تصريح ابن سينا بالنهي عن تدريس العوام الفلسفة !
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما بعد :
معلوم أن ابن سينا هو أكبر الفلاسفة المنتسبين للإسلام وقد تباكى أدعياء التنوير كثيراً على تكفير الغزالي له لقوله بأن الله لا يعلم الجزئيات ومقالات أخرى ولكن كثيرين يجهلون حقيقة مذاهبه في الإلهيات وسأنتقي اليوم نصاً يجهله كثيرون يصرح فيه بأنه لا ينبغي أن ينشغل العامة بالأبحاث الفلسفية
قال ابن سينا كما في تسعة رسائل له في الحكمة والطبيعيات الرسالة الثانية ص54 :” لكن القوم يتعجبون مما استندروه فألهمهم التعجب والبحث عن العلة ولم يعرض لهم ذلك فيما كثرت مشاهدتهم له والدليل على ذلك أن في المركبات ما حكمه أعجب من حكم المغناطيس في جذب الحديد وهذا الحيوان الحساس المتحرك بالإرادة الذي يغتذي وينمو ويولد بل الإنسان وما يخصه من الأحكام الإنسانية وهؤلاء القوم من المتفلسفة لما لم يعرفوا الأصول وأخذوا يتعجبون من النار وأخذوا ينكرون أيضاً النادر إذ لم يضطرهم إلى الإقرار به المشاهدة فأنكروا الوحي ومعجزات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والرؤيا والعين والكهانة والوهم والعرافة وكثيراً من أمثال هذه الأشياء ، وأما المحققون من الحكماء ففرقة موجبة لوجود جميع هذه الأشياء لما أمعنت في البحث إمعاناً مستقصياً وفرقة مجوزة لما كادت أن تبلغ درجتهم ولم تبلغ بعد والمشهورون من أهل الدرجة الأولى عددهم قليل ويوشك أن يكون عدد من أعرفه منهم في هذه الستة آلاف سنة من المتفلسفة ثلاثة أو أربعة ولهذا نحن ننكر أن يشتغل الناس بهذه العلوم فإن المستعدين لها قليل والمستفرغين من المستعدين أقل والصابرين بعد الفراغ أقل كثيراً “
أقول : ابن سينا هنا يتكلم عن الفلسفة الطبيعية وأن هناك فلاسفة ماديين أكسبهم كثرة النظر في المادة جموداً جعلهم ينكرون كل نادر للوقوع غير مشاهد ( وهذا حال الكثيرين منهم اليوم في الغرب )
ثم يعقب أن الغالبية من الحكماء ( يعني الفلاسفة ) يخالفونهم في هذا النفي فمن متوقف ومن محقق ثبت عنده وجود هذه الأشياء بالأدلة
ثم يعقب بأنه لهذا السبب لا يرى اشتغال الناس ( ويعني بهم الدهماء والعوام وإلا هو مشتغل ) بهذه العلوم إلا نخبة النخبة ! لأن من ليس كذلك يقوده الاشتغال بهذا إلى الضلال أو فساد الرأي
حقيقة هذا الكلام لو قاله فقيه لاتهموه بأنه ضد العلم وسبب تخلف المسلمين ولكن هذا يقوله ابن سينا ومعروف من هو ابن سينا
والتوسط أن يشتغل بالحق من الطبيعيات مع قرن بالوحي والعلم الشرعي ليستقيم الأمر مع اطراح المرذول والمشكوك فيه
وإذا كان هذا الرأي في الطبيعيات فما عسى أن يقال في الإلهيات وابن رشد نفسه كان على مذهب عدم إشغال الناس بالفلسفة
قال ابن تيمية في بيان التلبيس :” ومن أكثر الناس عناية بها، وقولًا بها وشرحًا لها، وبيانًا لما خالفه فيه، «ابن سينا» وأمثاله منهم القاضي «أبو الوليد بن رشد» الحفيد الفيلسوف، حتى أنه يردّ على من خالفهم، كما صنف كتابه «تهافت التهافت» الذي ردَّ فيه على «أبي حامد الغزالي» ما ردّه على الفلاسفة، وإن لم يكن مصيبًا، فيما خالف فيه مقتضى الكتاب والسنة، بل هو مخطئ خطأً عظيمًا، بل ما هو أعظم من ذلك، وإن زعم أنه أوجبه البرهان، وأنه من علم الخاصة دون الجمهور”
وهذا موجود في كلامه صريحاً
وقال البطليوسي في الحدائق العلية :” وَمِنْهُم من جعلهَا خمس عشرَة مرتبَة تسع للأفلاك وَخمْس لما تَحت فلك الْقَمَر وَهِي
النَّفس النباتية وَهِي أدناها مرتبَة
وفوقها النَّفس الحيوانية
وفوقها النَّفس الناطقة
وفوقها النَّفس الفلسفية
وفوقها النَّفس النَّبَوِيَّة”
ومعنى هذا أن نفس الفيلسوف تقبل ما لا تقبله النفس الناطقة ( البشرية العادية ) كما أن النفس البشرية تقبل ما لا تقبله النفس الحيوانية
وقد مفرقاً بين النفس الناطقة والنفس الفلسفية :” خَواص النَّفس الإنسانية وَهِي الناطقة
خَواص هَذِه النَّفس الروية والفكر ومحبة الْعلم والمعرفة وَلها الهياكل المنتصبة وَالْعَمَل باليدين
خَواص النَّفس الْحكمِيَّة الفلسفية
خَواص هَذِه النَّفس محبَّة الْعُلُوم النظرية الَّتِي لَا يُرَاد مِنْهَا أَكثر من الْوُقُوف على حقائقها فَقَط والحرص على معرفَة أَسبَاب الْأَشْيَاء وعللها وَالِاسْتِدْلَال بظواهر الْأُمُور على بواطنها وَمَعْرِفَة مَرَاتِب الموجودات فِي الْوُجُود وَكَيف انبعثت عَن البارئ عز وَجل وَكَيف انْبَعَثَ بَعْضهَا من بعض بِمَا سرى فِيهَا من وحدانية الله تَعَالَى الَّتِي حصلت لكل مَوْجُود ذَات ينْفَصل بهَا من ذَات مَوْجُود آخر
وَبهَا يكون وجود الصُّور فِي الهيولى وَفِي الْمَوْضُوع الشبيه بالهيولى وَهُوَ الْجَوْهَر الْحَامِل لصور الأفلاك وَالْكَوَاكِب وَهل الْعَالم قديم أَو مُحدث وَمَا الْفرق بَين الأزلي والمحدث
وَمَا الْفرق بَين الأزلي الْمُطلق والأزلي الْمُضَاف
وَمَا الْفرق بَين الْمُبْدع والمكون
وَكَيف صَار الْمُبْدع وَاسِطَة بَين الأزلي والمكون
وَهل خالق الْعَالم وَاحِد أَو أَكثر من وَاحِد
وَإِقَامَة الْبَرَاهِين على أَنه لَا يَصح أَن يكون إِلَّا وَاحِدًا لَا يشبه شَيْئا وَلَا يُشبههُ شَيْء
وَمَا الْحِكْمَة فِي وجود الْأَشْيَاء على مَا هِيَ عَلَيْهِ
وَمَا المكون مِنْهَا وَمَا الْمُبْدع
وَمَا الْفرق بَين الْفَاعِل على الْحَقِيقَة وَالْفَاعِل على الْمجَاز وَالْفَاعِل الْمُطلق وَمَا الْحِكْمَة فِي دوران الأفلاك حَرَكَة مستديرة غير مُسْتَقِيمَة
وَمَا الْوَاجِب وَمَا الْمُمكن وَمَا الْمُمْتَنع
وَكَيف صَار مَا فَوق الْأَرْبَعَة الْأَركان من حيّز الْوَاجِب وَمَا تَحت الْأَركان من حيّز الْمُمكن
وَمَا الموجودات الَّتِي أُوتيت كمالها فِي جواهرها وأفعالها وَمَا الموجودات الَّتِي لم تؤت كمالها لَا فِي جواهرها وَلَا فِي أفعالها فهما طرفان
وَمَا الموجودات الَّتِي أُوتيت كمالها فِي جواهرها وَلم تؤت كمالها فِي أفعالها فَصَارَت متوسطة بَين الطَّرفَيْنِ
وَلم سكن الصِّنْف الأول فَلم تكن لَهُ حَرَكَة وتحرك الصنفان الْآخرَانِ
وَمَا الْحِكْمَة فِي وجود النواميس والنبوات فِي عَالم الْكَوْن وَالْفساد
وَمَا الْفرق بَين النُّبُوَّة وَالسحر وَالْكهَانَة والفلسفة
وَكَيف تفيض قُوَّة الْوَحْي على الْأَنْبِيَاء
وَمَا الْفرق بَين الْإِنْسَان الَّذِي يُوحى إِلَيْهِ وَالَّذِي لَا يُوحى إِلَيْهِ
وَلم صَار الْإِنْسَان مَأْمُورا مَنْهِيّا دون غَيره
