فقد رأيت جواباً لبعض الأخوة يتكلم فيه عن استدلال بعضهم بالكرامات على
صحة المعتقد ، وذهب في جوابه هذا إلى أن شم روائح المسك من القبور مما لا يؤيده شرع
ولا عقل
وهذا فيه نظر ، فعدم حصول الكرامة للصحابة أو للتابعين لا يدل على امتناعها
عمن هو دونهم ، فقد صح عن أبي مسلم الخولاني أنه ألقي في النار ولم تحرقه وأنه مضى
على الماء ، وصح عن بعض التابعين أنه دعا لحماره الميت فأحياه الله عز وجل
وكرامة شم الروائح الطيبة من القبر حصلت للبربهاري
قال ابن الجوزي في مناقب الإمام أحمد ص682 :” وقرأت بخط شيخنا أبي
الحسن ابن الزاغوني ، قال : كشف قبر أبي محمد البربهاري وهو صحيح لم يرم وظهر من قبره
روائح الطيب حتى ملأت مدينة السلام _ يعني بغداد _ “
والصحابة رضوان الله عليهم مستغنون بأحوالهم العلية عن كثير من الكرامات
التي ظهرت في المتأخرين ، وكانت على جهة التثبيت من رب العالمين
وقال ابن المبارك في كتاب الجهاد 143 – أ، عن محمد بن مطرف قال : حدثني أبو الأحدل أنه دخل على قوم ، مسجدهم بساحل من السواحل ، فلما رأوه استشرفوا ، فقالوا له : ما أشبه هذا بفلان فقلت : إن شبهتموني فشبهوني برجل صالح . قالوا : فإنه كان عندنا رجل في ركائب يعلفها ، فاستنفر الناس للغزو ، فقاتل حتى قتل ، فدفن ومعه نفقة له ، فكلم أمير الناس أن ينبشوا عنه ، فيأخذوا نفقته ، فأذن لهم . قال : فخرجنا إلى قبره ، فكشفنا عنه التراب ، فاستقبلنا ريح المسك والعنبر ، فلم نزل نكشف عنه حتى بلغنا لحده ، فلم نجد فيه شيئا
فهذا يرويه السلف غير مستنكرين
ومن شعب ضلال الجهمية الأشعرية ( وما أكثرها ) قولهم ( كل ما كان معجزة
لنبي يصلح أن يكون كرامة لولي إلا القرآن ) وقد نقض شيخ الإسلام هذا الكلام في النبوات
وليعلم أن حصول الكرامة لا تدل على صحة اعتقاد المرء
قال ابن رجب الحنبلي في ذيل طبقات الحنابلة (1/188) :” وسمعت أبا
محمد عبد الرحمن بن إبراهيم المقدسي قال: سألت الحافظ _ يعني عبد الغني المقدسي _،
فقلت: هؤلاء المشايخ يحكى عنهم من الكرامات ما لا يحكى عن العلماء، إيش السبب في هذا؟
فقال: اشتغال العلماء بالعلم كرامات كثيرة – أو قال: يريد للعلماء كرامة
أفضل من اشتغالهم بالعلم – وقد كان للحافظ كرامات كثيرة”
كذا في الأصل وصوابه والله أعلم ( ليس للعلماء كرامة أفضل )
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في الإخنائية ص104 :” وكذلك اجتماع رجال
الغيب بهم أو الخضر أو غيره وكذلك مجيء الأنبياء إليهم في اليقظة وحمل من يحمل منهم
إلى عرفات ونحو ذلك مما وقع فيه كثير من العباد وظنوا أنه كرامة من الله وكان من اضلال
الشياطين لهم لم تطمع الشياطين أن توقع الصحابة في مثل هذا فانهم كانوا يعلمون أن هذا
كله من الشيطان ورجال الغيب هم الجن قال تعالى { وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال
من الجن فزادوهم رهقا } وكذلك الشرك بأهل القبور لم يطمع الشيطان أن يوقعهم فيه فلم
يكن على عهدهم في الإسلام قبر يسافر إليه ولا يقصد للدعاء عنده أو لطلب بركة شفاعته
غير ذلك بل أفضل الخلق محمد خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم وقبره عندهم محجوب لا يقصده
أحد منهم لشيء من ذلك وكذلك التابعون لهم باحسان ومن بعدهم من أئمة المسلمين
“
وهذا الذي ذكره شيخ الإسلام وأنه من تلبيس الشيطان والأحوال الشيطانية
يذكره حتى بعض أهل الحديث ممن صنف في كرامات الأولياء
وقال المعلمي في كتاب العبادة ص259 :” وهكذا نجد نقل الكرامات عنهم
