حديث المسلسل بالأولية وقصة موسى والخضر

في

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

اشتهر عند المحدثين أنهم يلقنون طلبتهم في أول سماع الطلبة منهم حديث المسلسل بالأولية وهو حديث «الراحمون يرحمهم الرحمن ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء».

قال أبو طاهر السلفي في «المشيخة البغدادية»: “٥٩-أخبرنا أبو محمد بن السراج، وهو أول حديث سمعته منه، حدثني أبو نصر عبيد الله بن سعيد بن حاتم السجزي الحافظ، بمكة، وهو أول حديث سمعته منه، أنا أبو يعلى حمزة بن عبد العزيز المهلبي، وهو أول حديث سمعته منه، أنا أبو حامد أحمد بن محمد بن يحيى، وهو أول حديث سمعته منه، نا عبد الرحمن بن بشر بن الحكم، وهو أول حديث سمعته منه، نا سفيان بن عيينة، وهو أول حديث سمعته من سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن أبي قابوس، مولى لعبد الله بن عمرو بن العاص، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء». وقال لي: لما دخلت مصر حضرت مجلس أبي إسحاق الحبال، فأخرج إلي هذا الحديث، وكان يرويه عن أبي نصر، فقلت: هو سماعي منه”.

والتسلسل ينقطع عند سفيان بن عيينة فهو من سن هذه السنة أنه يبدأ إسماع طالبه هذا الحديث، وتبعه تلميذه عبد الرحمن هذا، وتسلسل الأمر.

وقد تأملت كثيراً في صنيعه حتى ارتبط الأمر في ذهني في قوله تعالى في الخضر {آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علماً} [الكهف].

وحال الخضر وموسى هو حال الأستاذية والتلمذة، وكذا حال المحدِّث مع تلاميذه، فما داعي ذكر الرحمة هنا؟

داعي ذكر الرحمة متناسب مع ذكر العلم الذي ذُكر في حال الخضر والذي يشدوه التلميذ عند أستاذه.

وفي بداية تلاوة الوحي الذي فيه كل علم نقرأ (بسم الله الرحمن الرحيم)، وفي الفاتحة نتلو {الرحمن الرحيم}.

وذلك أن الرحمة التامة إنما تأتي بالعلم التام المستفاد من الوحي.

فالخضر خرق السفينة وذلك عند الناس خلاف الرحمة؛ وكانت تلك الرحمة حقاً لمَّا علِمنا العلة من ذلك.

والخضر قتل الغلام وذلك عند الناس خلاف الرحمة ولكن لمَّا عُلم مآل ذلك؛ كان الأمر هو الرحمة.

والخضر أقام الجدار وذلك عند الناس رحمة؛ ولكنه كان عقوبةً لأهل القرية ورحمةً بالغلامين.

وهكذا الوحي يبصِّرك بمواطن الرحمة الخفية، فتأمل أن الناس اليوم يرون الإعدام خلاف الرحمة ولكنه هو الرحمة والحياة، كما قال تعالى: {ولكم في القصاص حياة} [البقرة].

الناس يبصرون الرحمة في علاج المريض، ولكنهم غالباً لا يبصرون الرحمة في قتل القاتل (وقد يكون في ذلك إنقاذ حياة العشرات أو المئات).

وعلى هذا فقس، بل إن عامة الأمور المستحسنة في الوحي إنما تتم وتنتشر بين الناس بالأشياء غير المستحسنة، كالجهاد؛ والعقوبات؛ والبراء من المخالف، وغيرها.

فأهل الحديث من مقاصدهم في تلقين هذا الحديث بيان أنك الآن إذا بدأت سماع الحديث؛ فأنت ستفهم الرحمة كما ينبغي، لأنه لا رحمة إلا بالعلم وإلا كانت ليناً مفسداً.