تنبيه جيد للسخاوي حول ذكر مثالب الملوك في التاريخ

في

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

قال السخاوي في الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ وهو يعلل عدم ذكره لمثالب
الملوك ص48 :

” ذكر أناس من الملوك والأكابر يضاف إليهم شرب الخمر ، وفعل الفواحش
مما تصحيحه عنهم عزيز ، وهو متردد بين إشاعة الفاحشة إن صح ، أو القذف إن لم يصح ،
سيما ويتضمن التهوين على أبناء جنسهم فيما هم فيه من الزلل “

أقول : هذا تنبيه جيد جداً من السخاوي أهمله كثير من المؤرخين الذين أطنبوا
في ذكر مثالب الملوك وأخبار الشعراء والفجرة حتى ترجم بعضهم لبعض ملوك الكفرة كنجنكيز
خان

وذكر بعض نهايات الملوك الذين اشتهروا بالجور للعبرة لا إشكال فيه ولكن
البحث في ذكر بعض أحوالهم الخاصة مما يكون في العادة مما شغف الناس بنسبته إلى ملوكهم

وبعض المشتغلين بالعلم يصنف في أخبار العشق وبعضهم يصنف في أخبار النساء
فيذكر المرأة عالية النسب ويسمي أباها وقومها ثم يذكر عنها ما لا يسر بأسانيد مظلمة
لا يعرف فيها أحد ، حتى بلغ ببعضهم الوقيعة في أخت عمر بن عبد العزيز ، وهؤلاء أخذهم
زهو العلم وحب التصنيف وحملهم على ما لا يليق بما معهم من العلم

ولو لم يكن في ذكر الأمور سوى الإشغال عن أخبار الصالحين لكان كفى وخلطها
بأخبار الصالحين قبيح

وأخبار الصالحين لجمعها فوائد منها أن الإنسان يعالج العجب في نفسه إن
كان عنده شيء من الصلاح إذا رأى صلاح السلف ، ومنها أنه يسعى للاقتداء فكم من عمل صالح
لم نكن نتصور لضعف همتنا في الحق أن يفعله أحد فلما نظرنا في تراجم وجدناهم يفعلون
ما هو أعلى ، ومن ذلك أنك تحبهم والمرء مع أحب لأنه إذا أحب اقتدى

قال أبو داود في مسائله عن أحمد (1/283) : وسمعت أحمد قال سمعت ابن عيينة
يقول كان يقال تنزل الرحمة عند ذكر الصالحين.

وقد حبب القراءة في التواريخ إلى نفوس العامة فإنك إذا ذكرت أفعال الفساق
استأنسوا بها كما ذكر السخاوي ، بل العجب ما يفعله من أنه يطري الرجل في بداية الترجمة
ثم يذكر عنه أموراً تسوء فباجتماع الاطراء وذكر المساويء يهون أمر تلك المساويء في
نفوس الناس

ومن أعظم ما غلط به بعض المؤرخين الولوج فيما شجر بين الصحابة وذكر كل
ما يتفق في تراجمهم بدون مراعاة كون هذا الرجل صحابياً يجب أن يحفظ مقامه ، وقد انتقد
ابن الصلاح في مقدمته على ابن عبد البر ذكره ما شجر بين الصحابة في الاستيعاب ، وأمر
الإمام أحمد بحرق كل كتاب فيه ذكر أحاديث ما شجر بين الصحابة

ولو جاز ذكر ما شجر بين الصحابة بين أهل العلم لما جاز ذكره للعامة ، فإنهم
لا يفهمون الأمر على وجهه وهم إلى تعلم ما يجب من الحلال والحرام أحوج منهم إلى الخوض
في هذه الأمور الخطيرة عليهم

وقد نبه على هذا المعنى الآجري في الشريعة

وقد كان عمر بن الخطاب كما في مسند الدارمي ينهى الصحابة أن يحدثوا الناس
بالمغازي لئلا يليهم عن الحلال والحرام فكيف بما شجر بين الصحابة

وقال الآجري في الشريعة معلقاً على قصة عمر مع صبيغ :” لم يكن ضرب
عمر رضي الله عنه له بسبب عن هذه المسألة ، ولكن لما تأدى إلى عمر ما كان يسأل عنه
من متشابه القرآن من قبل أن يراه علم أنه مفتون ، قد شغل نفسه بما لا يعود عليه نفعه
، وعلم أن اشتغاله بطلب علم الواجبات من علم الحلال والحرام أولى به ، وتطلب علم سنن
رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى به ، فلما علم أنه مقبل على ما لا ينفعه”