قليلاً _ يريد الصحابة والتابعين _ ، والنادر من ذلك القليل ، صحيحاً ، مع أنهم خير
الأمة ، وأقربها من الله تعالى ورسوله ، وأولاها بكل فضل ، ولا يبلغ أحدٌ ممن بعدهم
مد أحدهم ولا نصيفه ، وعمل ما عمل ولقد ينقل لواحد من أفراد الأمة بعد القرون الفاضلة
أضعاف أضعاف ما نقل عن مجموع الصحابة رضي الله عنهم وأكثر من ذلك وأنت إذا نت تدبرت
ما قدمنا فقد علمت السبب الحقيقي في ذلك _ أي أن كثيراً منها إما أكاذيب أو أحوال شيطانية
_
وأغرب من ذلك أنك تجد الصحابة وخيار التابعين ، ومن يليهم من العارفين
كانوا شديدي الخوف من الله والمقت لأنفسهم وإتهامها بالغرور والرياء وغير ذلك مع أن
منهم من مدحه الله في كتابه وبشره بالجنة على لسان رسوله”
يريد المعلمي مقارنة هذا بأحوال كثير من المتأخرين المشهورين بالصلاح
الذين اشتهر عنهم مدح أنفسهم
فهذا الشيخ عبد القادر الجيلاني وهو من أصلح الصوفية معتقداً ، فقد كان
حنبلياً_ على كلابية فيه _ وقال فيه ابن قدامة :” ما تواتر عندنا كرامات أحد ما تواترت كرامات الشيخ
عبد القادر ” أو كمال قال
يقول ابن رجب في ذيل طبقات الحنابلة (1/120) :” فأما الحكاية المعروفة
عن الشيخ عبد القادر أنه قال: قدمي هذه على رقبة كل ولي لله، فقد ساقها هذا المصنف
عنه من طرق متعددة.
وأحسن ما قيل في هذا الكلام: ما ذكره الشيخ أبو حفص السهروردي في عوارفه:
أنه من شطحات الشيخ التي لا يقتدي بهم فيها، ولا يقدح في مقاماتهم ومنازلهم، فكل أحد
يؤخذ عليه من كلامه ويترك، إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم.
ومن ساق الشيوخ المتأخرين مساق الصدر الأول، وطالبهم بطرائقهم، وأراد منهم
ما كان عليه الحسن البصري وأصحابه مثلاً من العلم العظيم، والعمل العظيم، والورع العظيم،
والزهد العظيم، مع كمال الخوف والخشية، وإظهار الذل والحزن، والانكسار والازدراء على
النفس، وكتمان الأحوال والمعارف، والمحبة والشوق ونحو ذلك – فلا ريب أنه يزدري المتأخرين،
ويمقتهم، ويهضم حقوقهم. فالأولى تنزيل الناس منازلهم، وتوفيتهم حقوقهم، ومعرفة مقاديرهم،
وإقامة معاذيرهم. وقد جعل اللّه لكل شيء قدرًا.
ولما كان الشيخ أبو الفرج بن الجوزي عظيم الخبرة بأحوال السلف، والصدر
الأول، قل من كان في زمانه يساويه في معرفة ذلك. وكان له أيضاً حظ من ذوق أحوالهم،
وقسط من مشاركتهم في معارفهم. كان لا يعذر المشايخ المتأخرين في طرائقهم المخالفة لطرائق
المتقدمين، ويشتد إنكاره عليهم.
وقد قيل: إنه صنف كتابًا، ينقم فيه على الشيخ عبد القادر أشياء كثيرة،
ولكن قد قل في هذا الزمان من له الخبرة التامة بأحوال الصدر الأول، والتمييز بين صحيح
ما يذكر عنهم من سقيمه.
فأما من له مشاركة لهم في أذواقهم، فهو نادر النادر. وإنما يلهج أهل هذا
الزمان بأحوال المتأخرين، ولا يميزون بين ما يصح عنهم من ذلك من غيره، فصاروا يخبطون
خبط عشواء في ظلماء. واللّه المستعان”
أقول : إذا كانت عبارة كتلك لا تقدح في منزلته فما الذي يقدح في منزلته؟
فمسلك ابن الجوزي أشبه بمسالك السلف على أن ابن الجوزي صدر منه ما يخالف
اعتقاد السلف في الصفات ورد عليه الحنابلة في عصره وبعد عصره والحمد لله رب العالمين
غير أن ما ذكره ابن رجب من جهل كثيرٍ من التأخرين بأخبار السلف الصالحين
مما أدى بهم إلى الاغترار بشطحات المتأخرين كلامٌ عظيم ينبغي للمرء أن يقف عنده ويطرده
في جميع أبواب الدين ليعلم عظيم رزيتنا في تركة السلف والله المستعان .
وإنك واقف على طرف من ذلك في رسالته ( بيان فضل علم السلف على علم الخلف
) ، وإذا كانت هذه الرسالة لا تفي بكل المقصود فقد أحدث الناس بعد ابن رجب الشيء الكثير
مما لو أراد المذيل أن يذيل على رسالته لخرج بمجلد ضخم والله المستعان
وَقالَ القرْطبيُّ فِي«تفسِيرِهِ» عِنْدَ قوْل ِ اللهِ تَعَالىَ : { وَإِذْ
قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ
وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ }:
قالَ عُلمَاؤُنا رَحْمَة اللهِ عَليْهمْ:«وَمَنْ أَظهَرَ الله تَعَالىَ
عَلى يَدَيْهِ مِمَّنْ ليْسَ بنَبيٍّ كرَامَاتٍ ، وَخَوَارِقَ لِلعَادَاتِ : فليْسَ
ذلِك دَالا عَلى وَلايتِه».
خِلافا لِبَعْض الصُّوْفِيَّةِ وَالرّافِضَةِ ، حَيْثُ قالوْا :«إنَّ ذلِك
يَدُلُّ عَلى أَنهُ وَلِيٌّ , إذْ لوْ لمْ يَكنْ وَلِيًّا مَا أَظهَرَ الله عَلى يَدَيْهِ
مَا أَظهَر !».
قال ابن الجوزي في تلبيس إبليس ص24 :” وقد روي بعض هذا الكلام مرفوعا
وعن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله من وقر صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام
وقال محمد بن النضر الحارثي من أصغى بسمعه إلى صاحب بدعة نزعت منه العصمة ووكل إلى
نفسه وقال إبراهيم سمعت أبا جعفر محمد بن عبد الله القابني يقول سمعت علي بن عيسى يقول
سمعت محمد بن إسحاق يقول سمعت يونس بن عبد الأعلى يقول قال صاحبنا يعني الليث بن سعد
لو رأيت صاحب بدعة يمشي على الماء ما قبلته فقال الشافعي إنه ما قصر لو رأيته يمشي
على الهواء ما قبلته وعن بشر بن الحارث أنه قال جاء موت هذا الذي يقال له المريسي وأنا
في السوق فلولا أن الموضع ليس موضع سجود لسجدت شكرا الحمد لله الذي أماته هكذا قولوا
“
ومن اللطائف أن رشدين بن سعد كان متروك الحديث ومع ذلك كان مستجاب الدعوة
، وكذلك عبد الله بن عمر العمري كان ضعيفاً في الحديث ومع ذلك هو مستجاب الدعوة
وقال الذهبي في تاريخ الإسلام (9/307) :” عبد الملك بن مواهب بن مسلم
بن الربيع. أبو محمد، وأبو القاسم السلمي، البغدادي، النصري، الوراق، الشيخ الصالح
الذي كان يذكر أنه رأى الخضر.
روى عن: القاضي أبي بكر الأنصاري.
قال الدبيثي: كان صالحاً، حسن الطريقة. توفي في تاسع ربيع الآخر.
روى عنه: هو، وابن خليل، والنجيب بن الصيقل.
وقرأت بخط شيخنا ابن الظاهري قال: كان صالحاً مستجاب الدعوة، يأكل من كسب
يده، وكان يزعم أنه يرى الخضر عليه السّلام”
فهذا انطلت عليه تلك الخرافة وربما كان هذا من تلبيس الشيطان ، والمراد
أن الاستقامة هي الكرامة ولا يدري المرء هل هذا استدراج أم هو كرامة حقيقية والله أعلم
بما يختم للمرء
والإنسان يحاكم في جميع أحواله وأقواله إلى الكتاب والسنة وما كان عليه
السلف ، ولو ملأت كراماته المجلدات فأتى بالشطحات فإن ذلك ينكر عليه ويحكم عليه بما
يناسب ، هذا إن صحت ما يروى من الكرامات ، وكل صاحب حق فإنه لا يحتاج إلى إثبات ما
هو عليه من الصواب بغير أدلة الكتاب والسنة وما كان عليه السلف
واللجوء إلى مثل هذا في إثبات صلاح المذهب بهذه الطرق دليل على الإفلاس
هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم