خداعهم للعامة في قولهم: التوسل ليس بشرك
يغري طلبةَ العلم الحديثُ في المسائل الدقيقة والفوائد المستحسنة بين الخواص، وهذا يجعلهم يبتعدون عن توضيح الأمور الواضحة عند طلبة العلم للعامة.
فيستغلُّ ذلك أهل البدع ويلبِّسون على العوام متاجرين بجهلهم.
رأيت عدة مقاطع لصوفية يُعنوَن لها بأن التوسل ليس شركًا أو ليس بشرك.
من يقرأ هذه العناوين يتصوَّر أن الذين يُنكِرون التوسل يقولون بأنه شرك، وهذا تدليس وإيهام.
فالتوسل بالأولياء أو الأنبياء عند عامة من ينكِرونه بدعة، وصيغته أن تدعو الله عز وجل بجاه صالح أو نبي فتقول (اللهم إني أسألك بجاه فلان) أو (اللهم إني أسألك بفلان)، فأركانه أربعة: (صيغة التوسل) و (المتوسِّل) -بكسر السين أي فاعل التوسل- والمتوسَّل به -بفتح السين- والمتوسَّل إليه وهو رب العالمين سبحانه.
وهذا عند من يُنكِره غايته أن يكون بدعة، وهي التي كتب فيها ابن تيمية كتابه [قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة] وبيَّن أن عامة أدعية السلف خالية من هذا النوع من التوسل، وناقش أدلة من قال بمشروعيته، وهم على قسمين: قسم يجوِّزه في حق النبي صلى الله عليه وسلم فقط، وقسم يعمِّمه في كل الأولياء.
وأما الاستغاثة فهي أن تسأل الولي مباشرة، ولا يوجد فيها سؤال لله عز وجل، وصيغتها أن يقول (مدد يا فلان ويا فلان أغثني).
وأركانها ثلاثة: مستغيث ومستغاث به وصيغة استغاثة.
وهذا عند من ينكِره شرك لأنه دعاء لغير الله، وكان السلف يستدلون على الجهمية القائلين بأن أسماء الله مخلوقة بقوله تعالى: {فلا تدعوا مع الله أحدًا} وحديث “أعوذ بكلمات الله التامات” ويقولون إنه لا يُستغاث ولا يُستعاذ بمخلوق، فعُلِم أننا حين ندعو الله بأسمائه فنحن لا ندعو مخلوقًا.
وهي التي كتب فيها ابن تيمية كتابه [الاستغاثة في الرد على البكري].
وقد كان عامة السلفيين يفرِّقون بين الأمرين، فإيهام العوام أنهم يسوُّون بين الأمرين شأنهم شأن القبورية نوع من التلبيس.
قال عبد الرحمن بن حسن في [كشف ما ألقاه إبليس]: “وما ذكره من توسل آدم، وحكاية المنصور، فجوابهما من وجهين:
أحدهما: أن هذا لا أصل له، ولا تقوم به حجة، ولا إسناد لذلك.
الثاني: لو دل على التوسل بذاته فلا يدل على الاستغاثة“.
وكرر هذه الكلمة كثيرًا في رده على ابن جرجيس.
وقال ابنه عبد اللطيف في [منهاج التأسيس]: “هذا المنع جهل صرف وتخليط محض، لا يصدر عمن يتصور ما يقول، فإن السؤال في الاستغاثة والتوسل، والسائل جعل الاستغاثة توسلًا، فرد عليه الشيخ وكذبه؛ وجزم بأن هذا لا يعرف في لغة أحد من الأمم“.
وقال نعمان الآلوسي في [جلاء العينين] مبيِّنًا الفرق: “وبالجملة لو تكلم في مسألة التوسل بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وغيره في الدعاء لكان كلامه فيها من جنس كلام العلماء، فإنها تحتاج إلى أدلة شرعية من جانب النفي والإثبات لعدم ظهور الحكم فيها.
وأما الاستغاثة بالمخلوق بأن يطلب منه كل ما يطلب من الخالق، أو بأن يطلب من الغائب أو الميت ما يطلب من الحي الحاضر – فهذا ليس مما يخفى على عموم المؤمنين فضلًا عن علمائهم، وإن وقع في كثير من ذلك مَن وقع من العامة ونحوهم ممن فيه زهد وصلاح دين“.