خطأ شائع عند بعض المشتغلين بالحديث في تعريف المتروك
كنت قد ذكرت في ردي على بعض المنحرفين أن العدالة الظاهرة بمعنى سلامة المرء من المفسقات والتي يقابلها العدالة الباطنة المتعلقة بتحري الصدق في رواية الحديث والتي فوقها أمر الضبط
قلت أن العدالة الظاهرة أمر هين يعلمه أهل العصر وأن الأصل فيمن يحمل عنه الحديث أنه تحلى بهذا الأمر وهو لا يكفي لقبول حديثه ولا لبيان سلامته من الآفات الباطنة التي يكشفها النقاد
فإن الناس إذا حملوا الحديث أو وضعوا إنساناً في وظيفة دينية فإن الأصل فيهم أن يبتعدوا أن المجلودين في الحدود والفساق مظهري الفسق وهذا أمر مشاهد إلى يومنا هذا
وأن الفاسق إذا اشتغل بهذه الأمور كانت تلك من الطرف التي يدونها الجميع ويذكرونها على جهة الاستغراب والاستهجان مع ما يحصل بين المحدثين من التعاير والتنافس فإذا ظهر النقص في شيوخ أحدهم استعلى عليه الآخرون
وهذه العدالة الظاهرة ثبوتها أمرها هين وليست كل شيء بل لا بد من ثبوت الضبط والذي ثبوته يدل تلقائياً على ثبوت العدالة الظاهرة دون العكس والضبط يعرف بالسبر والاختبار الذي كان يمارسه الأئمة
علماً أنه لا توجد سنة تقف على رجل أو رجلين من ناحية العدالة والضبط بل عامة السنن ثابتة من طرق عديدة مع فتاوى الصحابة وإجماعات أهل العلم أو حتى وجود نظائر في الشريعة
فخذ مثالاً حديث تحريم الجمع بين المرأة وعمتها عليه إجماع وأحد طرقه فقط مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة . وهذا هو أصح الأسانيد عن أبي هريرة فرواته أشهر المشاهير بكل خير
ولكن القوم لما أشبعت قلوبهم ببغض الشريعة صاروا يحاولون التشويش عليها بأي طريقة
فكان مما اعترض به على كلامي رواية بعض الثقات عن ضعفاء وهذا اعتراض من لم يفهم فأنا ما نفيت رواية الثقات عن الضعفاء فالضعفاء أصلاً عدول ضبطهم ضعيف
غير أن الاعتراض يأتي برواية الثقات عن المتروكين والكذابين
مع اعتماد قول ابن حجر في نزهة النظر :” وَالقسمُ الثَّاني مِن أَقسامِ المَردودِ: -وهو ما يكون بسببِ تُهمة الراوي بالكذب- هو المتروك”
وترجم بعض المعاصرين هذا المعنى فقال المتروك من اتهم بالكذب في حديث الناس ! وهذا معنى ما قال به متقدم بهذا الحصر
والواقع أن المتروك ليس متهماً بالضرورة بل قد يكون رجلاً صالحاً بل قد يكون بريئاً من الكذب عند عامة العلماء ولكنه كثير الأوهام الغليظة فاستحق الترك والضعيف يهم ولكن أهون منه لذا تعريف ابن حجر فيه نظر شديد
وإليك أمثلة تبين هذا الإشكال
1_ خارجة بن مصعب
وَقَال أَبُو حات: مضطرب الحديث، ليس بقوي، يكتب حديثه ولا يحتج بِهِ، مثل مسلم بْن خالد الزنجي، لم يكن محله محل الكذب.
وَقَال عَبْد الرَّحْمَنِ بْن يُوسُف بْن خراش، والحكم أَبُو أحمد: متروك الحديث.
وكذلك نفى عنه ابن عدي تعمد الكذب
2_ الحسن بن علي النوفلي الهاشمي
وَقَال عَمْرو بْن علي : رجل صالح، صدوق، كثير الخطأ والوهم، متروك الحديث.
فنص على صلاحه وأنه صدوق ومتروك أيضاً
وقال الكلمة نفسها في جعفر بن الزبير
3_ إسحاق بن يحيى بن طلحة
نص غير إمام على أنه متروك وقال الترمذي : ليس بذاك القوي عندهم، وقد تكلموا فِيهِ من قبل حفظه.
فلاحظ كيف أن الترك استفيد من النظر في محفوظاته وسبر مروياته
4_ أبان بن أبي عياش
قَال أبو حاتم الرازي : متروك الحديث، وكان رجلا صالحا، ولكنه بلي بسوء الحفظ.
