حين يتعقب الأغمار الأئمة الكبار

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

من المشاكل التي تواجهنا في زماننا هذا أن بعض الناس بدأ يخوض في بعض الأبحاث الدقيقة ولما يتأهل بعد ويتجرأ على الأئمة لأنه يخوض في سياقات مناكفية

فمن ذلك كلام بعض المساكين في نقد كلمة ابن تيمية في الكلام ( قديم النوع حادث الآحاد )

وهو لم يفهمها فابن تيمية صرح بأنه إنما يريد من هذه الكلمة قول أئمة السلف ( لم يزل الله متكلما إذا شاء )

قال ابن تيمية نفسه في الفتاوى :” وإن كان مع ذلك قديم النوع – بمعنى أنه لم يزل متكلما إذا شاء”

وهذه الكلمة رويت عن أحمد في كتاب الرد على الزنادقة وجهمية ففيه بالنص قوله ( لم يزل الله متكلما إذا شاء )

في الإبانة الكبرى لابن بطة 496 من رواية حنبل قال أبو عبد الله : {وكلم الله موسى تكليما} ، فأثبت الكلام لموسى كرامة منه لموسى، ثم قال بعد كلامه {تكليما} : قلت لأبي عبد الله: يكلم عبده يوم القيامة؟ قال: نعم، فمن يقضي بين الخلق إلا الله؟ يكلم الله عبده ويسأله، الله متكلم، لم يزل الله يأمر بما شاء ويحكم، وليس لله عدل ولا مثل كيف شاء وأنى شاء

لم يزل متكلما تساوي قديم النوع

اذا شاء تساوي حادث الآحاد

قال ابن مندة الحنبلي في كتاب التوحيد : ذكر ما يستدل به من الكتاب والأثر أن الله لم يزل متكلما آمراً ناهياً لمن شاء من خلقه بما شاء

وقد ذكر أبو بكر عبد العزيز في كتاب “الشافي” عن أصحاب أحمد في معنى أن القرآن مخلوق قولين مبنيين على هذا الأصل:
أحدهما: أنه قديم لا يتعلق بمشيئته وقدرته.
وثانيهما: أنه لم يزل متكلمًا إذا شاء

وأصل المسألة أن أهل السنة يقولون أن الله عز وجل يفعل ما شاء متى شاء وأما الجهمية فينكرون الصفات الفعلية ويسمونها ( حلول حوادث )

ولهذا كلهم عن بكرة أبيهم أنكروا أن يكون القرآن كلام الله غير مخلوق منه ابتدأ

ففرقة منهم وهم الجهمية والمعتزلة قالوا أن القرآن هذا مخلوق وليس صفة الله وعليه ما فيه مما يسمونه سمات الحدوث _ من كون الكلام فيه تقديم وتعاقب يدل على المشيئة _ أمره هين لأنه في مخلوق

وفرقة أخرى وهم الأشاعرة والماتردية يوافقون الأوائل على تنزيه الله فيما يزعمون من الأفعال الاختيارية وأثبتوا لله كلاماً ليس هو الكلام المعروف الذي هو حروف وصوت بل قالوا هو كلام نفسي ليس لغة ولا حرف ولا صوت وهو معنى واحد ( كل هذا هروباً من إثبات كلام متعلق بالمشيئة ) وأما القرآن الذي في المصحف فهو حكاية عن كلام الله وهو مخلوق

فكل الفرق متفقة على أن الكلام بحرف وصوت ووجود جمل لها بداية ونهاية يدل على إثبات الأفعال الاختيارية

وهذا ما التزمه ابن تيمية وقال أن أصل إثبات الأفعال الاختيارية ثابت عن السلف واحتج بنقل حرب إثبات الحركة ( ويعني به الفعل الاختياري ) عن السلف جميعاً وفيهم أحمد وما في النصوص من إثبات الأفعال الاختيارية وقد كان عدد من الحنابلة يقولون القرآن قديم ويريدون غير مخلوق ولا يريدون نفي الفعل الاختياري فتسلط عليهم المعطلة وسخروا منهم حتى نسبوا إليهم القول بقدم المداد وقالوا كيف يثبتون كلاماً هو حروف متتابعة وصوت وجمل لها أول وآخر ثم تقولون قديم ( والقديم هو الذي لا بداية ) فاستخدم الشيخ مصطلح يدفع توهم المعطلة وصرح أنه لا يريد إلا ما أراد أحمد حين قال ( لم يزل الله متكلماً إذا شاء ) أي أن الله عز وجل يتكلم بكلام متعلق بالمشيئة وكل كلام له بداية ونهاية _ فقد تكلم بالتوراة في زمن ثم تكلم في القرآن في زمن آخر _ وجنس الكلام لا بداية له ولا نهاية مثل وجوده سبحانه وهذا نحو ما روي عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى : ( وكان الله سميعاً بصيراً ) قال لم يزل كذلك

في جلاء العينين : وقد قال الإمام أحمد وغيره من الأئمة: لم يزل الله عز وجل متكلماً إذا شاء، وهو يتكلم بمشيئته وقدرته، يتكلم بشئ بعد شئ، كما قال تعالى {فلما أتاها نودي يا موسى} [طه 11] فناداه حين أتاها لم يناده قبل ذلك.

وفي الرد على الجهمية : ولا نقول إنه كان ولا يتكلم حتى خلق الكلام. ولا نقول أنه قد كان ولا قدرة له حتى خلق لنفسه قدرة ولا نقول أنه قد كان ولا عظمة له حتى خلق لنفسه، عظمة وفي خلق أفعال العباد للبخاري : ولقد بين نعيم بن حماد أن كلام الرب ليس بخلق وأن العرب لا تعرف الحى من الميت إلا بالفعل، فمن كان له فعل فهو حى ومن لم يكن له فعل فهو ميت، وأن أفعال العباد مخلوقة ( وأفعال الخالق غير مخلوقة بل هي صفة له وصفاته ليست مخلوقة اتفاقاً ) ، فضيق عليه حتى مضى لسبيله، وتوجع أهل العلم لما نزل به.

وبعض المعطلة يطلق محدث على القرآن ويريد أنه مخلوق لأنه أصلاً يعتقد أن الله عز وجل لا يفعل فعلاً اختياراً والفعل الاختياري عنده حدوث

قال حرب الكرماني: سمعت إسحاق يقول: من قال: إن القرآن محدث على معنى مخلوق؛ فهو كافر باللَّه الغني العظيم. ( وقد خرج الشيخ من كل الاشكالات بتلك الكلمة التي سبكها للتفهيم قديم النوع حادث الآحاد وهي بمعنى لم يزل متكلما إذا شاء ).