تقريب نزاع الناس في مسألة تكفير الأشعرية
الكثير من الناس يظنون أن مسألة تكفير الأشعرية محسومة وأنهم فرقة بدعية فحسب بل النزاع الذي ينبغي هو ( هل هُم من أهل السنة أم لا )؟ وتحت ضغط تأثير بعض الدعايات مثل أنهم معظم علماء الأمة يكون مثل هذا الكلام معقولا تماما ( ودعوى أكثريتهم في هذا السياق غير صحيحة )
والحق أن المسألة ليست محسومة وأن النزاع في ذلك دائر بين الناس وقد قررت تقريبه للمبتديء والعامي لأنها مسألة يظن فيها كثير من العوام والمبتدئين أنها محسومة وبالتالي يشنعون على أطراف لها أقوال وجيهة في المسألة فالبحث هنا لتقريب الأمر ولا يقال لماذا تدخل العوام هنا فمعلوم أن مسائل النزاع لها علاقة بالكتاب والسنة والفطرة مما لا يجهله عامة الناس وكذلك ينبغي فهم حكم المخالف ونزاع أهل العلم فيه
المسألة لكي تفهم لا بد لها من عدة درجات فإن كثيرا من الناس يظنون أن من يكفر الأشعرية مثلا يكفر كل المخالفين له في العقيدة لظنهم أن الخلاف مع الأشاعرة هو أغمض الخلافيات على الإطلاق وهذا غير صحيح
الدرجة الأولى : تنوع درجة المخالف العقائدي
لأهل السنة والجماعة عقيدة مسطورة في الكثير من الكتب ويخالفها فرق عديدة وقد أشار لذلك حديث الافتراق ولكن هذه الفرق ليست على درجة واحدة في الحكم
فمنهم من عامة أهل العلم على الاكتفاء بتبديعه دون تكفيره كالشيعي المفضل يعني الذي يقول أن عليا أفضل من أبي بكر وعمر دون سب لهما بل مع الاحترام والتوقير ، وهناك من هو دون ذلك ربما ألحقوه بأهل السنة أو بدعوه بحسب ظهور المسألة عنده من خفائها كالذي يفضل عليا على عثمان فالروايات عن أحمد مفاد الجمع بينها التفصيل في شأنه وهذا ظاهر من ممارسات الأئمة مع القائلين بهذا القول
ومنهم من عامة أهل السنة على تبديعه حتى نقل بعض الأئمة الاتفاق على ذلك كمثل المرجئة غير الغلاة فظاهر كلام أبي عبيد القاسم بن سلام والمروزي والدارمي نقل الاتفاق على عدم التكفير وفهم بعض الناس من كلام بعض الأئمة التكفير ومنه ما هو تحميل للكلام أكثر مما يحتمل ومنه ما هو كلام على فرقة أخرى على التحقيق ومنه ما ظاهره التكفير ولكنه شاذ أو ورد عن العالم خلافه بِمَا يشرح قوله ويتسق مع مقالة الجمهور
ومنهم ما يوجد خلاف متوسط في تكفيره كعامة الخوارج في الزمن الأول ظاهر كلام علي وابن عمر وابن عباس عدم تكفيرهم وعزي تكفيرهم إلى بعض الصحابة كأبي سعيد وأبي أمامة ( وقيل هو في الأزارقة فحسب ) وتوقف بعض أئمة أهل السنة في المسألة كالإمام أحمد في رواية مشهورة عنه
ومنهم ما يوجد خلاف قوي في تكفيرهم كالقدرية غير الغلاة ظاهر كلام البخاري في خلق أفعال العباد تكفيرهم ولعله لا يعني القائلين بأن الله يخلق الخير دون الشر بل القائلين بأن العباد يخلقون أفعالهم مطلقا ونازعه غيره فخص التكفير بمنكري العلم فحسب
ثم إن هناك فرقا مكفرة اتفاقا ولكن بعد ذلك ينظر فيما يترتب على هذا التكفير هل يقع على جميع الأعيان أم يفرق بين عين وعين ثم ما هو ضابط هذا التفريق ؟
فمثلا هناك الواقفة ظاهر كلام الرازيين عدم تكفير الجاهل وتكفير العالم وجعل الإمام أحمد علامة الواقفي الجهمي يعني الذي يكفر ان يكون من أصحاب الحديث أو أصحاب الكلام وهذا ضابط معقول إذ ربط الأمر بالعلم
وهناك فرق مكفرة كلها دون تفصيل في كلام المكفرين مثل الأزارقة حين أنكروا الرجم أو القدرية نفاة العلم ( ومن الناس من ينازع في ذلك ) والقائلين بتحريف القرآن من الإمامية والاسماعيلية والنصيرية والقرامطة والبهائية وغيرهم
ونزاع بعض المعاصرين في الإمامية هل يكفر عوامهم أم لا حقيقته هل يلحقون بالواقفة أم يلحقون بالإسماعيلية ومنكري العلم والنصيرية ؟
فهناك اتفاق على أصل وإنما النزاع في الإلحاق بأحد فرعيه
وهناك فرقة الجهمية وكلام السلف فيهم كثير ونقلت إجماعات كثيرة على تكفيرهم ثم تنازع الناس في حقيقة هذا التكفير
فمنهم من قال أنه يراد به الكفر الأصغر وهذا كلام عدد من نظار الأشعرية الشافعية وهذا قول باطل فكلام السلف واضح في أنه الكفر الأكبر ففي عدد من الآثار جاء ترتيب على إعادة الصلاة خلفه ولعنه والشهادة بالنار وغيرها من الأحكام التي لا تتعلق إلا بالكفر الأكبر
ومنهم من قال هو كفر أكبر ولكن في المسألة خلاف وهذا كلام السجزي ومنهم من قال أنهما روايتان عن أحمد وهذا كله غلط وباطل بل كلمة عامة الأئمة على التكفير حتى تكلموا في تكفير من لا يكفر وأمر الروايتين عن أحمد نقضه ابن تيمية بأنها رواية واحدة وإنما استثنى أحمد أفرادا فحسب وهذا لا ينفي الحكم الأصل
ومنهم من قال هو كفر أكبر وهو شامل لكل الجهمية إذا كانوا ممن يقولون بخلق القرآن وهذا ما يوحي به إطلاقات الأئمة وأحكامهم ومدونات أهل الحديث القديمة كالسنة لعبد الله والسنة للخلال والإبانة وشرح أصول اعتقاد أهل السنة ونظائر هذه الكتب تنضح بهذه الإطلاقات وهذا معناه أنهم جعلوهم كمثل نفاة العلم من القدرية والقرامطة وغلاة الإمامية ( بل كلام عامتهم أنهم أشر )
واعترض ابن تيمية على هذا الإطلاق بصلاة أحمد خلف الجهمية ودعائه لهم مع إقراره بأن أحمد كفر معينين منهم وسيأتي ما يراه الشيخ من التفصيل
غير أن من يراجع روايات أحمد في الصلاة يجد أن أحمد يعيد الصلاة خلفهم ويأمر بذلك وكلامه واضح في تكفير المأمون كما في السنة للخلال لما مروا على قبره وعليه فكلامه لا يناقض الإطلاق وما بقي إلا حالة المعتصم وهي حادثة عين لا تدفع النصوص الكثيرة خصوصا وأن أحمد كفر المأمون وما رآه أصلا ومن الناس من كتب كتابة مستقلة في المعتصم بين رجوعه، ومنهم من اعتبرها رواية شاذة خصوصا مع الروايات التي لا تحصر في تكفر أعيان الجهمية بل واللفظية والواقفة الذين هُم أحسن حالا من الجهمية ، ومنهم من قال أن حال المعتصم قد يخرج على كلام أحمد في الواقفي ويخرج من ذلك أي إنسان له سبب في العلم كالمأمون .
ومنهم من قال هو كفر أكبر ولكن يكفر الداعية وغير الداعية لا يكفر وهذا مشهور متأخري الحنابلة وهو المعتمد عندهم وبدأ من المجد واعترض عليه ابن تيمية في المسودة بأنه ما وجد لأحمد أي نص يفرق بين الداعية وغير الداعية في الجهمية وإنما كان ذلك منه في أصحاب المفسقة كالقدرية والمرجئة وهذا اعتراض قوي واعترض في الفتاوى باعتراض المعتصم الذي سبقت مناقشته
وقبل الانتقال للدرجة الثانية في البحث لا بد من تنبيهين
الأول : هذه القسمة من دقة العلماء وتحريهم فليس هُم يكفرون بالاحتقان أو يتساهلون وفقا لضغوط عاطفية بل هُم يحكمون بالعلم والعدل والمحتقن لا يعجبه تفصيلهم والعاطفي يرميهم بالغلو
الثاني : أن اختلاف الناس في الجهمية هو اختلاف بين ( مكفرين ) فلا ينفى تكفير الأعيان كلهم بصورة حتمية إلا على القول الأول وتقدم أنه ليس قولا لمعتبر من أهل السنة وبناء على الأقوال المختلفة في تفسير كلام السلف في تكفير الجهمية لا يمكن الجزم بعذر جهمي عالم بشكل قطعي بل بعض الأقوال تجزم بعدم عذره وبعضها تجوز عذره تجويزا فحسب مع احتمال العكس
الدرجة الثانية : حكم فرقة الأشعرية وفقا للنزاع السابق
الأشعرية فرقة تأخرت زمنا عن القدرية والمرجئة والشيعة والرافضة والخوارج والمعتزلة والجهمية الأولى وأهل الحديث ، ثم إن الأشعرية أنفسهم افترقوا وتطور مذهبهم على مر الزمان
يجزم عامة علماء أهل الحديث بانحراف الأشعرية ولكن ما قدر هذا الانحراف ؟
هل يلحقون بالشيعة المفضلة فيبدعون ولا يكفرون ؟
أم يلحقون بالواقفة فيكفر عالمهم ويعذر جاهلهم ؟
أم يلحقون بالقدرية نفاة العلم والأزارقة ؟
أم يلحقون بالفرق التي فيها خلاف متوسط أو قوي في تكفيرها كالخوارج والقدرية غير الغلاة ؟
أم يلحقون بالجهمية ثم يتنزل عليهم نزاع في حقيقة تكفير الجهمية ؟
وهنا لعل سائلا سيسأل : إذن المسألة قياس ؟
والجواب : هذا أقرب طريق لتقريب المسألة لا أن نضع منهجا خاصا في التكفير أو عدمه ثم ننزله على الفرقة التي نتكلم عنها بل نتبع العلماء وقد تقدم معك اعتراض ابن تيمية على عدد من أقوال العلماء في تكفير الجهمية إذن ليست كل هذه الفروع يقينية أو مسلمات كبرى غير أن الذي يشنع عليه من قال بقول خارج عن أقوال جميع العلماء أو شنع على قول من أقوالهم الوجيهة بِمَا لم يسبقه إليه أحد أو جمع بين الأمرين
ومع الأسف عدد ممن يرفعون راية الانصاف يظلمون الموافقين بحجة إنصاف المخالفين ظلما شديدا وينشئون عليه صغار طلبة العلم والدهماء ويستبيحون لذلك أعراضا والله الموعد ، نعم هناك غلاة لا ينكر أحد وجودهم غير أن الغلو والظلم باسم الانصاف هذا أخطر لأنه أشد التباسا
والسؤال هنا : هل إلحاق الأشعرية بأي طائفة من هذه الطوائف أمر اعتباطي أم لا بد فيه من أدلة ثم ما هي الأدلة التي يمكن أن تستخدم هنا ؟
والجواب : بل بالأدلة
ثم الأدلة إما دلالة العموم في بعض نصوص السلف فنجد كلاما لبعض السلف يقول : من قال كذا وكذا فهو كذا . ونجد الأشاعرة قالوا هذه المقالة فنلحق الأشاعرة بقائلها ثم ننظر هل هذا النص عن العالم من علماء السلف وافقوه عليه أم خالفوه وهل الخلاف قوي معتبر بحيث لا ينكر على أحد القولين أم أحدهما ضعيف وهل مطابقة مقالة الأشعرية لهذه المقالة قطعية أم هي محل نزاع وهل هذا النزاع قوي أم ضعيف
مثال : قال ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى : ” والإمام أحمد بن حنبل وغيره من أئمة السنة كانوا يحذرون عن هذا الأصل الذي أحدثه ابن كلاب -وهو الفرق بين الصفات اللازمة كالحياة والصفات الاختيارية كالنزول والاستواء، وأن الرب يقوم به الأول دون الثانى- ويحذرون عن أصحابه، وهذا هو سبب تحذير الإمام أحمد عن الحارث المحاسبي ونحوه من الكلابية، … ولما ظهر هؤلاء، ظهر حينئذ من المنتسبين إلى إثبات الصفات من يقول: إن الله لم يتكلم بصوت، فأنكر أحمد ذلك، وجهّم من يقوله، وقال: هؤلاء الزنادقة إنما يدورون على التعطيل، وروى الآثار في أن الله يتكلم بصوت”
فهنا الإمام أحمد وصف ابن كلاب ومن على مقالته بأنهم ( زنادقة ) وهذا من ألفاظ التكفير وابن كلاب مقالته في القرآن هي مقالة الأشعرية وهل يوجد خلاف بين الناس في هذا ؟ في الواقع لا أعرف خلافا في ذلك
ومما يؤكد صحة هذا الفهم أن ابن مندة الحنبلي وصف الأشعرية بالوصف نفسه وكذلك صنع ابن البناء وابن عقيل وغيرهم وحتى ابن تيمية معهم حين نزل كلام أحمد في الكلابية على الأشعرية
وهل في حكم الإمام أحمد خلاف ؟
ذكر قوام السنة الأصبهاني في كتابه الحجة في بيان المحجة بسنده عن أبي حاتم أن العلماء طرا وافقوا قول أحمد
ومثال آخر : ذكر محمد بن نصر المروزي في تعظيم قدر الصلاة أن قول الجهمية في الإيمان ( الإيمان المعرفة بالقلب فقط ) قول كفرهم به المرجئة وأهل السنة
قال ابن تيمية في رسالة الإيمان :” بل قد كفر أحمد بن حنبل ووكيع وغيرهما من قال بقول جهم في الإيمان الذي نصره أبو الحسن. وهو عندهم شر من قول المرجئة”
بناء على الكلام السابق يكون تكفير الجهمية تكفيرا للأشعرية الذين وافقوهم وقد سلم لهذا ابن حزم في الفصل في الملل والنحل بل ادعى الاتفاق على ذلك ورد عليه بعض الأشاعرة كصاحب طبقات الشافعية مع اعترافهم أن مذهبهم في الإيمان غير مذهب السلف
النوع الثاني من الأدلة : قياس الأولى
وهو أن تأتي بقول قال به بعض أهل البدع وكفرهم به السلف فتثبت أن الفرقة المبحوث في شأنها وقعت فيما هو أعظم من ذلك
وقد رأى كل من ابن قدامة وشارح الطحاوية وابن القيم وابن حزم وحتى الأمير طغربلك والسجزي أن مقالة الأشعرية في القرآن أشد من مقالة المعتزلة وأعظم تناقضا ومخالفة للنصوص والبداهة
قال ابن القيم كما في مختصر الصواعق :
فتأمل هذه الأخوة التي بين هؤلاء وبين هؤلاء المعتزلة الذين اتفق السلف على تكفيرهم، وأنهم زادوا على المعتزلة في التعطيل فالمعتزلة قالوا: هذا الكلام العربي هو القرآن حقيقة لا عبارة عنه، وهو كلام الله، وإنه مخلوق.
ورأى ابن تيمية أن مقالتهم في العلو أشنع من قول الجهمية الأولى الله في كل مكان وأشنع حتى من عبادة الأوثان ( وإن كان ذلك ليس واضحا لكل أحد )
قال شيخ الإسلام في بيان تلبيس الجهمية مخاطباً الرازي (4/292) :” فتبين أن الذي قلته أقبح من هذا الشرك ومن جعل الأنداد لله كما أن جحود فرعون الذي وافقتموه على أنه ليس فوق السموات رب العالمين إله موسى جحوده لرب العالمين ولأنه في السماء كان أعظم من شرك المشركين الذين كانوا يقرون بذلك ويعبدون معه آلهة”
وهذا واضح في قول السلف أننا لنحكي كلام اليهود والنصارى ولا يمكننا أن نحكي كلام الجهمية ثم إذا ذكروا أشنع مقالات الجهمية ذكروا نفي العلو
مثال آخر على قياس الأولى :
قال ابن تيمية في بيان تلبيس الجهمية :
وكلام السلف والأئمة في هذا الباب أعظم وأكثر من أن يذكر هنا إلا بعضه كلهم مطبقون على الذم والرد على من نفى أن يكون الله فوق العرش كلهم متفقون على وصفه بذلك وعلى ذم الجهمية الذين ينكرون ذلك وليس بينهم في ذلك خلاف ولا يقدر أحد أن ينقل عن أحد من سلف الأمة وأئمتها في القرون الثلاثة حرفا واحدا يخالف ذلك لم يقولوا شيئا من عبارات النافية إن الله ليس في السماء والله ليس فوق العرش ولا أنه داخل العالم ولا خارجه ولا أن جميع الأمكنة بالنسبة إليه سواء ولا أنه في كل مكان أو أنه ليس في مكان أو أنه لا تجوز الإشارة غليه ولا نحو ذلك من العبارات التي تطلقها النفاة بأن يكون فوق العرش لا نصا ولا ظاهرا بل هم مطبقون متفقون على أنه نفسه فوق العرش وعلى ذم من ينكر ذلك بأعظم مما يذم به غيره من أهل البدع مثل القدرية والخوارج والروافض ونحوهم وإذا كان كذلك فليعلم أن الرازي ونحوه من الجاحدين لأن يكون الله نفسه فوق العالم هم مخالفون لجميع سلف الأمة .
كلام ابن تيمية هنا يتناول المتأخرين من الأشاعرة دون المتقدمين الذين يثبتون العلو ، فإذا كان السلف ذموا منكري العلو بأكثر مما ذموا به فرقا مكفرة أو في تكفيرها خلاف متوسط أو قوي أو حتى ضعيف علم أن القول بتكفيرهم ( أعني منكري العلو ) ظاهر قوي
الطريقة الثالثة من طرق الاستدلال : القياس
معلوم أن الترمذي وغيره ذكروا أن الجهمية يسمون أخبار الصفات تشبيها
ونبه ابن تيمية في الحموية أن تأويلات الأشعرية هي عين تأويلات المريسي وهذا واضح لمن قرأ رد الدارمي على المريسي
وذكر غير واحد أن الجهمية يسمون أهل السنة مشبهة ومجسمة وحشوية ونابتة
ونبه ابن تيمية أن متأخري الأشعرية وافقوا المعتزلة في القرآن والرؤية والعلو وضاق باب الخلاف
لهذا الشيخ كان يسميهم جهمية وهذا واضح من عنوان كتابه ( بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية ) وكان الرد على الرازي الأشعرية كما تلميذه ابن القيم في كتابه ( اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة الجهمية ) وإنما كان يرد على أشعرية عصره
واذا تكلمنا عن الإلحاق فأشبه فرقة نلحق بها الأشعرية المتأخرة فرقة الجهمية خصوصا وأنهم نصروا قول جهم في الايمان والقدر وهنا يتفوقون على المعتزلة في مقاربة الجهمية الأولى
وتقدم معنا اتفاق الناس على أن بدعة الجهمية مكفرة ثم اختلفوا في ماهية التكفير وهنا تنبيهات
الأول : ذكرنا أن السجزي ذكر خلاف الناس في تكفير الجهمية ولكنه ما ادعى الخلاف نفسه في الأشعرية بل قال الناس متفقون على تكفير منكر القرآن العربي
الثاني : كما أن هناك قوما قالوا بأن تكفير الجهمية مطلق لا يستثنى منهم أحد وجد ذلك في الأشعرية كما هو قول أبي إسماعيل الأنصاري صاحب ذم الكلام ونقله عن أكثر من ألف شيخ وهو ظاهر كلام البربهاري وابن بطة وابن قدامة والآجري وابن عقيل وأبي جعفر الهاشمي وابن الحنبلي صاحب الرسالة الواضحة واللالكائي وغيرهم ممن لا يحصرون إلا بكلفة شديدة
الثالث : كلام الحنابلة المتأخرين في التفريق بين الداعية الجهمي وغير الداعية نزلوه على الأشعرية أيضا بل كانوا يذكرونهم مثالا
الرابع : ابن تيمية كلامه في الأشعرية فرع عن كلامه في الجهمية ( وقد سبقه ابن أبي عاصم في التفريق بين من قامت عليه الحجة ومن لم تقم )
وكثير من الناس يظن الشيخ لا يقر أن بدعتهم مكفرة وهذا لو ادعي فيه لجاز أن يدعى في الجهمية فالشيخ يعذر جهال الجهمية أيضا كما هو معروف ولكنه لا يرى هذا العذر مسوغا لادعاء وجود روايتين عن أحمد في التكفير لأن الجاهل قد يزول عذره ولهذا في نصه المشهور ( لا أكفركم ) كان يسميهم ( جهمية ) وليس ( أشعرية ) وقال ( ولو قلت بقولكم لكفرت ) ولَم يقل ( ولو قلت بلازم قولكم ) كما ينسبه له بعض الناس
قال ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى : وقد نقل عن أحمد ما يدل على أنه كفر به قوما معينين فأما أن يذكر عنه في المسألة روايتان ففيه نظر أو يحمل الأمر على التفصيل. فيقال: من كفره بعينه؛ فلقيام الدليل على أنه وجدت فيه شروط التكفير وانتفت موانعه ومن لم يكفره بعينه؛ فلانتفاء ذلك في حقه هذه مع إطلاق قوله بالتكفير على سبيل العموم.انتهى النقل عن الشيخ
ولهذا اذا وجدت ابن تيمية كفر معينين أشاعرة كما في مقدمة التسعينية لا تعتبر النص مشكلا ووجهه كما هو وجه كلام أحمد
تقدم معنا أن ابن تيمية بنى موقفه على كلام أحمد في المعتصم وبينت مناقشات الناس لكلامه وما ورد أن أحمد لم يكفر معظم الجهمية بأعيانهم وهم واضح عامة نصوصه تدل على نقيضه
وقدمت أن نزاع الناس في ماهية تكفير الجهمية ليس نزاعا في أصل التكفير وأنه لا يقتضي نفي التكفير عن أي معين منهم ضرورة لاحتمال قيام الحجة في قول من يشترطها وأما على قول من لا يشترطها فالأمر واضح
وهنا عدة أسئلة :
هل ورد عن أي أحد ممن يشترط قيام الحجة على الجهمية وصفه من يفرق بين الداعية وغير الداعية أو من يكفر بإطلاق بأنه غالي أو خارجي ؟
وهل ورد عن الطرف الثاني أنهم وصفوا الأول بأنه غير مكفر نهائيا ؟
الجواب في السؤالين : لا وهذا يُبين لك الإشكال الكبير في عموم المتحاورين في هذه المسألة
وهل ورد عن أحد من السلف الامتحان بأعيان الواقعين في البدع المكفرة أم تلك بدعة معاصرة اختلقها غلاة عدم التكفير ؟
وهل يسوغ وفقا لقراءة معينة لموقف أحمد من المعتصم أن يلغى بقية كلام أحمد وكأنه غير موجود ثم يعامل من يأخذ به على أنه خارجي أو غالي وأن قوله ضعيف مع أن عامة الأئمة قائلون به ؟ علما الشيخ بنى قراءته لموقف أحمد على موضوع الصلاة خلفهم بشكل أساسي وتم بيان ما في هذا الاستدلال اذ ثبت عن أحمد الأمر بالإعادة مما يجعله حجة للفريق الثاني وعلما ان موقف أحمد ليس هو موقف كل السلف وقد يكون أحمد قائلا بأن إنكار العلو لا يشمله التفصيل الذي في غيره أو يرى مقالة الأشعرية أشد كما ذهب إليه بعض أصحابه؟
معلوم أن ابن تيمية يرى حجية العقل والميثاق ولكنه يرى العذاب متعلقا بالحجة الرسالية وذلك لأنه يقول بوجود أهل فترة ولكنه لا يقول بنجاة أهل الفترة جميعا بل يقول يمتحنون فمنهم ناجي ومنهم هالك ( وهذا عند الله ) ولا يرى أنهم يعاملون معاملة أهل الإسلام من كل وجه بل دنيويا لا يترحم عليهم وهذا أصله في باب قيام الحجة وبالتالي اعتبار كلامه في اشتراط قيام الحجة أو التفريق بين الإطلاق والتعيين كالنص في نجاة المخالفين جميعا أو عدم تكفيرهم أو حتى تفسيقهم هذا تحميل للكلام أكثر مما يحتمل
وقول ابن تيمية في قراءة كلام أحمد يقتضي ضرورة اعتبار القرائن في قيام الحجة من عدمها لأن التفريق بين شخصين وقعا في نفس المخالفة دائما يرجع لقرائن تحتف والقرائن قد تؤدي للإدانة وقد تؤدي للتبرئة وتقدم معنا اعتبار أحمد الاشتغال بالحديث أو الكلام قرينة على الإدانة في مبحث الواقفة
وأختم بكلمات لابن القيم
قال ابن القيم في مدارج السالكين : الوقوف على ما قام بالحق سبحانه من أسمائه وصفاته وأفعاله.
وهو علم التوحيد، الذي أساسه: إثبات الأسماء والصفات. وضده: التعطيل والنفي، والتهجم. فهذا التوحيد يقابله التعطيل.
وأما التوحيد القصدي الإرادي، الذي هو إخلاص العمل لله، وعبادته وحده: فيقابله الشرك، والتعطيل شر من الشرك، فإن المعطل جاحد للذات أو لكمالها. وهو جحد لحقيقة الإلهية. فإن ذاتا لا تسمع ولا تبصر ولا تتكلم ولا ترضى، ولا تغضب، ولا تفعل شيئا. وليست داخل العالم ولا خارجه، ولا متصلة بالعالم ولا منفصلة، ولا مجانبة له، ولا مباينة له، ولا مجاورة ولا مجاوزة، ولا فوق العرش، ولا تحت العرش، ولا خلفه ولا أمامه، ولا عن يمينه ولا عن يساره: سواء هي والعدم.
والمشرك مقر بالله وصفاته. لكن عبد معه غيره. فهو خير من المعطل للذات والصفات.
وقال في الصواعق المرسلة : أن هؤلاء الذين لم يكتفوا بكتابه حتى سلكوا بزعمهم طريقة العقل وعارضوه به وقدموه عليه من جنس الذين لم يكتفوا به سبحانه إلها حتى جعلوا له أندادا يعبدونهم كما يعبدون الله بل أولئك لم يقدموا أندادهم على الله فهؤلاء جعلوا لله ندا يطيعونه ويعظمونه ويعبدونه كما يعظمون الله ويعبدونه وهؤلاء جعلوا لكتابه ندا يتحاكمون إليه ويقبلون حكمه ويقدمونه على حكم كتابه بل الأمران متلازمان فمن لم يكتف بكتابه لم يكتف به فمتى جعل لكتابه ندا فقد جعل له ندا لا يكون غير ذلك البتة. فلا ترى من عارض الوحي برأيه وجعله ندا له إلا مشركا بالله قد اتخذ من دون الله أندادا ولهذا كان مرض التعطيل ومرض الشرك أخوين متصاحبين لا ينفك أحدهما عن صاحبه فإن المعطل قد جعل آراء الرجال وعقولهم ندا لكتاب الله والمشرك قد جعل ما يعبده من الأوثان ندا له ومما يبين تلازم التعطيل والشرك أن القلوب خلقت متحركة طالبة للتأله والمحبة فهي لا تسكن إلا بمحبوب تطمئن إليه وتسكن عنده يكون هو غاية محبوبها ومطلوبها ولا قرار لها ولا طمأنينة ولا سكون بدون هذا المطلوب والظفر به والوصول إليه ولو ظفرت بما ظفرت به سواه لم يزدها ذلك إلا فاقة وفقرا وحاجة وقلقا واضطرابا.
ثم شرح سبب تعلق المعطلة في الغالب بمعبودات من دون الله وهذا مشاهد في فيهم على مر التاريخ وتأمل حال الرافضة وهذان النصان نقلتهما ردا على من يشدد في أبواب الحاكمية والألوهية ثم يسهل جدا في باب الصفات
ومعلوم كلمات الأئمة : إنَّا لنحكي كلام اليهود والنصارى ولا يمكننا ان نحكي كلام الجهميةوكثير من الناس تضيق صدورهم بهذا الخطاب لأنهم عندهم هاجس مبدأي بالتجميع والواقع هذه مصادرة على المطلوب فالتجميع فرع عن إثبات الإسلام أو عدم ضرر العقيدة جدا في الآخرة أو على القلوب في الدنيا وقد تبين لك ان كل هذا لا يمكن إثباته بأدلة قطعية بل غايته القصوى أن يكون وجهة نظر الإلزام بها غلو لا معنى له سوى الاتكاء على قيم العصر التي اجتمعنا على مخالفتها بل ذلك من الإحداث في الدين نظير من يختار حل شيء وله خصوم يقولون بالحرمة وعندهم أدلة قوية فيشنع عليهم جدا بِمَا لم يسبقه إليه أحد بل عجيب أن ترى المخالف لك في الصفات والإيمان والقدر بل وتوحيد الألوهية إقامة الحجة عليه متعذرة ثم تطمع بإقامتها على مخالف لك في مسألة من مسائل الأسماء والأحكام غاية قولك فيها ان يكون قياسا! يقابله قياس! أو كلمة لعالم خالفه نظيره علما أنك تحمل مذهبه أكثر مما يحتمل