كنت قبل مدة قد قرأت مقالاً للشيخ عبد القادر بن حبيب الله السندي منشور في مجلة الجامعة الإسلامية العدد 16 بعنوان دور المستشرقين في تشويه الحقائق الإسلامية نقل فيه قول المستشرق الألماني جوزيف هوروفتس :” وإن علماء الدين كانوا جميعا معادين للشعر، بل وجد في المدينة نفسها أعلام من العلماء الدينيين قد برزوا في قول الشعر، وأشهر مثل لذلك تتحقق فيه هذه الصلة عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، وهو ممن حارب مع النبي في أُحد، وقد خصص أبو الفرج الأصبهاني في كتاب الأغاني فصلا لعبيد الله هذا، وأورد طائفة من شعره، وفعل مثل ذلك ابن سعد في طبقاته وهو معدود من فقهاء المدينة السبعة.
وحينما تيمه حب هذلية حسناء دعا الفقهاء الستة الآخرين في أشعاره التي يخاطبها بها، ليشهدوا على قوة حبه الذي برح به قال:
أحبك حبا لو علمت ببعضه.
لجدت ولم يصعب عليك شديد.
فحبك – يا أم الصبي – مدلهي.
شهيدي أبو بكر وأي شهيد .
ويعلم وجدي القاسم بن محمد.
وعروة ما ألقى بكم وسعيد.
ويعلم ما أخفى سليمان علمه.
وخارجة يبدي لنا ويعيد.
متى تسألي عما أقول فتخبري.
فللحب عندي طارف وتليد.”
فعلق الشيخ عبد القادر بقوله : قلت: عجيب أمر هذه الآبيات المنسوبة إلى عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود رحمه الله تعالى، أُنظروا براعة المستشرق في إيرادها في ترجمة أبان بن عثمان الأموي رحمه الله تعالى، ثم عندي بعض الأسئلة أرغب في توجيهها إلى المستشرق: أ- هل عرفت تلك الشخصية التي نسبت إليها هذه الآبيات بناء على إخراجها من قبل أبي الفرج الأصبهاني في كتابه الأغاني؟
ب- هل تتفق هذه المعاني القبيحة التي تحملها هذه الأبيات مع ترجمة عبيد الله المذكور؟
ح- هل درست إسناد هذه الأبيات؟
إن كنت لا تدري فتلك مصبية.
أو كنت تدري فالمصيبة أعظم.
وأما ترجمته:
فهو عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلي رحمه الله، أبو عبد الله المدني.
قال العجلي: “كان أعمى، وكان أحد فقهاء المدينة، تابعي ثقة، رجل صالح، جامع للعمل، وهو معلم عمر بن عبد العزيزن قال أبو زرعة الرازي: ثقة، إمام”.
قال الطبري: “كان مقدما في العلم، والمعرفة بالأحكام، والحلال والحرام. وكان مع ذلك شاعرا مجيدا”، وقال بن عبد البر: “كان أحد الفقهاء العشرة، ثم السبعة الذين تدور عليهم الفتوى، وكان عالما فاضلا، مقدما في الفقه، تقيا، شاعرا محسنا، لم يكن بعد الصحابة إلى يومنا هذا – فيما علمت – فقيه أشعر منه، ولا شاعر أفقه منه”.
وقال أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز: “لو كان عبيد الله حيا ما صدرت إلا عن رأيه” .
قلت: لم يلزم من كونه شاعرا، أن يكون شعره كهذا الشعر الساقط السافل.
ب- لم تتفق هذه المعاني القبيحة المنكرة مع ترجمة المذكور، وقد اتفق علماء الحديث على أنه إمام، تقي، زاهد، كما تراه في المصادر المذكورة.
ح- وأما إسناد هذه الأبيات فهو إسناد موضوع مكذوب كما ستراه إن شاء الله تعالى.”
ثم تكلم على نقد الإسناد بما فيه قصور سنصلحه إن شاء الله تعالى ولكن قبل الحديث ينبغي أن يعلم أن الأخبار التي توجد في كتب الأخباريين ليست بمنزلة الأخبار التي توجد في كتب المحدثين
وإنهم ليوردون العجائب ويتأثر بهم بعض المتأخرين من المنتسبين للحديث فيذكرون هذه الأخبار دون تحقيق الشيخ عبد القادر عصب الجناية بالأصفهاني وهذا غير دقيق فهذا الخبر مداره على التحقيق على اثنين ليس لهما في الكتب إلا هذا الخبر !! وهما متأخران جداً زماناً عن عبيد الله
جاء في التمهيد لابن عبد البر حدثني أحمد بن محمد وعبد الرحمان بن يحيى قالا حدثنا أحمد بن سعيد حدثنا أحمد بن محمد بن زياد الأعرابي حدثنا أبو عبد الرحمان القاسم بن حبيش بن سليمان بن برد حدثنا أحمد بن سعيد الفهري حدثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي حدثنا إسماعيل بن يعقوب التيمي عن عبد الرحمان بن أبي الزناد عن أبيه قال قدمت امرأة من هذيل من ناحية مكة المدينة وكانت جميلة فخطبها جماعة من أشراف أهل المدينة فأبت أن تتزوج وكان معها بني لها فبلغ عبيد الله بن عبد الله بن عتبة امتناعها فعرض للقوم فقال: وذكر الأبيات
القاسم بن حبيش بن سليمان المذكور هنا لم أجد له في الكتب إلا هذه الرواية فقط وعليه هو مجهول عين
وللخبر إسناد آخر هو أشهر وهو ما روى الخرائطي في اعتلال القلوب 558 – حدثنا أبو يوسف الزهري قال: حدثنا الزبير بن بكار قال: حدثني سليمان بن داود المخزومي قال: حدثني إسماعيل بن يعقوب التيمي وذكر القصة بالسند والمتن
وسليمان بن داود المخزومي هذا مجهول وما رأيت له في الكتب إلا هذا الخبر
ولو فرضنا أنهما ثقتان فنهاية الرواية إلى إسماعيل بن يعقوب التيمي قال الذهبي في ميزان الاعتدال :” 969 – إسماعيل بن يعقوب التيمي.
عن هشام بن عروة.
ضعفه أبو حاتم.
وله حكاية منكرة عن مالك ساقها الخطيب”
وإذا كانت له حكاية منكرة عن مالك فمن باب أولى أن يروي المنكر عن عبيد الله الذي هو أستاذ أستاذ مالك
وهذه الأبيات عن عبيد الله في كتب الأدباء المتأخرين جرت مجرى الأخبار الصحيحة فاستدل بها ابن رشيق القيرواني في العمدة في نقد الشعر وكذلك ابن حزم في طوق الحمامة أشار إليها إشارة ومثله نقاد وليس كمثل الأدباء بل له حظه من الفقه والحديث ولكنه هنا قصر نقده وسبحان الله أنكر صحة كرامات أبي مسلم الخولاني المتواترة ثم يحيل على هذه الرواية العجيبة ولعله حمله على المزاحة إذ أن عبيد الله كان أعمى أصلاً وما خطب المرأة ولكنه يتكلم على لسان خاطبيها غير أن ذكر الفقهاء واستشهادهم هو محل الغرابة فمثل هذا لا يقع ممن تأخر عنهم فكيف بهم
وأما أهل الاستشراق وغيرهم فهؤلاء عادتهم إنكار المتواترات وتضعيف الأخبار التي لا تعجبهم ولكن هنا لما جاء الأمر على الهوى تم التسامح ونقد السندي متنياً معتبر خصوصاً وأن في الأبيات سبكة لا تشبه أبيات المتقدمين
وفي التاريخ الكبير للبخاري قَالَ عَبد اللهِ، عَنِ ابْن عُيَينَةَ: قِيلَ للزُّهرِيّ: أكَانَ عُبَيد اللهِ يَقُولُ الشِّعر؟ قَالَ: وهل يستطيع الَّذِي بِهِ الصدر أن لا يُشعر.
ولو كان عبيد الله يكثر الشعر جداً حتى يقول شعراً ظريفاً مثل المذكور في القصة لاشتهر هذا الشعر جداً إلى حد لا يسأل الزهري عنه أكان شاعراً أم لا وإنما شعره قليل وليس من ذاك الذي يتناقل كثيراً ولو صح ذلك لرواه المحدثون واحتج به الفقهاء أو نقلوه مذهبًا ولم ينفرد به الإخباريون المعروفون بكثرة رواية أخبار الفساق ومتهتكي الشعراء
قال إسحاق بن منصور: قلت: ما يكره من الشعر؟
قال: الهجاءُ والرقيق الذي يشبب بالنساءِ، وأما الكلام الجاهلي فما أنفعه، قال رسول اللَّه: “إن من الشعر لحكمة” .
قال إسحاق: أو كما قال.
“مسائل الكوسج” (3274)
وما قاله أحمد ليس رأياً مجرداً بل له مستند من السنة ففي الصحيح من حديث أبي هريرة : يذكر النبي صلى الله عليه وسلم يقول إن أخا لكم لا يقول الرفث يعني بذاك ابن رواحة
والناس يتوسعون في تفسير الرفث غير المؤدي إلى الشيء يأخذ حكمه كما ورد في الحديث ( لا تباشر المرأة المرأة فتنعتها للرجل كأنه يراها ) وقد رخص بعض السلف بالشيء من الغزل العام يعلم للرجل يقوله لزوجته يستطيب به قلبها وكان ابن سيرين يفعل ذلك