قال المستشرق الروسي فاسيلي بارتولد في كتابه «تاريخ الترك في آسيا الوسطى» [صـ70-71]: “فإن الإسلام دين عالمي بمعنى الكلمة، أي: إنه ليس مقصورا على جنس أو قومية، ولئن كانت بعض الديانات قد بذّت الإسلام في هذه الناحية فإن توفيقها كان مؤقتا، ولم تستطع الحصول على نتائج دائمة كالتي أحرزها الإسلام، فالديانة المانوية مثلا كانت في وقت ما دينا عالميّا وكان أتباعها منتشرين في أماكن تمتد من جنوب فرنسا إلى الصين، ولكن هذه الخاصية لم تمنع المانوية من الاضمحلال الكامل، وقد بدأت البوذية نشاطها في الغرب فانتشرت هنالك، ولكنها في نهاية الأمر ظلت دينا للشعوب المتحضرة في شرق آسيا فقط. ثم يمضي بارتولد في سوق الأدلة والأمثلة على تفوق الإسلام على كل الأديان فيقول: وفي التاريخ أمثلة كثيرة كثيرة لأمم بوذية ومسيحية، تركت ديانتها ودخلت في الإسلام، ولكننا لا نجد أمة إسلامية واحدة تخلّت عن دينها ودخلت في البوذية أو المسيحية”.
تأمَّل قوله: “ولكننا لا نجد أمة إسلامية واحدة تخلّت عن دينها ودخلت في البوذية أو المسيحية”.
أحسب أن من المعاني المطبوعة في العقل الأوروبي أنهم فشلوا في تنصير الشعوب الإسلامية، وقد نصَّروا غيرهم أو نشروا النصرانية نشراً عظيماً، وهذا ليس حباً في النصرانية نفسها في كثير منهم، ولكن العقل الأوروبي المتغطرس يفضِّل النصرانية من باب أنها اختيار غربي، فحتى مع انتشار اللادينية فيهم تراهم يعظِّمون المفاهيم النصرانية الأخلاقية بحسب القراءة الغربية، وإن لم يُسمُّوها كذلك.
وكلام هذا المستشرق يذكرني بقول هرقل في حديث أبي سفيان: “وسألتك أيرتد أحد سخطةً لدينه بعد أن يدخل فيه، فذكرت أن لا، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشتُه القلوب”.
فحتى الردة التي وقعت بعد وفاة النبي ﷺ لم تكن إلى دين آخر، وإنما تحريف في الدين الإسلامي نفسه، وهنا تأتي فائدة العلم.
وتوجد حالات ردة ولكنها قليلة جداً، وفي زماننا كثرت الردة إلى الإلحاد الصريح أو اللادينية، ولكنه أمر بدأ ينحسر بقوة.
والأمر -بعد تأمُّل كبير- عائد إلى منهجية التفكير، فالناس عندهم منهجيتان:
الأولى: منهجية من يقارن الدين بأمر مثالي في ذهنه، هذا الأمر تحقُّقه في الواقع مستحيل، وعادةً يكون صاحب هذا التفكير يؤمِّل فردوساً أرضياً، وهذا ينتشر في الملاحدة الصرحاء والنسويات الغاليات.
وسبب انتحار هذا الصنف يأسه من الحياة بسبب المثالية الزائدة في ذهنه.
وربما يخدِّر نفسه بإفراط شهواتي يعطيه شيئاً مما يظن، أو يعيش في مواقع التواصل خيالاً يصنعه، وربما يتعايش مع الدراما والأنمي أكثر من الواقع.
وهؤلاء قلة في الناس، ولكنهم يُحدثون إرباكاً لكثيرين.
الثانية: منهجية من يقارن بين الأديان، وعنده طرق للمقارنة، فمنهم من يقارن بحسب النظر للإله، فهذا تؤثِّر فيه صفات الجلال والجمال، ومنهم من يقارن بحسب الشريعة والمنافع للناس أو بحسب ما يقدِّمه الدين من عزاء للبشر ودعم نفسي.
ومنهم من يريد العدل الأخروي ويركز على ذلك، لأنه يرى الدنيا ليست دار عدل، فهذا فرقه عن الأول أنه يحاكم الواقع بدلاً من الهروب إلى الخيال والأوهام، هذا باعتبار الأفراد.
ومنهم من ينظر إلى فائدة الدين باعتباره هوية جامعة للأمة مؤاخية بينهم، حاملة لهم على التضحية في سبيل الأمة المشتركة بأكثر مما يجمعهم العرق والمصالح.
وهناك فئة خلطت بين المنهجيتين، فآمنت بأفكار مثالية غير واقعية، مبنية على طلب فردوس أرضي كالنسوية والعالمانية، ولم يُرِد التفريط بالدين، فهؤلاء الذين أنتجوا فكرة تجديد الخطاب الديني والقراءات الجديدة، فهؤلاء بمنزلة أهل الردة الذين ارتدوا بعد وفاة النبي ﷺ مع بقائهم يشهدون الشهادتين، فهؤلاء جدَّدوا القراءة للدين، فحذفوا ما لم يعجبهم مع إبقائهم عليه، فلم يعودوا للوثنية صراحة.
فسبب أن الناس لا يرتدون عن الإسلام لدين غيره هو ظهور بطلان الوثنية والتثليث والثنوية أمام التوحيد، وعدمية الإلحاد وعبثية البوذية.
ولكن البلاء حقاً والذي قد يُضلُّ جبلاً كثيراً هو تحريف الأديان، فما قاله هرقل لم يتعارض مع حصول الردة، فهرقل كان يتحدث عن تركٍ للإسلام ورجوع للوثنية أو النصرانية، وما حصل بعد وفاة النبي ﷺ كانت فتنة تحريف الدين، ومن هنا عرفت خطورة البدع التي هي مدرج تحريف الشرع مهما صغرت.