درس في الأصول من يحيى بن سعيد القطان – رحمه الله –

في

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

قال صالح بن أحمد في مسائله عن أبيه [  871 ]:

 قَالَ أبي سَأَلت عبد الرَّحْمَن
بن مهْدي عَمَّا يرْوى عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه كَانَ إِذا بعث بِالْهَدْي
لم يمسك عَن شَيْء يمسك عَنهُ الْمحرم وَعَن قَوْله إِذا دخل الْعشْر وَأَرَادَ أَن
يُضحي فَلَا يَأْخُذ من شعره وَلَا من بشره فَلم يجبني عبد الرَّحْمَن بِشَيْء وَسكت
.

فَسَأَلت يحيى بن سعيد فَقَالَ :

 لهَذَا وَجه وَلِهَذَا وَجه قَالَ
وَلِهَذَا أَمْثَال وَأَشْبَاه فِي السّنَن :

نهى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حكيما أَن يَبِيع مَا لَيْسَ عِنْده
وَأذن فِي السّلم وَالسّلم بيع مَضْمُون إِلَى أجل فَلَو رد أحد الْحَدِيثين بِالْآخرِ
فَيَقُول قد نهى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن بيع مَا لَيْسَ عنْدك وَالسّلم
بيع مَا لَيْسَ عنْدك فَهُوَ مَرْدُود لم يجز ذَلِك وَيُعْطى هَذَا وَجهه وَذَلِكَ
وَجهه فَيجوز السّلم وَلَا يجوز أَن يَبِيع مَا لَيْسَ عِنْده .

وَنهى عَن الصَّلَاة بعد الْعَصْر وَقَالَ من أدْرك من صَلَاة الْعَصْر
رَكْعَة قبل أَن تغرب الشَّمْس فقد أدْركهَا فَلهَذَا وَجه وَلِهَذَا وَجه لَا يبتدىء
صَلَاة بعد الْعَصْر مُتَطَوعا فَإِذا أدْرك رَكْعَة من عصر يَوْمه فقد أدْرك وَكَذَلِكَ
لَو ذكر صَلَاة عصر فَاتَتْهُ صلاهَا بعد مَا يُصَلِّي الْعَصْر لقَوْله من نَام عَن
صَلَاة أَو نَسِيَهَا فليصلها إِذا ذكرهَا .

وَقَوله من بَاعَ شَاة مصراة فصاحبها بِالْخِيَارِ إِن شَاءَ أمْسكهَا
وَإِن شَاءَ ردهَا وصاعا من تمر وَقَوله الْخراج بِالضَّمَانِ فَلهَذَا وَجه وَلِهَذَا
وَجه إِذا اشْترى الشَّاة أَو النَّاقة الْمُصراة فحلبها فَإِن أَرَادَ ردهَا ورد مَعهَا
صَاعا من تمر .

وَإِذا اشْترى عبدا فاستغله ثمَّ وجد بِهِ عَيْبا كَانَ لَهُ الْغلَّة
بِالضَّمَانِ فَلهَذَا وَجه وَلِهَذَا وَجه.

 وَمِنْه قَول النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم لفاطمة بنت أبي حُبَيْش إِذْ سَأَلته فَقَالَت إِنِّي أسْتَحَاض فَلَا
أطهر أفأدع الصَّلَاة فَقَالَ إِنَّمَا ذَلِك عرق وَلَيْسَ بالحيضة فَإِذا أَقبلت الْحَيْضَة
فدعي الصَّلَاة وَإِذا أَدْبَرت فأغسلي عَنْك الدَّم وَصلي وَقَالَ للَّتِي لَهَا أَيَّام
مَعْلُومَة اجلسي قدر مَا كَانَت تحبسك حيضتك

وَقَالَ لحمنة إِذْ قَالَت إِن دمي يثج فَقَالَ لَهَا تحيضي فِي علم الله
سِتا أَو سبعا لِأَنَّهَا وصفت من دَمهَا مالم تصف فَاطِمَة فَحكم لكل وَاحِدَة مِنْهُمَا
بِحكم فلهذه مَا قَالَ لَهَا ولهذه مَا قَالَ لَهَا .

وَلَا تضرب الْأَحَادِيث بَعْضهَا بِبَعْض يعْطى كل حَدِيث وَجهه.

أقول : من أهم فوائد علم أصول الفقه ما يعطيه لدارسه من ملكة في الجمع
بين الأخبار التي يتوهم فيها التعارض إما من باب العام والخاص أو المطلق والمقيد أو
المجمل والمفصل أو الناسخ والمنسوخ

وكلام القطان هذا يدل على أن المحدثين كانوا فقهاء أيضاً ، وأن الشافعي
لم يكن منفرداً في هذا الباب في تلك الطبقة ، ويدل على عناية المحدثين بالمتون ، وموضوع
كتاب مختلف الحديث للشافعي في هذا الباب

فالقطان أرشد الإمام أحمد إلى أن يستعمل العام والخاص ، ويحمل ما رآه معارضاً
لعموم نص آخر على خصوص الصورة التي ورد فيها الخبر

فمثلاً السلم تعجيل للثمن وتأجيل للمثمن ، ومن نظر إليه مجرداً ظنه من
باب بيع ما ليس عنده إذ أن السلعة ليست حاضرة ، ولكن السلم خصص في النص بأمور وأنه
لا بد أن يكون في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم

فكان بهذه القيود خارجاً عن الصورة المحرمة من بيع ما ليس عنده ، وبعضهم
فسر النهي عن بيع ما ليس عندك بأنه بمعنى لا تبع ما لا تملك وفي السلم البائع يملك
المبيع

وأيضاً مثل البحث في حديث المصراة ، فإن أهل الرأي عارضوه بحديث ( الخراج
بالضمان ) ووجه المعارضة أن في حديث المصراة الإلزام بإعادة الحليب المحلوب عند إعادة
الشاة ، وحديث الخراج بالضمان ظاهره أنه لا يلزمه فإن اللبن شربه بمنزلة الخراج الذي
يستحقه لضمانه هذه الشاة وإيوائها في رحله

وهذا من ضيق عطن أهل الرأي فإن حديث الخراج بالضمان أصلاً مختلف في صحته
وقد ضعفه الإمام أحمد وأبو حاتم ، وهو الصواب

فكيف يعارض الحديث الصحيح بخبر ضعيف

ثم على فرض صحته كان حديث ( الخراج بالضمان ) لا يشمل الشاة المحلوبة ،
وإنما يشمل العبد الذي تكون غلته لمالكه وإن كان هذا المالك مشترياً غبن فأرجعه ووجه
ذاك أن الخراج بالضمان

وصورة هذا أن يشتري رجل عبداً عاملاً له غلة يعطيها لسيده ، فلما اشتراه
ظهر له فيه عيب موجب للرد بعد أن أخذ غلته يوماً أو يومين فأرجعه إلى سيده الأول فليس
للسيد الأول أن يطالب بغلة عبده في تلك الأيام لأن الخراج بالضمان

وهذه الفتيا من القطان تدل على براءته من مذهب أهل الرأي الذي نسب إليه
زوراً

وعلى هذا لا يتعجل المرء في ادعاء التعارض بين الأحاديث التي صححها أهل
العلم ، بل حتى بعض الأخبار الضعيفة لو صحت فلا تعارض الثابت ولأهل الحديث جهود طيبة
في الجمع بين الأخبار ودفع اعتراضات المتكلمين وأهل الرأي

من ذلك ما كتب الشافعي في مختلف الحديث ، وما كتب ابن قتيبة في تأويل مختلف
الحديث ، ولابن خزيمة عناية كبيرة بهذا ، وكذلك لتلميذه ابن حبان في صحيحيهما

على أن المرء إذا رأى المحدثين حكموا على خبر بالنكارة لمخالفته الأخبار
الأخرى فلا يتكلف الجمع البارد ليصحح ما ضعفه الأئمة

 هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم