وكيع بن الجراح الرؤاسي من كبار ثقات المحدثين ممن خرج حديثهم في الكتب، واعتمد كلامهم في العقائد والحديث، وإذا نظرت في تراجمه المتقدمة إنما تجد الثناء العظيم من الأئمة عليه مع كونه كوفياً لا يخلو من يسير تشيع في العادة.
ذُكِرتْ عنه في كتاب المعرفة والتاريخ رواية عجيبة في مقارنته عثمان بن عفان بالحجاج بن يوسف الثقفي:
قال يعقوب في المعرفة (2/806) : “وسمعت الحسن بن الربيع قال: قال محمد بن عبد الله بن إدريس -وكان عندنا أفضل من أبيه، وكان رجل صدق- قال: دخلت على وكيع ليقرأ علي شيئا من كتبه، فجرى شيء من ذكر الحسن ابن صالح فقلت له: ألا تدع حديثه؟ قال: ولم أدع حديثه هو عندي إمام. قال: فقلت: إنه كان لا يترحم على عثمان. قال: فقال لي وكيع: أفترحم أنت على الحجاج؟ أتترحم على أبي جعفر؟”.
وقد كنت مغتراً بهذه الرواية زمناً.
وعادة أهل الحديث أنهم ينالون ممن يقول أقل من هذا، فلم سكتوا عن وكيع مع ورود مثل هذا التشبيه الشنيع الذي لا يجرؤ عليه حتى الروافض، بل أكثروا من الثناء على وكيع!
الجواب: أن هذه الرواية ليست محل تثبيت، وورد عن وكيع ما يدل على أن رأيه في عثمان ليس بهذا القبح.
فالراوي محمد بن عبد الله بن إدريس الأودي كان رجلاً صالحاً لا ينكر صلاحه، وقد ورد أن الدارقطني وثقه، ولكن ذلك في رواية السلمي عنه، والسلمي متهم، وقال الحسن بن الربيع أنه رجل صدق غير، أن الحسن ليس من أئمة الجرح والتعديل، وورد عن أحمد ثناء على دينه ظنه بعض الناس ثناءً على تثبته في الحديث.
قال المروذي في الورع: “47- سمعت أبا عبد الله يقول كان محمد أفضل من أبيه عبد الله بن إدريس”.
وهذا ثناء على صلاحه وليس وثاقته، بدليل أن المروذي أورد الخبر في الورع وليس في العلل.
وبدليل أن محمداً ليس له كبير رواية، ولم يُخرّج له في الكتب الستة، وما روى أحمد عنه، وأما أبوه فثقة ثبت معروف محتج به في الكتب، فكيف يتركون الفاضل ويقبلون على المفضول!
فعُلِم أن القصد بذلك الديانة كما رُويَ عن أبي هريرة أنه قال ما رأيت أفضل من جعفر. وحُمِل ذلك على السخاء، وكذلك ما قيل في أن عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز أفضل من أبيه. أرادوا الصلاح لا العدل في الولاية، فعبد الملك ما ولي البتة.
والصلاح في نفسه يكفي في المقطوعات إلا أن تكون الرواية محل نكارة.
وقد قلت في مقالي القديم [التجوز في قبول رواية الضعفاء للآثار التي يروونها عن شيوخهم ولا تستنكر]: “وأنا أكرر (ما ينكر) لأنني وجدت توهيم بعض الثقات لما رووا عن الأئمة ما يستنكره تلاميذهم والمختصون بهم”.
ثم ذكرتُ أمثلة على روايات استنكرت على ثقات رووها عن شيوخهم، وخبر حنبل في تأويل المجيء عندنا معروف، وغيرها من الأخبار، كمن نسب للشافعي تجويز إتيان المرأة في الدبر، وكرواية عبد الله عن أبيه في مسح الرقبة.
فإن قيل: ما الدليل على أن مثل هذا مستنكر عن وكيع؟
فيقال: قد ثبت عنه رواية فضائل عثمان، وكان أحمد يتحرى رواية الأخبار من طريقه، وكأنه يشير إلى براءته.
- قال الإمام أحمد في فضائل الصحابة: “769- قثنا وكيع قثنا الأعمش، عن أبي صالح، عن عبد الله بن سلام قال: لا تقتلوا عثمان، فإنكم إن فعلتم لم تصلوا جميعا أبدا”. وهو في كتاب فضائل عثمان لابنه عبد الله وفي السنة للخلال من طريقه.
- قال الخلال في السنة: “441- أخبرنا محمد، قال: أنبأ وكيع، عن الأعمش، عن ثابت بن عبيد الأنصاري، عن أبي جعفر الأنصاري، قال: رأيت عليا محتني بسيفه وهو جالس، قال علي: ما صنع بالرجل؟ قلت: قتل، قال: تبا لكم سائر الدهر”.
- قال أحمد في فضائل الصحابة: “803- قثنا وكيع، عن سفيان، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر الحديث وقال في آخره: «وأصدقها حياء عثمان»”. ولأحمد قصد في رواية هذا من طريق وكيع.
وقد روى وكيع حديث لا تسبوا أصحابي أيضاً وروى خبر عائشة: “أمروا بالاستغفار لأصحاب محمد، فسبوهم وروى خبر ابن عمر: لا تسبوا أصحاب محمد، فلمقام أحدهم ساعة خير من عمل أحدكم عمره”. وروى قول ميمون بن مهران: ثلاث ارفضوهن: سب أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، والنظر في النجوم، والنظر في القدر”. - وقال أحمد في فضائل الصحابة: “ونا وكيع قثنا سفيان، عن حصين ومنصور، عن هلال، عن سعيد بن زيد. قال وكيع: وقال سفيان: عن حصين، عن هلال، عن ابن ظالم، عن سعيد بن زيد. قال وكيع: ولم يحدثه منصور، عن هلال، عن سعيد بن زيد. قال أبو عبد الرحمن: وقال هؤلاء كلهم: عن حصين، عن هلال، عن عبد الله بن ظالم، عن سعيد بن زيد قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بحراء، فقال: «اسكن حراء، فإنه ليس عليك إلا نبي، أو صديق، أو شهيد». قال: قيل: ومن هم؟ قال: أبو بكر، وعمر، وعلي، وعثمان، وطلحة، والزبير، وسعد، وابن عوف، قال: فقيل فمن العاشر؟ قال: أنا، يعني نفسه”. فهو يروي الخبر الذي فيه التنصيص على أن عثمان شهيد.
- وقال أحمد في فضائل الصحابة: “87- نا وكيع، ومحمد بن جعفر، قالا: نا شعبة، وحجاج، قال: حدثني شعبة، عن الحر بن الصياح، عن عبد الرحمن بن الأخنس قال: خطبنا المغيرة بن شعبة فنال من فلان، فقام سعيد بن زيد فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «النبي في الجنة، وأبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة، وطلحة في الجنة، والزبير في الجنة، وعبد الرحمن بن عوف في الجنة، وسعد في الجنة»”. وهنا يروي خبر تبشيره بالجنة.
- وقال الخلال في السنة: “416- أخبرني الميموني، قال: حدثنا ابن حنبل، قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن أبيه، عن ابن الحنفية، عن علي، قال: لو سيرني عثمان إلى ضرار لسمعت وأطعت”.
- وقال الخلال في السنة: “420- أخبرني عبد الملك، قال: حدثنا ابن حنبل، قال: حدثنا وكيع، عن مسعر، عن عمران بن عمير، عن كلثوم الخزاعي، قال: سمعت ابن مسعود يقول: ما أحب أني رميت عثمان بسهم، وإن لي مثل أحد ذهبا، قال مسعر: أراه قال: أريد قتله”.
- وقال الخلال في السنة: “429- أخبرني عبد الملك، قال: حدثنا ابن حنبل، قال: حدثنا وكيع قال: حدثنا مسعر، وأخبرنا الأحمسي، قال: حدثنا وكيع، عن مسعر، عن عبد الملك بن ميسرة، عن النزال بن سبرة، قال: سمعت عثمان، يقول: أنا أتوب إلى الله إن كنت ظلمت، أو إن كنت ظلمت”. فهل يعقل من روى هذا عن عثمان يقارنه بالحجاج! فلعله قصد مروان وتصحفت على الراوي.
- قال الخلال في السنة: “436- حدثنا عبد الملك، قال: حدثنا ابن حنبل، قال: حدثنا وكيع، عن فطر، عن زيد بن علي، قال:كان زيد يوم الدار يبكي على عثمان”. يعني اذا ذكر ذلك اليوم والا فهو لم يدركه
- وقال الخلال في السنة: “542- وقرأت عليه: يحيى، ووكيع، عن مسعر، قال وكيع: عن عبد الملك بن ميسرة، عن النزال، قال وكيع: سمعت ابن مسعود لما استخلف عثمان، قا: أمرنا خير من بقي ولم نأل”.
فتلك عشرة كاملة.
فإن قيل: ما الدليل على أن وكيعاً يعتقد هذه الروايات؟
فيقال: ألا ترى أنه مكثر من الأمر، وهذه بينة التقصد.
وقال عبد الله في السنة: “587 – حدثني أبي، نا وكيع، بحديث إسرائيل عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن خليفة، عن عمر رضي الله عنه قال: «إذا جلس الرب عز وجل على الكرسي» فاقشعر رجل سماه أبي عند وكيع فغضب وكيع وقال: أدركنا الأعمش وسفيان يحدثون بهذه الأحاديث لا ينكرونها”.
فهنا وكيع يظهر أنه إذا حدث ولم ينكر فمعناه أنه قابل بالمعنى بالجملة.
بل إن وكيعا له كتاب في فضائل الصحابة ذكره العلائي في إثارة الفوائد ويبدو أن الروايات منه فهو تعانى التصنيف في الأمر
وأخيراً قال الحاكم في كتابه شعار أصحاب الحديث: “17- سمعت محمد بن إسحاق الثقفي، قال: سمعت أبا رجا قتيبة بن سعيد قال: “هذا قول الأئمة المأخوذ في الإسلام والسنة: الرضا بقضاء الله، والاستسلام لأمره، والصبر على حكمه،…
إلى أن قال: وأفضل هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر ثم عثمان، والكف عن مساوئ أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يذكر أحد منهم بسوء.
ثم قال: وإذا رأيت الرجل يحب سفيان الثوري، ومالك بن أنس، وأيوب السختياني، وعبد الله بن عون، ويونس بن عبيد، وسليمان التيمي، وشريكا، وأبا الأحوص، والفضيل بن عياض، وسفيان بن عيينة، والليث بن سعد، وابن المبارك، ووكيع بن الجراح، ويحيى بن سعيد، وعبد الرحمن بن مهدي، ويحيى بن يحيى، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه فاعلم أنه على الطريق…”.
فذكر وكيعاً في الأئمة الذي نقل اعتقادهم وهو معاصر له .
بل يظهر أنه حتى في أمر السيف ما كان موافقا للحسن بدليل نقده لأبي حنيفة في الأمر ( رواه العقيلي في الضعفاء ) وسكوته عن ذلك لما ذكروا ذلك في ثلب الحسن أمامه ( وذلك ثابت بسند صحيح ) وكنت قديما اغتررت بشيء روي عن يوسف بن أسباط في الأمر .
والفقاعة حقاً من يتخذه الآخرون بيدقاً يمررون أفكارهم من خلاله وقد قيل قديماً: (لا تجادل عالماً في علمه). ولا أزعم لنفسي أنني عالم، ولكن أمر الآثار أخذ وقتاً مني، وأعلم ما يخرج من رأسي إن تحدثت فيه خلافاً لمن تحركهم شبهة منشورة في موقع شيعي أو صوفي.