تنبيه دقيق لشيخ الإسلام حول ردود الأشعرية على المعتزلة والملاحدة
قال ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى (7/ 376): “وكما أن القدرية من المعتزلة وغيرهم أخطئوا فيها، فقد أخطأ فيها كثير ممن رد عليهم أو أكثرهم، فإنهم سلكوا في الرد عليهم مسلك جهم بن صفوان وأتباعه، فنفوا حكمة الله في خلقه وأمره، ونفوا رحمته بعباده، ونفوا ما جعله من الأسباب خلقا وأمرا، وجحدوا من الحقائق الموجودة في مخلوقاته وشرائعه، ما صار ذلك سببا لنفور أكثر العقلاء الذين فهموا قولهم عما يظنونه السنة، إذ كانوا يزعمون أن قول أهل السنة في القدر هو القول الذي ابتدعه جهم وهذا لبسطه موضع آخر“.
هنا الشيخ يتكلم عن ردود الأشعرية على المعتزلة القدرية، وأن ردودهم كانت وفقاً لبدع الجهم بن صفوان، وسموا أنفسهم أهل السنة، فنفر كثير من العقلاء من السنة، بسبب أن القوم نسبوا إليها مقالات الجهم في نفي الحكمة والتعليل والقول بالجبر، وهي مقالات ينفر منها العاقل أكثر من نفوره من مقالات القدرية.
ولبيان قصد الشيخ ينظر قوله في الرد على المنطقيين: “بل هؤلاء ذكروا أن نفي ذلك هو من البدع التي حدثت في الإسلام في زمن أبي الحسن الأشعري لما ناظر المعتزلة في القدر بطريقة الجهم بن صفوان ونحوه من أئمة الجبر، فاحتاج إلى هذا النفي، قالوا وإلا فنفي الحسن والقبح العقليين مطلقا لم يقله أحد من سلف الأمة ولا أئمتها، بل ما يؤخذ من كلام الأئمة والسلف في تعليل الأحكام وبيان حكمة الله في خلقه وأمره وبيان ما فيما أمر الله به من الحُسن الذي يُعلم بالعقل، وما في مناهيه من القبح المعلوم بالعقل ينافي قول النفاة“.
وقال الشيخ في النبوات: “وأما الأشعري: فالمعروف عنه، وعن أصحابه: أنّهم يُوافقون جهماً في قوله في الإيمان، وأنّه مجرّد تصديق القلب، أو معرفة القلب. لكن قد يظهرون مع ذلك قول أهل الحديث، ويتأولونه، ويقولون بالاستثناء على الموافاة؛ فليسوا موافقين لجهم من كل وجه، وإن كانوا أقرب الطوائف إليه في الإيمان، وفي القدر أيضاً؛ فإنه رأس الجبرية؛ يقول: ليس للعبد فعل البتة
والأشعري يوافقه على أنّ العبد ليس بفاعل، ولا له قدرة مؤثرة في الفعل، ولكن يقول: هو كاسب“.
وقد سمى الرازي بالجهمي الجبري.
ونص الشيخ الذي ذكرته في بداية المقال يُستفاد منه عدة أمور، منها:
أولها: أن ردود الأشعرية على المعتزلة ليست محل مدح بشكل مطلق، وهذا ينعكس على ردودهم على البراهمة فقد استخدموا أصولهم في القدر تجاههم.
وكل حوار مع الملاحدة ينطلق فيه المتكلم من أصوله في الصفات والقدر، ولهذا لا يمكن أن يوجد منهاج مُوحَّد بين كل المنتسبين للملة للرد على الزنادقة.
ثانيها: أن التسامح مع الطوائف الكلامية المنحرفة يؤدي إلى تشويه الدين ونفور العقلاء منه إذا ظنوا أن مقالات المتكلمين هي الإسلام أو السنة، ومقالاتهم في حقيقتها مخالفة للنصوص والفطرة.
وقال ابن تيمية في منهاج السنة وهو يتكلم عن الجبرية (ومنهم الأشعرية): “والآثار المروية في ذم القدرية تتناول هؤلاء أعظم من تناولها المنكرين للقدر تعظيما للأمر وتنزيها عن الظلم، ولهذا يقرنون القدرية بالمرجئة لأن المرجئة تضعف أمر الإيمان والوعيد، وكذلك هؤلاء القدرية تضعف أمر الله بالإيمان والتقوى ووعيده، ومن فعل هذا كان ملعونا في كل شريعة كما روي: لعنت القدرية والمرجئة على لسان سبعين نبيا“.
أقول: وقد اجتمع الإرجاء والجبر الموجب للعن في كل شريعة في الأشعرية كما تقدم في كلام الشيخ، وأن هذا يضعف الشرع في قلوب الناس، فالجبر والإرجاء يضعفان الأمر والنهي والوعد والوعيد.
فكيف إذا أضيف إلى هذا القول بمقالة في القرآن والرؤية تلتقي مع كلام الجهمية وينفر منها كل عاقل لتناقضها، زيادة على إنكار العلو المثبت في فطر الخلق مع تواتر النصوص عليه.
كيف يجعل من هذا حاله مثالاً على المبتدع الذي قد يكون أفضل من السني؟ فلو فرضنا وجود مبتدع أفضل من السني فإنما يُنتقى صاحب بدعة مفسقة لا مكفرة، ويُنتقى شخص ضلاله في باب واحد لا في أبواب عديدة ومقالاته موغلة في الخطورة.