ومل سمي عَالما صَغِيرا وَسمي الْعَالم إنْسَانا كَبِيرا
وَمَا السياسة وَكم أَنْوَاعهَا
فَهَذِهِ الْأُمُور كلهَا من خَاصَّة النَّفس الفلسفية أَن تعرفها
بَعْضهَا على جِهَة التَّصَوُّر وَبَعضهَا على جِهَة التَّصْدِيق من غير تصور وَلَكِن لَيست كل نفس تتعاطى الفلسفة يتهيأ لَهَا أَن تعرف ذَلِك كُله وَلَكِن تعرف بعضه
وَإِنَّمَا تتهيأ معرفَة هَذِه الْأُمُور على كمالها للنَّفس الَّتِي اتّفق لَهَا فِي فطرتها وَكَونهَا أَن فطرت وفيهَا استعداد لقبُول ذَلِك وَكَانَت هاجرة للذات مميتة للشهوات زاهدة فِي الدِّينَار وَالدِّرْهَم محبَّة للخير وَأَهله مبغضة للشر وَأَهله مرتبطة بالنواميس مكتسبة للفضائل مطرحة للرذائل قد اجْتمع لَهَا الْعلم وَالْعَمَل
فَهَذَا هُوَ الفيلسوف الْحق عِنْد ارسطو وأفلاطون”
فلم لم يكن كذلك فنفسه ناطقة قريبة من الحيوانية إلقاء الفلسفة عليها ضرر فيما يرون
وهذا المسلك قديم في الفلاسفة إليه أشار سقراط في محاورة جورجياس وقال ابن سينا في رسالته في إثبات النبوات :” وأما أفلاطون فقد عذل أرسطاطاليس في إذاعته الحكمة وإظهاره العلم ” !
إذا فهمت هذا تعلم سفه أمثال عدنان إبراهيم ممن يلقي بعض الدقائق التي هو نفسه لم يحسن فهمها جيداً على العامة وبتخبيط أيضاً وعلى منبر الجمعة
وليست هي من أصول الوحي التي ينبغي على المسلم أو طالب العلم تعلمها
ولعدة من علماء الكلام تصريحات في النهي من طرح المسائل الكلامية على العوام مع أنها عقيدتهم وكتاب الغزالي إلجام العوام معروف فالحمد لله من جعل عقيدته الوحي استراح
وما تخوفه ابن سينا على المغالين في الفلسفة الطبيعية نراه في الغرب حالياً جلياً وهذا هو عور عملهم الذي فيه الكثير من الجيد وأيضاً الكثير من الرديء
وهنا فائدة زائدة يقول ابن سينا في رسالته الثالثة في الخواص الإنسانية ص70:” وإذا كان في قدرة الصانع أن يجعل قوة الإدراك في عضو البصر أعني البصر الذي يكون بعد البعث لم يبعد أن يكون تعالى مرئياً بعد القيامة من غير تشبيه ولا تكييف “
وقال محمد منكلي في أنس بوحش الفلا :” ولا ينبغي المبالغة في الاشتغال بعلم المنطق إلا لرجل زاهد متورع، عالم بالشرائع، وأما من قرأ الشمسية أو غيرها أو رسالات في المنطق مثلاً ولم يكن قد أتقن الفقه والحديث وتزهد ثم قرأ أصول الدين وأصول الفقه وتدرب في العلوم الشرعية فإنه يسلم من آفات المنطق كتجهيل غيره، فإذا لم يكن كذلك فلا يعول على ما قرأه من علم المنطق.
ورأيت أكثرهم متكبرين معجبين، فلنعد إلى ما كنا فيه”
قال الفيلسوف الصيني الموهي موتسو _ وقد توفي قبل ميلاد المسيح بقرون :” طريقة اكتشاف ماذا إذا كان أي شيء موجوداً أم لا ، تتمثل في الاعتماد على شهادة أعين وآذان الجمهور ـ فإذا كان البعض قد سمعه أو البعض قد رآه فعلينا القول بوجوده ، وإذا لم يكن أحد سمعه ولا رآه فعلينا القول بعدم وجوده وطالما أن هناك منذ أقدم العصور وحتى عصرنا الحالي بل ومنذ بداية البشرية أناساً رأوا أبدان الأرواح والأشباح وسمعوا أصواتها فكيف يمكننا القول بعدم وجودها “ مستفاد من كتاب تاريخ الصين في العلم والحضارة _
وهذا قريب من كلام ابن سينا
هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم