فيشيع البعض أن شيخ الإسلام ابن تيمية هون من شأن الخلاف مع مرجئة الفقهاء
ورأى بدعتهم من باب بدع الأقوال ، ثم تذرع هذا المشيع بهذا الكلام لاعتبارهم من أهل
السنة
ولو قرأ كلام شيخ الإسلام كاملاً
ولم يكتفِ بأخذه عن بعض الناس لاتضح له المقام كما ينبغي
قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (7/394) :” وَلِهَذَا لَمْ
يُكَفِّرْ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ أَحَدًا مِنْ ” مُرْجِئَةِ الْفُقَهَاءِ
” بَلْ جَعَلُوا هَذَا مِنْ بِدَعِ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ ؛ لَا مِنْ بِدَعِ
الْعَقَائِدِ
فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النِّزَاعِ
فِيهَا لَفْظِيٌّ لَكِنَّ اللَّفْظَ الْمُطَابِقَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ هُوَ الصَّوَابُ
فَلَيْسَ لِأَحَدِ أَنْ يَقُولَ
بِخِلَافِ قَوْلِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لَا سِيَّمَا وَقَدْ صَارَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً
إلَى بِدَعِ أَهْلِ الْكَلَامِ مِنْ أَهْلِ الْإِرْجَاءِ وَغَيْرِهِمْ وَإِلَى ظُهُورِ
الْفِسْقِ
فَصَارَ ذَلِكَ الْخَطَأُ الْيَسِيرُ فِي اللَّفْظِ سَبَبًا لِخَطَأِ عَظِيمٍ
فِي الْعَقَائِدِ وَالْأَعْمَالِ فَلِهَذَا عَظُمَ الْقَوْلُ فِي ذَمِّ ” الْإِرْجَاءِ
” حَتَّى قَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِي : لَفِتْنَتُهِمْ – يَعْنِي الْمُرْجِئَةَ
– أَخْوَفُ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنْ فِتْنَةِ الأزارقة .
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ : مَا اُبْتُدِعَتْ
فِي الْإِسْلَامِ بِدْعَةٌ أَضَرُّ عَلَى أَهْلِهِ مِنْ الْإِرْجَاءِ .
وَقَالَ الأوزاعي : كَانَ يَحْيَى
بْنُ أَبِي كَثِيرٍ وقتادة يَقُولَانِ : لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ الْأَهْوَاءِ أَخْوَفُ
عِنْدَهُمْ عَلَى الْأُمَّةِ مِنْ الْإِرْجَاءِ .
وَقَالَ شَرِيكٌ الْقَاضِي – وَذَكَرَ
الْمُرْجِئَةَ فَقَالَ – : هُمْ أَخْبَثُ قَوْمٍ حَسْبُك بِالرَّافِضَةِ خُبْثًا وَلَكِنَّ
الْمُرْجِئَةَ يَكْذِبُونَ عَلَى اللَّهِ .
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ
: تَرَكَتْ الْمُرْجِئَةُ الْإِسْلَامَ أَرَقَّ مِنْ ثَوْبِ سابري
وَقَالَ قتادة : إنَّمَا حَدَثَ الْإِرْجَاءُ بَعْدَ فِتْنَةِ فِرْقَةِ
ابْنِ الْأَشْعَثِ .
وَسُئِلَ مَيْمُونُ بْنُ مهران
عَنْ كَلَامِ ” الْمُرْجِئَةِ ” فَقَالَ : أَنَا أَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ لِذَرِّ الهمداني : أَلَا تَسْتَحِي مِنْ
رَأْيٍ أَنْتَ أَكْبَرُ مِنْهُ
وَقَالَ أَيُّوبُ السختياني : أَنَا أَكْبَرُ مِنْ دِينِ الْمُرْجِئَةِ
إنَّ أَوَّلَ مَنْ تَكَلَّمَ فِي الْإِرْجَاءِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مِنْ
بَنِي هَاشِمٍ يُقَالُ لَهُ : الْحَسَنُ .
وَقَالَ زاذان : أَتَيْنَا الْحَسَنَ بْنَ مُحَمَّدٍ فَقُلْنَا : مَا هَذَا
الْكِتَابُ الَّذِي وَضَعْت ؟
وَكَانَ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ
كِتَابَ الْمُرْجِئَةِ فَقَالَ لِي : يَا أَبَا عُمَر لَوَدِدْت أَنِّي كُنْت مُتّ
قَبْلَ أَنْ أُخْرِجَ هَذَا الْكِتَابَ أَوْ أَضَعَ هَذَا الْكِتَابَ فَإِنَّ الْخَطَأَ
فِي اسْمِ الْإِيمَانِ لَيْسَ كَالْخَطَأِ فِي اسْمِ مُحَدِّثٍ ؛ وَلَا كَالْخَطَأِ
فِي غَيْرِهِ مِنْ الْأَسْمَاءِ
إذْ كانت أَحْكَامُ الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةِ مُتَعَلِّقَةً بِاسْمِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَالْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ
“
فكلام شيخ الإسلام فيه مسائل
الأولى : قوله ( أكثر الخلاف لفظي ) ولم يقل كله
الثانية : نصه على أن قول مرجئة الفقهاء صار ذريعة إلى قول مرجئة الجهمية
، وأن هذا سبب ذم السلف لمرجئة الفقهاء
وقد علل المعلمي كلام الأوزاعي وسفيان في أبي حنيفة بنحو من هذا التعليل
قال المعلمي في التنكيل (1/259) :” كان الثوري والأوزاعي كجمهور الأئمة
قبلهما وفي عصرهما يريان الارجاء ورد السنة بالرأي والقول ببعض مقالات الجهمية كل ذلك
ضلالة من شأنها أن يشتد ضررها على الأمة في دينها ودنياها ورأيا صاحبكم واتباعه مخطئين
أو مصيبين جادين في نشر ذلك ولاتزال مقالاتهم تنتشر وتجر إلى ما هو شر منها حتى جرت
قوما إلى القول بأن أخبار الآحاد مردودة مطلقا وآخرين إلى رد الأخبار مطلقا كما ذكره
الشافعي ثم جرت إلى القول بأن النصوص الشرعية لا يحتج بها في العقائد ! ثم إلى نسبه
الكذب إلى أنبياء الله عز وجل وإليه سبحانه كما شرحته في قسم الاعتقاديات .
شاهد الثوري والأوزاعي طرفا من ذلك ودلتهما الحال على ما سيصير إليه الأمر
فكان كما ظنا وهل كانت المحنة في زمن المأمون والمعتصم والواثق إلا على يدي أصحابكم
ينسبون أقوالهم إلى صاحبكم ؟ وفي كتاب ( قضاة مصر ) طرف من وصف ذلك . وهل جر إلى استفحال
تلك المقالات إلا تلك المحنة ؟ وأي ضر نزل بالأمة أشد من هذه المقالات ؟
فأما سقوط مذهبيهما ، فخيرة اختارها الله تبارك وتعالى لهما ، فإن المجتهد
قد يخطئ خطأ لا يخلو عن تقصير ، وقد يقصر في زجر أتباعه عن تقليده هذا التقليد الذي
نرى عليه كثيراً من الناس منذ زمان طويل ، الذي يتعسر أو يتعذر الفرق بينه وبين اتخاذ
الأحبار والرهبان أرباباً من دون الله
فقد يلحق المجتهد كفل من تلك التبعات
، فسلم الله تعالى الثوري والأوازعي من ذلك
فأما ما يرجى من الأجر على الأتباع
في الحق فلهما من ذلك النصيب الأوفر بما نشراه من السنة علماً وعملاً ، وهذه الأمهات
الست المتداولة بين الناس حافلة بالأحاديث المروية من طريقهما وليس فيها لصاحبكم ومشاهير
أصحابه حديث واحد !
وقد قال الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري في ( تاريخه الكبير
) في ترجمة الثوري (( قال لنا عبدان عن ابن المبارك : كنت إذا شئت رأيت سفيان مصلياً
، وإذا شئت رأيته محدثاً ، وإذا شئت رأيته في غامض الفقه . ومجلس شهد ( في التاريخ
الصغير ص 187 : شهدته ) ما صلي فيه على النبي – صلى الله عليه وسلم – . – يعني مجلس
النعمان ))
ولهذه الحكاية طرف في ( تاريخ
بغداد ) و ( تقدمة الجرح والتعديل ) لابن أبي حاتم وغيرهما .
وقد علمنا كيف انتشر مذهبكم ، أولاً أولع الناس به لما فيه من تقريب الحصول
على الرئاسة بدون تعب في طلب الأحاديث مسماعهما وحفظهما والبحث عن رواتها وعللها وغير
ذلك ، إذ رأوا أنه يكفي الرجل يحصل له طرف يسير من ذلك من ثم يتصرف برأيه ، فإذا به
قد صار رئيساً !
ثانياً: ولي أصحابكم قضاء القضاة فكانوا يحرصون على أن لا يولوا قاضياً
في بلد من بلدان الإسلام إلا على رأيهم ، فرغب الناس فيه ليتولوا القضاة ، ثم كان القضاة
يسعون في نشر المذهب في جميع البلدان .
ثالثاً : كانت المحنة على يدي أصحابكم واستمرت خلافة المأمون وخلافة المعتصم
وخلافة الواثق ، وكانت قوى الدولة كلها تحت إشارتهم فسعوا في نشر مذهبهم في الاعتقاد
وفي الفقه في جميع القطار
وعمدوا إلى من يخالفهم في الفقه
فقصدوه بأنواع الأذى الذي
ولذلك تعمدوا أبا مسهر عبد الأعلى بن مسهر عالم الشام وارث فقه الأوزاعي
والإمام أحمد ابن حنبل حامل راية فقه الحديث وأبا يعقوب البويطي خليفة الشافعي وابن
عبد الحكيم وغيره من المالكية بمصر
وفي كتاب ( قضاة مصر ) طرف مما
صنعوه بمصر وفي ذلك يقول الشاعر يمدح قاضيكم بمصر :
ولقد بجست العلم في طلابه … وفجرت منه منابعاً لم تفجر
فحميت قول أبي حنيفة بالهدى … ومحمد واليوسفي الأذكر
وفتى أبي ليلى وقول قريعهم … زفر القياس أخي الحجاج الأنظر
وحطمت قول الشافعي وصحبه … ومقالة ابن علية لم تصحر
ألزقت قولهم الحصير فلم يجز … عرض الحصير فإن بد لك فاشبر
والمالكية بعد ذكر شائع … أخملتها فكانها لم تذكر
ثم ذكر إكراه علماء مصر على القول بخلق القرآن وغير ذلك . راجع كتاب (
قضاة مصر ) ص 452 .
رابعاً : غلبت الأعاجم على الدولة فتعصبوا لمذهبكم لعلة الجنسية في سبيلها
وما فيه من التوسع في الرخص والحيل !
خامساً : تتابعت دول من ألعاجم كانوا على هذه الوتيرة .
سادساً : قام أصحابكم بدعاية لا نظير لها واستحلوا في سبيلها الكذب حتى
على النبي – صلى الله عليه وسلم – ، كما نراه في كتب المناقب .
سابعاً : تمموا ذلك بالمغالطات التي ضرب فيها الكوثري المثل الأقصى في
( التأنيب ) كما شرحت أمثلة من ذلك في ( الطليعة ) وفي هذا الكتاب ، ومر بعضها في هذه
الترجمة نفسها .
فأما النضج الذي يدعيه الأستاذ فيظهر نموذج منه في قسم الفقهات ، بل في
المسألة الأولى منها !
وقد كان خيراً للأستاذ ولأصحابه ولنا وللمسلمين أن يطوي الثوب على غرة
ويقر الطير علي مكناتها ويدع ما في ( تاريخ بغداد ) مدفوناً فيه ويذر النزاع الضئيل
بين مسلمي الهند مقصوراً عليهم ويتمثل قول زهير :
وما الحرب إلا ما علمتم وذتم و … وما هو عنها بالحديث المرجم
متى تبعوها تبعثوها ذميمة … وتضر إذا أضريتموها فتضرم
فتعرككم عرك الرحى بثفالها … وتلقح كشافاً ثم تنتج فتبتسم
فتنتج لكم غلمان اسأم كلهم … كأحمر عاد ثم ترضع فتنفطم
فتغلل لكم مالا تغل لأهلها قرى بالعراق من قفيز ودرهم
وقد جرني الغضب للسنة وأئمتها إلى طرف مما أكره ، وأعوذ بالله من شر نفسي
وسيء عملي ، ( رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالأِيمَانِ
وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ
) ” انتهى كلامه
الثالثة : نقله لكلام السلف في ذم مرجئة الفقهاء وإقراره بل وتبريره له
، فنقل قول يحيى بن أبي كثير وقتادة :”لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ الْأَهْوَاءِ أَخْوَفُ
عِنْدَهُمْ عَلَى الْأُمَّةِ مِنْ الْإِرْجَاءِ “
ونقل قول إبراهيم النخعي :” لَفِتْنَتُهِمْ – يَعْنِي الْمُرْجِئَةَ
– أَخْوَفُ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنْ فِتْنَةِ الأزارقة “
وهذه كلها في مرجئة الفقهاء إذ أن هؤلاء لم يدركوا فتنة الجهمية ، وأما
الكرامية والأشاعرة فتأخروا جداً عن هؤلاء
ثم إن شيخ الإسلام نقل اتفاق السلف على تبديع مرجئة الفقهاء
فقد قال كما في مجموع الفتاوى (10/ 748) :” بِخِلَافِ الْمُرْجِئَةِ
مِنْ الْفُقَهَاءِ الَّذِينَ يَقُولُونَ : هُوَ تَصْدِيقُ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ ؛
فَإِنَّ هَؤُلَاءِ لَمْ يُكَفِّرْهُمْ أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ وَإِنَّمَا بَدَّعُوهُمْ”
وقول شيخ الإسلام ( أكثر الخلاف لفظي ) لا يفهمه هؤلاء الجهلة فإنهم يظنون
أن قولك لفظي يعني كخلاف التنوع أو الخلاف الذي لا ينكر فيه وإنما أراد بقوله هذا أن
أهل السنة ومرجئة الفقهاء متفقون على مآل العصاة فكلهم عند أهل السنة ومرجئة الفقهاء
تحت المشيئة
والعجيب أن من الناس من يثرب على من يسمونهم ب( الحدادية ) الإلزام بتبديع مرجئة
الفقهاء ، ثم هم يلزمون الناس بأنهم من أهل السنة ، ومن قال غير ذلك رموه بالحدادية
وهذا عين الغلو في التبديع فتأمل كيف يصبح المرجيء الذي يرى السيف سنياً ، ويصبح السني
الذي ينكر عليه مبتدعاً !
وقال عبد العزيز بن عبد الله بن باز ـ رحمه الله ـ في تعليقه على
’’العقيدة الطحاوية‘‘ (ص20 ـ ط. دار الوطن):
(( و ليس الخلاف بينهم و بين أهل السنة فيه لفظياً، بل هو لفظي و معنوي،
و يترتَّب عليه أحكام كثيرة يعلمها من تدبَّر كلام أهل السنة و كلام المرجئة، و الله
المستعان )).
فغاير بينهم وبين أهل السنة
هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم