جواب ابن تيمية عن قوائم علماء الأشاعرة

في

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

جواب ابن تيمية عن قوائم علماء الأشاعرة

من الطرق الدعائية التي يسلكها دعاة الأشعرية أنهم يسردون أسماء مجموعة من مشاهير المؤلفين الذين اعتقادهم أشعري (وقد يدخلون في القوم ما ليس منهم)، وهذه طريقة يسلكها أيضاً من يريد التهوين من الخلاف معهم وإن لم يكن أشعرياً.

وكنت قد أجبت عن هذا، وأجاب غيري بعدة أجوبة، محصلها بأن العبرة بالسلف وأن كل ما عند الخلف من خير إنما أخذوه من السلف، وأنه كما يوجد هؤلاء فإنه يوجد لهم مخالفون، وأن المذكورين ليسوا على عقيدة واحدة، وأن العلماء مراتب فالمجتهد بألف مقلد ولو اشتهروا، وقد شهد عدد من الأشعرية فضلاً عن غيرهم بمخالفة السلف لهم، وأن عامة تصانيف المتأخرين هي تقريب وترتيب لعلوم الأوائل، وقد أدخل فيها ما لا يليق بالعلم، والمحقق من المتأخرين من صان العلم من ذلك.

هذه هي الخلاصة ولتفصيلها مقام غير هذا، غير أنني وجدت لشيخ الإسلام كلاماً حسناً يصلح في التعقيب على تلك القوائم أذكره هنا:

قال ابن تيمية في التسعينية (1/196) : “الوجه السادس:
أنه لو فرض جواز التقليد أو وجوبه في مثل هذا، لكان لمن يسوغ تقليده في الدين كالأئمة المشهورين الذين أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم، وهذا القول لم يقله أحد ممن يسوغ للمسلمين تقليده في فروع دينهم، فكيف يقلدونه في أصول دينهم التي هي أعظم من فروع الدين، فإن هذا القول وإن قاله طائفة من المنتسبين إلى مذاهب الأئمة الأربعة، فليس من قائليه من هو من أئمة ذلك المذهب الذين لهم قول متبوع بين أئمة ذلك المذهب، فإن أصحاب الوجوه من أصحاب الشافعي، كأبي العباس بن سريج، وأبي علي بن أبي هريرة، وأبي سعيد الإصطخري، وأبي علي بن خيران، والشيخ أبي حامد الإسفراييني، ونحو هؤلاء ليس فيهم من يقول هذا القول، بل المحفوظ عمن حفظ عنه كلام في هذا ضد هذا القول، وغايته أن يحكي عن مثل أبي المعالي الجويني، وهو أجل من يحكي عنه ذلك من المتأخرين، وأبو المعالي ليس له وجه في المذهب، ولا يجوز تقليده في شيء من فروع الدين عند أصحاب الشافعي، فكيف يجوز أو يجب تقليده في أصول الدين؟”.

هنا ابن تيمية وهو يخاطب شافعية أشعرية دعوه لترك اعتقاد العلو، فقال لهم أنه لا يعلم أحداً ممن يصح تقليده في الأصول أو الفروع قال بهذه المقالة إن جاز التقليد!

وعادة بعض من يزعم أنه على طريقة الشيخ إذا ذكر له الكلام في نفاة العلو قال: “ما تركوا أحداً ومن يبقى لنا؟”

فتقول: يبقى لك من يصح تقليده في الأصول والفروع وهذا ما يراد بلفظ ( الإمام )، فالشيخ نبههم على أن العلماء مراتب، وأنه بلا خلاف المجتهد وإن لم تكثر مؤلفاته أفضل ممن هو دونه ولو كان أشهر عند العامة، وأن أصحاب الوجوه أفضل من غيرهم ولو كانوا أشهر عند العامة، لأن هؤلاء هم الأصل وما سواهم فرع عنهم.

ولو نظرت في عموم العلوم النافعة لوجدت أصلها عند أئمة أهل السنة، ويوجد لغيرهم مشاركات تفريعية ما فيها من خير هو تفريع على أصول أهل السنة.

وقال ابن تيمية في بيان تلبيس الجهمية (3/ 471) : “وهذا قول الكلابية وأئمة الأشعرية، وطوائف لا يحصون من الفقهاء وأهل الحديث والصوفية من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، كالقاضي أبي يعلى؛ وأبي الوفاء بن عقيل؛ وأبي الحسن بن الزاغوني وغيرهم، بل قد ذكر الأشعري أن هذا قول أهل السنة وأصحاب الحديث، فقال: وقال أهل السنة وأصحاب الحديث ليس بجسم ولا يشبه الأشياء وأنه على العرش. وقد تقدم قوله في ذلك وقول غيره، وهؤلاء طوائف عظيمة وهم أجلّ قدرًا عند المسلمين ممن قال إنه ليس على العرش، فإن نفاة كونه على العرش لا يعرف منهم إلا من هو مأبون في عقله ودينه عند الأمة، وإن كان قد تاب من ذلك، بل غالبهم أو عامتهم حصل منهم نوع ردة عن الإسلام وإن كان منهم من عاد إلى الإسلام كما ارتد عنه قديمًا”.

هنا الشيخ ينبه على أن متقدمي الأشعرية والكلابية يثبتون العلو، وقد أثبت العلو معهم عامة أهل الحديث والفقهاء والصوفية الأوائل، وهؤلاء بلا خلاف أجل قدراً من المتأخرين وأعظم عدداً وعدة.

وكثير من قوائم الأشعرية تجدها تشمل المتقدمين والمتأخرين منهم مع عدم التنبيه على المخالفات، فعلى سبيل المثال الباقلاني يذكر تأويل اليد والوجه في صفات المعتزلة ويجعلها من فضائحهم، فسواءً حملت قوله على الإثبات أو التفويض هو لا يكون مذهباً واحداً مع من يحرف هذه الصفات بتحريف المعتزلة لأنه يضللهم.

والكثير من الباحثين إذا وجدوا كلمة لابن تيمية في مدح بعض متقدمي الأشعرية مدحاً مقيداً فإنه يدخل المتأخرين في الأمر وهذا غلط، فهؤلاء عند الشيخ بينهم خلاف في أصل كبير وهو العلو، وهذا عند الشيخ أعظم من اختلاف الناس في القرآن والصفات الفعلية.

وقال الشيخ كما في مجموع الفتاوى (3/169) : “والإمام أحمد إنما هو مبلغ العلم الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، ولو قال أحمد من تلقاء نفسه ما لم يجئ به الرسول لم نقبله، وهذه عقيدة محمد، وقلت مرات: قد أمهلت كل من خالفني في شيء منها ثلاث سنين فإن جاء بحرف واحد عن أحد من القرون الثلاثة – التي أثنى عليها النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: “{خير القرون القرن الذي بعثت فيه ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم} – يخالف ما ذكرته فأنا أرجع عن ذلك وعلي أن آتي بنقول جميع الطوائف – عن القرون الثلاثة توافق ما ذكرته – من الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنبلية، والأشعرية، وأهل الحديث، والصوفية، وغيرهم”.

والشيخ هنا يقصد مسألة العلو، وعليه فأي ذم لمنكر العلو من تكفير أو غيره قد سلم منه الجماهير الذين يذكرهم ابن تيمية، فلا يقال للمشدد على منكر العلو (ما ترك أحداً) وقد جمع الذين تحدث عنهم ابن تيمية الذهبي في العلو والعرش، وابن القيم في اجتماع الجيوش، وابن المحب في الصفات.

فكيف بقوم زادوا على إنكار العلو القبوريات وشطحات متأخري الصوفية، أولئك أبعد غوراً.