فكيف لو رأى من اشتغل بما شجر بين الصحابة وبأخبار الملوك وغيرها عن العقيدة
الصحيحة والحلال والحرام أو رام إشغال الناس عن ذلك

وبعض من يصنف في أخبار العشاق أو أخبار النساء ويذكر الفواحش والمجون في
كتبه ، تراه هو في نفسه ليس على اعتقاد سليم بل بعضهم صنف كتباً ينتصر فيها لمذاهب
الجهمية ، فلو أشغل نفسه بطلب الحق في أمر المعتقد لكان خيراً له من الاشتغال بكثير
من مسائل الأحكام فضلاً عن السير والمغازي فضلاً عن المجون وأخبار النساء

وبعضهم على توسعه في الكلام في الفقه تقع له أوهام عجيبة وقبيحة في الكلام
على الأحاديث والرواة ، ولا شك أن شغله بتلك الأمور أثر على تحصيله في علم الحديث الشريف
فوقع منه ما وقع

ومما يؤخذ على بعض المؤرخين التوسع في المدح حتى صار الأمر ديدناً فشمل
حتى أهل البدع ومع كان هذا هدي السلف حتى أنك في بعض الكتب لو فتحت ترجمة ابن عربي
الكافر الزنديق لرأيت في أولها ثناءاً ، وإن كان بعد ذلك يتم نقده

وأئمة السلف ما رأيت أحداً منهم ترجم لسفيان الثوري أو الحسن البصري فقال
( الإمام القدوة مفتي الأنام شيخ الإسلام الفقيه المحدث الكذا الكذا )

مع أنهم لو قالوها لكان المذكورون لها أهلاً

حتى ظهرت بعض الألقاب الغريبة مثل ( خاتمة الحفاظ ) و ( حسنة الأيام )

وهدي السلف الاقتصاد في المدح والقدح

ومن الطريف أنه لما كان من طريقة المتأخرين الثناء على شيوخهم أو من تأخر
بأعظم مما أثنى به الناس على السلف في وقتهم ترى كثيراً منهم إذا روى الحديث بإسناده
يقول ( حدثنا الإمام الحافظ شيخ الوقت فلان ) حتى إذا وصل بسنده إلى الطبقات المتقدمة
أخلاها من الألقاب فيقول ( الشافعي عن مالك عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه
وسلم )

فلا يفوز أحد من هؤلاء بما فيهم الصحابي بتلك الألقاب التي فاز بها شيخه
، والأولى والأدب أنك إذا ذكرت من تأخر مع السلف ألا تزيد من تأخر ألقاباً لا تذكرها
عن السلف فهم أفضل ولا شك

 فكيف إذا كان من تأخر في عقيدته
كلام أصلاً ؟!

فترى بعض الأخوة يقول ( وهذا قول الحسن وابن سيرين ومالك وأحمد في رواية
وشيخ الإسلام ابن تيمية والإمام السيوطي )! مثلاً

وابن تيمية – رحمه الله – ما عليه في الاعتقاد كلام غير أنني أعني السيوطي
والله المستعان

والخلاصة أنه ليس كل شيء فعله المشاهير في القرون المتأخرة علينا تلقيه
بالقبول فإنك ربما لو بحثت وجدت من أنكره عليه ، زيادة أنك ينبغي أن تعرض كل من جاء
بعد السلف على هديهم فما وافق فخذ به وما خالف فدع ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح
أولها

وينبغي إبعاد طلبة العلم عن هذا الضرب من التصانيف ( أي الذي فيه ذكر ما سبق من الأمور المنتقدة ) ، وقد رأيت بعض من ينتسب للعلم يقيم دورة في بعض مقدمات العلوم ينصح كل طالب علم بقراءة كتاب من هذا النوع وفي الدورة نفسها قال لبعض الشباب ( مشايخنا لا ينصحون بقراءة كتب ابن القيم للمبتديء )!  

وليعلم أن السخاوي ليس مرضي الطريقة في العقيدة ولا في طريقة التأريخ وله في شيخ الإسلام كلام سوء غير أنه هنا أصاب الحق 

هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم