلت له … يا أيها البرق إني عنك مشغول.
انتهى

هنا ابن القيم في معرض تبيانه لفائدة لغوية دقيقة وكتابه مليء بمثل هذا ، تذكر شيخه وأنه منه تعلم هذا الأمر أو بداياته
وقد كان يمكنه أن يسكت عن مثل هذا حتى يظن الظان أن الأمر من اجتهاد ابن القيم المحض وذكائه الخالص .
ولكنه آثر التنويه بشيخه مما قد يجعل كل فائدة تذكر في الكتاب يقول فيها المرء (لعلها من شيخه)
ومع ذلك حمله الإخلاص – نحسبه كذلك والله حسيبه – والوفاء لشيخه أن ينوه به

وما اكتفى بذلك حتى سبق إلى ذهنه اعتراض قد يذكره بعض محبيه فيقول :
ولكن لك الفضل على شيخك بأنك جمعت وصنفت في هذا وهو ما فعل ذلك

فجاء ابن القيم بالاعتذار له فذكر بيت الشعر :
تألق البرق نجديا فقلت له … يا أيها البرق إني عنك مشغول

يعني أن ابن تيمية كان مشغولاً عن مثل هذه الأمور بما هو أهم فقدم الاعتذار قبل الاعتراض
وأحال الأمر منقبة لشيخه واستل نفسه من المديح كما تستل الشعرة من العجين

وكذا فليكن الوفاء وأدب الطلب والشكر لأهل الفضل
وهذا حال من تأدب بأدب الوحي

وأما الْيَوْم فقد تصدر كثيرون في مواقع التواصل للحديث في المعضلات وما عندهم كبير ديانة ولا أدب
فكان حالهم على النقيض من هذا
وكثرت الشكايات من بعضهم من كثرة ما يسطو على جهود الخلق !
وهو لا يحفل ما دام عداد المشتركين في القناة يزيد يوما بعد يوم

وما ذكره ابن القيم من علم الشيخ باللغة وإتيانه بالفوائد العجيبة لم ينفرد به ابن القيم بل الذهبي أيضاً نوه به في مرثيته للشيخ قال

وإن يخض نحو سيبويه يفه … بكل معنى في الفن مخترع

وما ذكره من انشغال الشيخ وازدحام الأمور عليه هو كان يقوله الشيخ شخصياً
قال البزار في الأعلام العلية :
والتمست منه تأليف نص في الفقه يجمع اختياراته وترجيحاته ليكون عمدة في الافتاء
فقال لي ما معناه : الفروع امرها قريب ومن قلد المسلم فيها احد العلماء المقلدين جاز له العمل بقوله ما لم يتيقن خطأه
وأما الاصول فإني رأيت أهل البدع والضلالات والأهواء كالمتفلسفة والباطنية والملاحدة والقائلين بوحدة الوجود والدهرية والقدرية والنصيرية
والجهمية والحلولية والمعطلة والمجسمة والمشبهة والراوندية والكلابية والسليمية وغيرهم من أهل البدع
قد تجاذبوا فيها بأزمة الضلال
وبان لي أن كثيرا منهم إنما قصد إبطال الشريعة المقدسة المحمدية الظاهرة العلية على كل دين
وأن جمهورهم أوقع الناس في التشكيك في أصول دينهم
ولهذا قل ان سمعت أو رأيت معرضاً عن الكتاب والسنة مقبلا على مقالاتهم إلا وقد تزندق
أو صار على غير يقين في دينه واعتقاده
فلما رأيت الأمر على ذلك بان لي أنه :
يجب على كل من يقدر على دفع شبههم وأباطيلهم وقطع حجتهم وأضاليلهم أن يبذل جهده ليكشف رذائلهم ويزيف دلائلهم
ذبا عن المللة الحنيفية والسنة الصحيحة الجلية
ولا والله ما رأيت فيهم أحدا ممن صنف في هذا الشأن وادعى علوم المقام الا وقد ساعد بمضمون كلامه في هدم قواعد دين الاسلام.انتهى

ومع ذلك ذكر صاحب التحرير أن الشيخ مجتهد مطلق في الفقه وما تنازع الحنابلة في هذا قبل هذا العصر العجيب
وفتاويه في الفقه واختياراته متداولة بين الناس .
وقد أفرد في التصنيف بعض مهمات المسائل كمثل رسالته في نكاح التحليل
فصار شأنه كشأن إمامه أحمد ما صنف في الفقه تصنيفاً جامعاً وإنما أفتى فتاوى كثيرة فصارت هذه الفتاوى لما جمعت بمنزلة التصنيف الجامع

وأما ما ذكره عن أهل الكلام والفلسفة :
فشأنهم شان الحداثيين اليوم وما قاله فيهم حق الحق مهما سهل المسهلون
والحال الحداثية حال تشترك معها في المعنى غير أنها متناسبة مع هذا العصر وما يقبعون تحته من انتكاسات فكرية وأخلاقية….