فعلل الحكم عليه بالترك بأمر في حفظه
5_ يزيد بن أبان الرقاشي
وهو زاهد معروف كان متروكاً على صلاحه الظاهر ومثله صالح المري
ونعم هناك من المتهمين بالكذب من وصفوا بالترك فالأمر متقارب ولكن الإشكال في الحصر وكون الراوي كذاباً له طريقان منها كذبه في حديث الناس وهذا الذي في العادة يكشفه العوام فضلاً عن الخواص فلا يلتفت إليه
ومنهم من يكذب في الحديث مع كونه يظهر الصلاح والكذب هذا إما يكون متعمداً وأحياناً لغرض ديني مثل تأييد مذهب على مذهب أو ترقيق قلوب العامة وفي هذه الحال يلحق هذا البحث بالعدالة الباطنة التي تعرف بطرق الخواص والتي منها السبر بخلاف أمر العدالة الظاهرة فهذا أمر يعرفه حتى العامي المسلم وإذا كان الناس دققوا أشد التدقيق في أمر العدالة الباطنة والضبط حتى سقط حديث الكثير من الرجال الصالحين فهل يعقل أن يحمل الحديث عن مجاهيل عدالة ظاهرة ويسكت الناس على ذلك
قال مسلم في مقدمة صحيحه وحدثني محمد بن أبي عتاب، قال: حدثني عفان، عن محمد بن يحيى بن سعيد القطان، عن أبيه، قال: «لم نر الصالحين في شيء أكذب منهم في الحديث» قال ابن أبي عتاب: فلقيت أنا محمد بن يحيى بن سعيد القطان، فسألته عنه، فقال: عن أبيه، «لم تر أهل الخير في شيء أكذب منهم في الحديث». قال مسلم: ” يقول: يجري الكذب على لسانهم، ولا يتعمدون الكذب “
وقال يعقوب الفسوي في المعرفة والتاريخ قال إبراهيم بن المنذر: فذكرت هذا الحديث لمطرف بن عبد الله اليساري» [1] مولى زيد بن أسلم فقال: ما أدري ما هذا، ولكني أشهد لسمعت مالك بن أنس يقول: لقد أدركت بهذا البلد- يعني المدينة- مشيخة لهم فضل وصلاح وعبادة يحدثون ما سمعت من واحد منهم حديثا قط. قيل: ولم يا أبا عبد الله؟ قال: لم يكونوا يعرفون ما يحدثون.
ولاحظ أن كل الكذابين والمتروكين تكلم الناس فيهم في عصرهم وبعد عصرهم سواء انطلاقاً من السبر أو دراسة الأحوال وهذا إن دل على شيء يدل على أن سكوتهم على جرح الراوي مع توافر حديثه وانتشاره يدل على استقامته في الغالب
فما بالك وتجدهم يوثقونه فيأتي مسكين ويقول لا هو مجهول ! لأنني لم أعرف عدالته الظاهرة ! كيف لم تعرف عدالته الظاهرة أتريد نصاً من شخص : فلان لم يكن يزني ويسرق ويكذب علينا !! . هذا كان متوفراً في عموم الناس وإنما كانوا يبحثون في الوصف الأعلى وكما قلت جهالة العدالة الظاهرة في الشخصيات المعروفة مستحيلة لأنها ظاهرة فإما أن يعرف بعدالة أو فسق ولهذا كانوا إذا شهدوا عند قاضي يقول ائتي بمن يعرفك
فالجهالة تكون نسبية بالنسبة لبعض الناس وليس لكل أهل العصر فما بالك بمن يحمل عنه الحديث ويشتهر بهذا الأمر ولاحظ عامة هؤلاء المتروكين تكلم بهم معاصرون لهم مما ينقض دعوى الخصم من حيث أراد تشييدها
بل هو لا يعتبر حتى رواية من لا يروي إلا عن ثقة عاضداً لتعديل الراوي ( حتى لو نص أنه لا يروي إلا عن ثقة في كتبه كما فعل مالك ) ومن البينات ما هو قوي مقبول إلا أن يعارضه ما هو أقوى منه فتعديل العالم لراوي أو رواية الإمام الذي لا يروي إلا عن ثقة معتبرة إلا أن يأتي معارض مكافيء ويعارضها وإلا فخلوها من المعارض مع توفر الداعي له يدل على صحة الدعوى
وكل هذا التشويش لإنكار أحاديث تواترت معنوياً مثل أحاديث الرجم وتحريم الجمع بين المرأة وعمتها وأخبار الردة وغيرها وقد رواها مشاهير مشاهير الرواة.