تنبيهات حول مسألة ختم القرآن في شهر رمضان

في

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

فإن كثيراً من الناس في شهر رمضان يحرصون على ختم القرآن وبعضهم يحرص على
أن يختم عدة مرات ، ومن الأسئلة التي تعتاد على سماعها في هذه الأيام ( كم مرة ختمت

ومثل هذه العاطفة طيبة غير أن الأمر أن يكون على السنة وعلى هدي السلف
، فإن عامة القراءة التي يقصد القاريء منها الختم فقط تكون هذرمة أو شبه الهذرمة دون
تدبر وهذا يخالف المقصود الأصلي من إنزال القرآن الكريم

قال الله تعالى : ( كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا
آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ)

وكان من حكمة تنزيله مفرقاً أن تعيه القلوب ويحصل التثبيت اللازم من ذلك

قال الله تعالى : ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ
الْقُرْآَنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ
تَرْتِيلًا)

وقد فقه السلف هذه الحقيقة

قال أبو عبيد القاسم بن سلام في فضائل القرآن 180 : حدثنا إسماعيل بن إبراهيم
، عن أيوب ، عن أبي حمزة ، قال : قلت لابن عباس : إني سريع القراءة ، وإني أقرأ القرآن
في ثلاث .

فقال : لأن أقرأ البقرة في ليلة فأدبرها وأرتلها أحب إلي من أن أقرأ كما
تقول .

 قال أبو عبيد حدثنا حجاج ، عن
شعبة ، وحماد بن سلمة ، عن أبي جمرة ، عن ابن عباس ، نحو ذلك . إلا أن في حديث حماد
:   أحب إلي من أن أقرأ القرآن أجمع هذرمة .

وهذا إسناد صحيح ، فابن عباس وهو العالم بالقرآن يفضل قراءة سورة البقرة
فقط بتدبر على أن يقرأ كله بلا تدبر ، وهذا يدل على أن أجر المرء لا يتعلق فقط بكم
ما قرأ بل يتعلق بكم ما قرأ وكم ما فهم ، أو بتعبير آخر بالكم والكيف

وما القراءة إلا وسيلة للتدبر والعمل

قال ابن القيم في مفتاح دار السعادة (1/74) : “الوجه الخامس والخمسون
ما ثبت في صحيح البخاري من حديث عثمان بن عفان رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه
و سلم انه قال خيركم من تعلم القرآن وعلمه وتعلم القرآن وتعليمه يتناول تعلم حروفه
وتعليمها وتعلم معانيه وتعليمها وهو اشرف قسمي علمه وتعليمه فإن المعنى هو المقصود
واللفظ وسيلة اليه فنعلم المعنى وتعليمه تعلم الغاية وتعليمها وتعلم اللفظ المجرد وتعليمه
تعلم الوسائل وتعليمها وبينهما كما بين الغايات والوسائل”.

وقد قال الله تعالى : ( ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني )

والأماني يعني التلاوة فمن كان حظه من القرآن التلاوة فقط فقد شابه هؤلاء

قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (17/ 434) :” و أما النوع الثانى
الجهال فهؤلاء الأميون الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني و إن هم إلا يظنون فعن إبن
عباس و قتادة فى قوله و منهم أميون أي غير عارفين بمعاني الكتاب يعلمونها حفظا و قراءة
بلا فهم و لا يدرون ما فيه و قوله إلا أمانى أي تلاوة فهم لا يعلمون فقه الكتاب إنما
يقتصرون على ما يسمعونه يتلى عليهم قاله الكسائي و الزجاج و كذلك قال إبن السائب لا
يحسنون قراءة الكتاب و لا كتابته إلا أمانى إلا ما يحدثهم به علماؤهم و قال أبو روق
و أبو عبيدة أي تلاوة و قراءة عن ظهر القلب و لا يقرأونها فى الكتب”

بل من كان من السلف من لا يعد قراءة من لا يعمل قراءة

قال أحمد في الزهد 1667: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ ، حَدَّثَنَا حَمْزَةُ الزَّيَّاتُ
، عَنْ مَنْصُورٍ السُّلَمِيِّ ، قَالَ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ :

 اقْرَأِ الْقُرْآنَ مَا نَهَاكَ
فَإِذَا لَمْ يَنْهَكَ فَلَسْتَ تَقْرَؤُهُ ، رُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ غَيْرُ فَقِيهٍ
وَمَنْ لَمْ يَنْفَعْهُ عِلْمُهُ ضَرَّهُ جَهْلُهُ.

ولا يعني هذا ترك قراءته فإنك تركت القراءة والعمل معاً ما ازداد إلا سوءاً
وإنما المطلوب أن تسعى في فهم معانيه عن طريق النظر في تفاسير السلف وسؤال أهل العلم

و قال أحمد في الزهد 1683 : حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ ، حَدَّثَنَا
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بَكْرٍ يَعْنِي الْمُزَنِيَّ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ :

 إِنَّ هَذَا الْحَقَّ جَهَدَ النَّاسَ
وَحَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ شَهَوَاتِهِمْ وَإِنَّمَا صَبَرَ عَلَى هَذَا الْحَقِّ
مَنْ عَرَفَ فَضْلَهُ وَرَجَا عَاقِبَتَهُ ، إِنَّ مِنَ النَّاسِ نَاسًا قَرَؤُوا الْقُرْآنَ
لاَ يَعْمَلُونَ سَيِّئَةً وَإِنَّمَا أَحَقُّ النَّاسِ بِهَذَا الْقُرْآنِ مَنِ اتَّبَعَهُ
بِعَمَلِهِ وَإِنْ كَانَ لاَ يَقْرَؤُهُ ، إِنَّكَ لَتَعْرِفُ النَّاسَ مَا كَانُوا
فِي عَافِيَةٍ فَإِذَا نَزَلَ بَلاَءٌ صَارَ النَّاسُ إِلَى حَقَائِقِهِمْ صَارَ الْمُؤْمِنُ
إِلَى إِيمَانِهِ وَالْمُنَافِقُ إِلَى نِفَاقِهِ.

وقال ابن أبي حاتم في تفسيره 4680 : حدثنا أبو سعيد الأشج ، ثنا ابن إدريس
، وأبو أسامة ، والسياق لابن إدريس ، عن يحيى بن أيوب البجلي ، عن الشعبي ، في قوله
: ( فنبذوه وراء ظهورهم ) قالا : قد كانوا يقرءونه ، ولكنهم نبذوا العمل به

ولا عمل إلا بفهم أولاً

بل كان من فقه جماعة من السلف أنهم كانوا يكرهون أن يقول المرء ( قرأت
القرآن كله ) لأن المقصود من القراءة التفهم ولا سبيل إلى معرفة أنك فهمت حق الفهم

قال عبد الرزاق في المصنف 5984 : عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَمَّنْ،
سَمِعَ، الْحَسَنَ يَقُولُ:

إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ قَدْ قَرَأَهُ صِبْيَانٌ وَعَبِيدٌ لَا عِلْمَ
لَهُمْ بِتَأْوِيلِهِ وَلَمْ يَأْتُوا الْأَمْرَ مِنْ قِبَلِ أَوَلِهِ.

 وَقَالَ: ” {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ
إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} ، وَمَا تَدَبُّرُ آيَاتِهِ إِلَّا اتِّبَاعُهُ
بِعِلْمِهِ، وَاللَّهِ مَا هُوَ بِحِفْظِ حُرُوفِهِ وَإِضَاعَةِ حُدُودِهِ، حَتَّى
أَنَّ أَحَدَهُمْ لَيَقُولُ: وَاللَّهِ لَقَدْ قَرَأْتُ الْقُرْآنَ كُلَّهُ وَمَا أُسْقِطُ
مِنْهُ حَرْفًا وَاحِدًا وَقَدْ أَسْقَطَهُ كُلَّهُ، مَا تَرَى لَهُ فِي الْقُرْآنِ
مِنْ خُلُقٍ وَلَا عَمَلٍ، وَحَتَّى أَنَّ أَحَدَهُمْ لَيَقُولُ: وَاللَّهِ إِنِّي
لَأَقْرَأُ السُّورَةَ فِي نَفَسٍ وَاحِدٍ وَاللَّهِ مَا هَؤُلَاءِ بِالْقُرَّاءِ وَلَا
الْعُلَمَاءِ، وَلَا الْحُكَمَاءِ، وَلَا الْوَرَعَةِ، وَمَتَى كَانَ الْقُرَّاءُ يَقُولُونَ
مِثْلَ هَذَا؟ لَا كَثَّرَ اللَّهُ فِي الْمُسْلِمِينَ مِنْ هَؤُلَاءِ “

وقال ابن أبي شيبة في المصنف من كرِه أن يقول : قرأت القرآن كلّه.

30715: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ ، عَن شَقِيقٍ ،
عَنِ الأَعْمَشِ ، عَنْ أَبِي رَزِينٍ ، قَالَ : قَالَ رَجُلٌ لِحَبَّةَ بْنِ سَلَمَةَ
, وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ عَبْدِ اللهِ : قَرَأْت الْقُرْآنَ كُلَّهُ : قَالَ : وَمَا
أَدْرَكْت مِنْهُ.

30716: حَدَّثَنَا عَفَّانُ ، قَالَ : حدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ
، قَالَ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ ، عَن نَافِعٍ ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ ، أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ
أَنْ يَقُولَ : قَرَأْت الْقُرْآنَ كُلَّهُ.

30717: حَدَّثَنَا ابْنُ مَهْدِيٍّ ، عَن سُفْيَانَ ، عَنِ الأَعْمَشِ
، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَلِمَةَ ، قَالَ : قَالَ حُذَيْفَةُ
: مَا تَقْرَؤُونَ رُبُعَهَا يَعْنِي بَرَاءَةَ.

وقد نهى الشارع عن ختم القرآن في أقل من ثلاث خشية ألا يفقهه المرء ، فمن
قرأه في أكثر من ثلاث ولم يزدد به علماً فقد وقع في النهي

وقراءة الهذرمة هي السبب الرئيسي في كوننا لا نرى الأثر المناسب على الناس
من قراءتهم للقرآن

قال الله تعالى : ( لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ
خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ )

فنعوذ بالله من أن تكون قلوبنا كالحجارة أو أشد قسوة ، ونعوذ به من أن
نخر على آياته صماً وعمياناً

وقد قال الله تعالى : ( أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ
قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ
وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ)

أما آن لنا هذا يا أخوة ؟

وأخيراً أختم بما روى الدارمي في مسنده 3319 : أخبرنا الحكم بن نافع انا
جرير عن شرحبيل بن مسلم الخولاني عن أبي أمامة : انه كان يقول اقرؤوا القرآن ولا يغرنكم
هذه المصاحف المعلقة فإن الله لن يعذب قلبا وعى القرآن

وهذا إسناد صحيح

هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم