توضيح ما ورد عن بعض السلف من قولهم « أبو جيفة »

في

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

فقد نسب إلي بعضهم أنني أقول عن أبي حنيفة «أبو جيفة»، وهذا غير صحيح كل
ما في الأمر أنني درست كتاب السنة لعبد الله بن أحمد وكان من ضمن الدرس فصل أبي حنيفة
، وكان همي أثناء التعليق بيان منهج السلف في الشدة على المخالف وأنهم لم يكن عندهم
موازنات ، وأنهم كانوا يشتدون على المخالف وإن كان فاضلاً _ عند المخالف _، وكنت أنبه على رجوعه عن
القول بخلق القرآن _ ثم تبين لي أن هذا الرجوع غير ثابت _ ، وذكرت ما قاله شيخ الإسلام في منهاج السنة من أنه غلط عليه في
عدة مسائل منها مسألة الخنزير البري.

وكنا من ضمن ما قد مررنا عليه أثر حماد بن سلمة لما قال فيه «أبو جيفة»ولا
أذكر ما علقت به على الأثر، فذهب بعض أهل الكذب يزعم أنني قلت هذه الكلمة ولو أنصف
لقال (قالها حماد بن سلمة).

قال عبد الله بن أحمد في السنة 288 – حدثني هارون بن سفيان ، حدثني الوليد
بن صالح ، سمعت حماد بن سلمة ، إذا ذكر أبو حنيفة قال: «ذاك أبو جيفة» قال وبلغني أن
عثمان البتي، كان يقول : «ذاك أبو جيفة».

وحماد بن سلمة هذا إمام جليل قال يحيى بن معين من رأيته يتكلم في حماد
بن سلمة فاتهمه على الإسلام فلا شك عندي أن هذه الكلمة صدرت منه ديانةً وهي من جنس
قول سفيان والأوزاعي (ما ولد مولود أشأم على الإسلام من أبي حنيفة)، ثم إن كلمة حماد
هذه نقلها إمام جليل وهو عبد الله ابن الإمام أحمد في السنة وكذا نقلها الخطيب البغدادي
في تاريخ بغداد والشيخ الوادعي في كتابه نشر الصحيفة، فإذا جعلنا هذه الكلمة بدعة
أو ضلالة لزمنا الطعن في حماد بن سلمة وهؤلاء الناقلين جميعاً

 وقد قالها أيضاً الإمام الحميدي؛
قال الخطيب في تاريخه (15/ 558) : أَخْبَرَنَا ابن رزق، قَالَ: أَخْبَرَنَا عثمان بن
أَحْمَد، قَالَ: حَدَّثَنَا حنبل بن إسحاق، قال: سمعت الحميدي، يقول لأبي حنيفة، إذا
كناه: أَبُو جيفة، لا يكني عن ذاك، ويظهره في المسجد الحرام في حلقته والناس حوله.

وقد صحح الوادعي هذا الخبر في نشر الصحيفة ، والحميدي إنما ولد بعد وفاة
أبي حنيفة خلافاً لمن يزعم أن الكلام فيه انقرض بعد وفاته، فنحن إذا تنكرنا لهذه الآثار
وطعنا في قائليها جرأنا الكوثرية وأمثالهم على الطعن أئمة أهل السنة ، وما ينبغي أن
يأخذنا الرد على أحد من الناس إلى الطعن في حماد بن سلمة والحميدي وعبد الله بن
أحمد والخطيب البغدادي _ فيما أصاب فيه_ ، أو قول ما يستدعي الطعن فيهم بالباطل.

وإذا كان بعض الأخوة يعتبر ذكر كلام بعض السلف قد يستدعي طعناً في المعاصرين
، فيقلب عليه الأمر فيقال أن مثل هذا الكلام يستدعي طعناً في السلف، فإن قيل : أليس
قد اتفق أهل العلم بعد المائة الرابعة أو السادسة على ترك مثل هذا الكلام؟

هذا يستدعي جمع جميع المصنفات التي صنفت في هذه الحقبة وهذا متعذر ، والكتب
التي فيها حكاية المثالب كثيرة وقد وصلتنا إلى يومنا هذا مما يدل على أنها لا زالت
تروى، وانقراض قول ما قاله جمع من الأئمة بعيد ، فلا زالت هناك أقوال ضعيفة بقيت في
الأمة لأنها نسبت إلى بعض الأفاضل كنسبة السدل إلى مالك ونسبة جواز الزواج من ابنة
الزنا للشافعي، وإنما سبب ذلك أن السطوة والحكم كان لأهل الرأي ، فكان يعاقب من يذكر
شيئاً من هذا.

قال ابن رجب في ذيل طبقات الحنابلة (1/ 189): “قال الضياء: وسمعت
الحافظ يقول: كنا بالموصل نسمع الجرح والتعديل للعُقيلي، فأخذني أهل الموصل، وحبسوني،
وأرادوا قتلي من أجل ذكر أبي حنيفة فيه. فجاءني رجل طويل ومعه سيف، فقلت: لعل هذا يقتلني
وأستريح. قال: فلم يصنع شيئاً، ثم إنهم أطلقوني”.

فهذا عبد الغني المقدسي وهو متأخر يقرأ ترجمة الرجل في الضعفاء للعقيلي
فيكاد يقتل،

وجاء في ترجمة الحافظ عبد العزيز النخشبي في سير أعلام النبلاء (18/
269): “وقال يحيى بن مندة: قدم علينا في سنة 433، ضربه القاضي الخطبي، بسبب الامام
أبي حنيفة، ورأيت بعيني علامة الضرب على ظهره”.

يعني بسبب أنه ذكر أقوال السلف في أبي حنيفة.

وقال الذهبي في تاريخ الإسلام: “قال الحاكم: نا أبو أحمد بن أبي الحسن
قال: أرسلني ابن خزيمة إلى أبي العباس السراج فقال: قل له أمسك عن ذكر أبي حنيفة وأصحابه،
فإن أهل البلد قد شوشوا. فأديت الرسالة فزبرني”.

ورحم الله السلف ما تركوا لنا شيئاً نقوله، وما قيل في السراج أنه غالي
أو جاهل أو شيء من هذا، وقال ابن الجوزي في المنتظم وهو متأخر (3/25) :” وبعد
هذا فاتفق الكل على الطعن فيه، ثم انقسموا على ثلاثة أقسام: فقوم طعنوا فيه لما يرجع
إلى العقائد و الكلام في الأصول. وقوم طعنوا في روايته وقلة حفظه وضبطه. وقوم طعنوا
لقوله الرأي فيما يخالف الأحاديث الصحاح”.

وقال ابن عبد البر وهو من كبار المدافعين عنه في الانتقاء ص149:
“كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ اسْتَجَازُوا الطَّعْنَ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ
لِرَدِّهِ كَثِيرًا مِنْ أَخْبَارِ الآحَادِ الْعُدُولِ لأَنَّهُ كَانَ يَذْهَبُ فِي
ذَلِكَ إِلَى عَرْضِهَا عَلَى مَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ مِنَ الأَحَادِيثِ وَمَعَانِي
الْقُرْآنِ فَمَا شَذَّ عَنْ ذَلِكَ رَدَّهُ وَسَمَّاهُ شَاذًّا وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ
أَيْضًا يَقُولُ الطَّاعَاتُ مِنَ الصَّلاةِ وَغَيْرِهَا لَا تُسَمَّى إِيمَانًا وَكُلُّ
مَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ الإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ يُنْكِرُونَ قَوْلَهُ
وَيُبَدِّعُونَهُ بِذَلِكَ وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ مَحْسُودًا لِفَهْمِهِ وَفِطْنَتِهِ”.

وقال  ابن حجر في لسان الميزان (وهو متأخر): “وقال حنبل بن
إسحاق عن أحمد كان أبو يوسف منصفاً في الحديث وأما محمد ابن الحسن وشيخه فكانا مخالفين
للأثر”، وفي رواية (معاندين) للأثر ، وشيخه هو أبو حنيفة، وكذلك ما أورده ابن
عبد الهادي في بحر الدم ، وما ذكره الداني في أرجوزته المنبهة من النهي عن كتابة رأي
أبي حنيفة، ولو جعلنا القائل بالجرح المفسر طاعناً في المعدل ، لتسلط علينا أهل التمييع
، وقالوا كل من يجرح فلان الذي عدله العالم الفلاني طاعن في العالم.

ونكون بذلك قد سلطنا أهل التمييع علينا، وإذا كان بعض إخواننا يرى أنه
لا إنكار في مسألة الانتخابات لقول بعض المعاصرين بها، فهل يجوز الإنكار على من يقول
بقول حماد بن سلمة وسفيان الثوري ومالك وأحمد ابن حنبل وغيرهم بل ادعي عليه الإجماع
لو كنا مصنفين؟

ثم إن هذه الآثار تصلح أن تكون أصلاً مقيساً عليه ، ولو قلنا أن فلاناً
من الناس يسكت عليه للمصلحة فلا يبرر ذلك إطراءه أو الطعن فيمن يتكلم فيه لداع رآه،
على أن أهل الرأي المعاصرين استغلوا هذه المسألة للطعن في أهل العلم المتقدمين فطعن
الكوثري بعدد من أئمة الإسلام لهذه المسألة وكذلك طعن أبو غدة في ابن حبان ونعته بالجنون
لأجل ما قاله في ترجمة أبي حنيفة ، وأيضاً تجرأ بشار عواد وشعيب الأرناؤوطي على اتهام
أهل الحديث بالظلم في تحرير تقريب التهذيب من أجل هذه المسألة.

والواقع أن السلف ما تكلموا إلا عن علم فقد رأوا أصولاً فاسدة تقضي على
السنن كالحيل والقول بأن خبر الواحد إذا خالف القياس لا يقبل والقول بأن خبر الصحابي
غير الفقيه لا يقبل والسخرية من بعض السنن والإرجاء، فاحتملتهم الحمية على الدين وقالوا
ما قالوا، ونحن إن تركنا بعض قولهم فلم نقله مراعاةً للمصلحة كقول مالك الشديد وقول
أبي رزعة وقول شعبة فلسنا نضلل من يقرأ آثارهم أو يجعلها أصلاً مقيساً عليه يستخدمها
عند الحاجة، ولو قال لك مميع ( كيف لا تقبلون الجرح المفسر من أحمد وسفيان والحمادين
وشعبة ومالك وغيرهم ، ثم تلزمون غيركم بما هو دون ذلك ؟)، فما سيكون جوابك ؟

بل تضليل من يأخذ بهذه الآثار ويقول بها صراحة تضليل للسلف واتهام لهم بالظلم أبينا أم رضينا ورفع لأهل البدع عليهم وتسليط لأهل الباطل عليهم 

ولهذا أنا لا أقول (أبو جيفة) غير أنني لا أرى ضيراً في سياق ذكرك لألفاظ
السلف الشديدة كقولهم في أبي ثور (ثور كاسمه) أن تذكر هذه الكلمة في هذا السياق، ولا
يمكننا اليوم أن نزيل ذكر هذا الرجل من كتاب المجروحين لابن حبان والضعفاء للعقيلي
والسنة لعبد الله والعلل له والمعرفة والتاريخ وتاريخ البخاري والتمييز لمسلم وتأويل مختلف الحديث لابن قتيبة ومسائل أحمد وعقيدة الكرماني

وغيرها من الكتب ولا أن نغيب كتاب الوادعي في المسألة، ولا ما  الشيخ بديع السندي في (نقض قواعد التهانوي) وغيرها كثير فلا سياط على
ظهورنا ولا سيوف على أعناقنا ، والأحناف اليوم كثير منهم يرانا وهابية كفار لن يقبل
منا إلا إذا صرنا على مذهبه ، فمثل هذا لا يرجى في مصانعته خير.

على أنني أعلم أن إثارة هذه المسألة ليس مقصوداً لذاته ، وليعلم هذا الشاني
وغيره أنه من أعظم الشرف لنا أن غاية ما تجدون عندنا قولنا (في زعمكم) ببعض آثار السلف
الجبال كحماد بن سلمة الذي كان الطعن فيه علامة بدعة في عصره، فالحمد لله على توفيقه

هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم