تحرير موقف شيخ الإسلام ابن تيمية من أهل الرأي

في

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

فإن مما اشتهر في هذه الأعصار ، التي صارت تضج بالأطروحات الخلفية في كل باب ، الخلط بين أهل الحديث وأهل الرأي والتسوية بينهم في الثناء عليهم ، وذكرهم بالإمامة وإظهار كلام السلف في أهل الرأي على أنه من باب الحسد أو التسرع أو حظ النفس.

ثم نسبة مثل هذا إلى إمام جبل ملأ الدنيا علماً ونوراً وهو شيخ الإسلام ابن تيمية ، محتجين برسالته ( رفع الملام عن الأئمة الأعلام ) ، زاعمين أنه ما صنف هذه الرسالة إلا للذب عن أهل الرأي

فغلط في ذلك فريقان، فريق حط عليه لذلك ونسبه إلى مخالفة السلف في الموقف من أهل الرأي

وفريقٌ زعم أن هذا هو الاعتدال وما سواه جنفٌ ومخالفةٌ للقصد وصار يدعي الإجماع على ترك ذكر مثالب أهل الرأي مستهيناً بالسلف حتى عبث بعضهم ببعض كتب أئمة الإسلام وأخذ يحذف منها ما يتعلق بثلب أهل الرأي ، وما رأيناهم يحذفون الأشعريات والصوفيات في بعض الكتب والمستعان.

والحق أن شيخ الإسلام لما صنف (رفع الملام عن الأئمة الأعلام) ، أراد الاعتذار عن عامة أئمة الفقه الذين خالفوا السنة بغير قصد ، مع تقريره عدم جواز متابعتهم على ما زلوا فيه

وقد وقع ذلك من فقهاء أهل الرأي كما وقع من فقهاء أهل الحديث ، على أن أهل الرأي كان عندهم خلل في المنهج ، ولكن ذلك لا يمنع أن يعتذر لهم فيما كان فيه باب الاعتذار مفتوحاً

 وشيخ الإسلام كان ينصف أهل الرأي فلا يقبل ما قيل عنهم من الأكاذيب التي يذكرها بعض من تعصب عليهم ، ولكنه في الوقت نفسه كان يرد عليهم فيما خالفوا فيه الحق ويبين تناقضهم.

قال شيخ الإسلام في منهاج السنة (2/618) :

أما داود الجواربي فقد عرف عنه القول المنكر الذي أنكره عليه أهل السنة وأما مقاتل فالله أعلم بحقيقة حاله والأشعري ينقل هذه المقالات من كتب المعتزلة وفيهم انحراف على مقاتل بن سليمان فلعلهم زادوا في النقل عنه أو نقلو عنه أو نقلوا عن غير ثقة

وإلا فما أظنه يصل إلى هذا الحد وقد قال الشافعي من أراد التفسير فهو عيال على مقاتل ومن أراد الفقه فهو عيال على أبي حنيفة، ومقاتل بن سليمان وإن لم يكن ممن يحتج به في الحديث بخلاف مقاتل بن حيان فإنه ثقة لكن لا ريب في علمه بالتفسير وغيره واطلاعه كما أن أبا حنيفة وإن كان الناس خالفوه في أشياء وأنكروها عليه فلا يستريب أحد في فقهه وفههمه وعلمه وقد نقلوا عنه أشياء يقصدون بها الشناعة عليه وهي كذب عليه قطعا مثل مسألة الخنزير البري ونحوها وما يبعد أن يكون النقل عن مقاتل من هذا الباب“.

وبعض دفاع الشيخ عن أهل الرأي فيه نظر كنفيه عن إمامهم أن يكون قد رد الأحاديث ويبدو أن هذا من التأثر بالعصر

وحتى مسألة الخنزير البري أثبتها البخاري في القراءة خلف الإمام ومثله لا يدفع قوله  

على أنه لم يبق أحد يقول بهذه المقالة من الأحناف وينسبون لأبي حنيفة خلافه ومن هنا دخل الأمر على ابن تيمية 

أقول : وتحرير موقف شيخ الإسلام من أهل الرأي في عدة نقاط:

الأولى: تقريره بأنهم من أقل الناس نفعاً في الفتيا ، وتشبيهه لمذهبهم بالبيت الذي بني على أصل مغصوب ، ونصه على أنهم أصحاب رأي محدث

قال شيخ الإسلام في الاستقامة ص 8 :” وإنما ظن كثير من الناس الحاجة إلى الرأي المحدث لأنهم يجدون مسائل كثيرة وفروعا عظيمة لا يمكنهم إدخالها تحت النصوص كما يوجد في فروع من ولد الفروع من فقهاء الكوفة ومن أخذ عنهم

وجواب هذا من وجوه:

أحدها: ان كثيرا من تلك الفروع المولد المقدرة لا يقع أصلا وما كان كذلك لم يجب أن تدل عليه النصوص ومن تدبر ما فرعه المولدون من الفروع في باب الوصايا والطلاق والأيمان وغير ذلك علم صحة هذا

الوجه الثاني: أن تكون تلك الفروع والمسائل مبنية على أصول فاسدة فمن عرف السنة بين حكم ذلك الأصل فسقطت تلك الفروع المولدة كلها ، وهذا كما فرعه صاحب الجامع الكبير فإن غالب فروعه كما بلغنا عن الإمام أبي محمد المقدسي أنه كان يقول مثله مثل من بنى دارا حسنة على أساس مغصوب فلما جاء صاحب الأساس ونازعه في الاساس وقلعه انهدمت تلك الدار، وذلك كالفروع العظيمة المذكورة في كتاب الأيمان وبناها على ما كان المفرع يعتقده من مذهب أهل النحو الكوفيين فإن أصل باب الأيمان الرجوع إلى نية الحالف وقصده ثم إلى القرائن الحالية الدالة على قصده كسبب اليمين وما هيجها ثم إلى العرف الذي من عادته التكلم به سواء كان موافقا للغة العربية أو مخالفا لها فإن الأيمان وغيرها من كلام الناس بعضهم لبعض في المعاملات والمراسلات والمصنفات وغيرها تجمعها كلها دلالة اللفظ على قصد المتكلم ومراده وذلك متنوع بتنوع اللغات والعادات، وتختلف الدلالة بالقرائن الحالية والمقالية ثم إنما يستدل على مقصود الرجل إذا لم يعرف فإذا أمكن العلم بمقصوده يقينا لم يكن بنا حاجة إلى الشك لكن من الأمور ما لا تقبل من قائله إرادة تخالف الظاهر كما إذا تعلق به حقوق العباد كما في الأقارير ونحوها وهذا مقرر في موضعه وليس الغرض هنا إلا التمثيل، وإذا كان هذا أصل الأيمان فيقال لذلك المفرع إذا كان هذا أصل قصده الذي هو في أكثر المواضع يخالف مقتضى ما ذكرته من الجواب وينظر إلى القرائن الحالية ومعها لا تستقيم عامة الأجوبة”.

إلى أن قال :” الوجه الثالث أن النصوص دالة على عامة الفروع الواقعة كما يعرفه من يتحرى ذلك ويقصد الإفتاء بموجب الكتاب والسنة ودلالتها وهذا يعرفه من يتأمل كمن يفتى في اليوم بمائة فتيا أو مائتين أو ثلاثمائة وأكثر أو أقل وأنا قد جربت ذلك ومن تدبر ذلك رأى أهل النصوص دائما أقدر على الإفتاء وأنفع للمسلمين في ذلك من أهل الرأى المحدث فإن الذى رأيناه دائما أن أهل رأى الكوفة من أقل الناس علما بالفتيا وأقلهم منفعة للمسلمين مع كثرة عددهم وما لهم من سلطان وكثرة بما يتناولونه من الأموال الوقفية والسلطانية وغير ذلك ثم إنهم في الفتوى من أقل الناس منفعة قل أن يجيبوا فيها وإن أجابوا فقل أن يجيبوا بجواب شاف وأما كونهم يجيبون بحجة فهم من أبعد الناس عن ذلك، وسبب هذا ان الأعمال الواقعة يحتاج المسلمون فيها إلى معرفة بالنصوص ثم إن لهم أصولا كثيرة تخالف النصوص والذي عندهم من الفروع التي لا توجد عند غيرهم فهي مع ما فيها من المخالفة للنصوص التي لم يخالفها أحد من الفقهاء أكثر منهم عامتها إما فروع مقدرة غير واقعة وإما فروع متقررة على أصول فاسدة”.

أقول : في نص شيخ الإسلام هنا عدة مسائل :

الأولى: وصفه لمذهب أهل الرأي بــ(الرأي المحدث).

الثانية: تصريحه بنقد صاحب الجامع الكبير وهو محمد بن الحسن الشيباني ، وكتبه عند الحنفية تسمى كتب الرواية ، وعليها المعول عندهم ولا يستريب أحد فإن محمد بن الحسن كان أقرب إلى السنة من أبي حنيفة لأنه خرج من الكوفة وذهب إلى المدينة وسمع الموطأ فكان له الكثير من الاختيارات التي تخالف قول أبي حنيفة وعامتها الصواب فيها معه وهي معتبرة عند الحنفية ومع ذلك قال فيه الشيخ ما قال ، فالشيخ لا ينتقد المتأخرين وإنما ينتقد أئمة المذهب فتأمل

الثالثة: نقله كلمة ابن قدامة في تشبيه مذهب أبي حنيفة بالبيت المبني على أصل مغصوب وأراد بالأصل المغصوب الحديث الضعيف والقياس الفاسد

وقد صح عن الشافعي نحواً من هذه الكلمة، قال ابن أبي حاتم رحمه الله في «آداب الشافعي ومناقبه» (ص431):

ثنا الربيع بن سليمان المرادي قال سمعت الشافعي يقول: أبو حنيفة يضع أول المسألة خطأ ثم يقيس الكتاب كله.

ثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال: قال لي محمد بن إدريس الشافعي: نظرت في كتب لأصحاب أبي حنيفة فإذا فيها مائة وثلاثون ورقة فعددت منها ثمانين ورقة خلاف السنة.

قال أبو محمد (ابن أبي حاتم) لأن الأصل كان خطأ فصارت الفروع ماضية على الأصل.

وهذه أسانيد صحاح للشافعي ، أفترى الشافعي بعد هذا يجوز للناس التمذهب بمذهبٍ كهذا ؟!

الرابعة وهي القاصمة: تقريره أن مذهبهم في المعاملات مبني إما على فروع واقعة ولكنها مبنية على أصول فاسدة ، وإما على فروع مقدرة لا وقوع لها ، لذا كانوا أقل الناس نفعاً في الفتيا

    النقطة الثانية: تقريره أن أهل الحديث كانوا يهجرون أهل الرأي:

قال شيخ الإسلام كما في [جامع المسائل المجموعة الثامنة ص74 – ط دار عالم الفوائد ت / محمد عزيز شمس]:

الهجرة المشروعة كقوله تعالى : {والرجز فاهجر} وقوله : {وإذا رأيت الذين يخوضون} وقوله : { وتولى عنهم } وقوله : { واهجرهم هجراً جميلاً} , وهجرة الصحابة إلى الحبشة ثم إلى المدينة , وهجرة المسلم من دار الكفر إلى دار الإسلام , وهجرة الناس من دار الفجور والبدعة إلى دار البر والسنة , وهجرة المعلنين بالمعاصي والمظهرين للبدع , كما أمر النبي – صلى الله عليه وسلم – بهجرة الثلاثة الذين خلفوا , وأمر عمر بهجر صبيغ بن عسل، وأمر الأئمة بهجران الدعاة إلى البدع بحيث لا يتخذون حكاماً ولا شهوداً ولا أئمةً ولا مفتين ولا محدثين, ولا يجالسون ولا يخاطبون , ونحو ذلك , كل هذا له مقصودان :

أحدهما : اشتمال ذلك على أداء الواجبات وترك المحرمات , فإن هجران الذنوب تركها , قال النبي صلى الله عليه وسلم : المهاجر من هجر ما نهى الله عنه , والهجرة من دار الحرب ليتمكن المسلم من إقامة دينه ولوائه الجهاد , ولئلا يقع فيما هم فيه , وكذلك هجران قرناء السوء , لئلا يرى القبيح ويسمعه فيكون شريكاً لهم كما قال تعالى : { إنكم إذن مثلهم } ولئلا يوقعوه في بعض ذنوبهم فإن المرء على دين خليله , فلينظر أحدكم من يخالل , فالأول يكون بترك مخالطتهم وقت الذنوب , وإن خولطوا في غيرها للضرورة , والثاني يكون بترك عشرتهم مطلقاً , فإن المعاشرة قد تجر إلى القبيح , فمن كان مضطراً إلى معاشرتهم أو كان هو الحاكم عليهم ديناً ودنيا فهذا لا ينهى عن المعاشرة , بخلاف ………. [ قال المحقق : كلمة غير واضحة ] الذين قد يفسدون عقله أو دينه أو نحو ذلك .

المقصود الثاني : تضمنها نهي المهجور وتعزيره وعقوبته فيكون جزاءً له … [ قال المحقق : كلمة مطموسة ] ولغيره من ضربائه , كسائر أنواع التعزير والعقوبات المشروعة , فهذه الهجرة من جنس العقوبات والتعزيرات لتنكيل المهجور وغيره على ذلك الذنب , وتلك الهجرة من جنس التقوى والاحتراز عن مواقعة المحظورات البدعية والفجورية , فالأولى تحقيق التقوى , والثانية تحقيق الجهاد , فالأولى من فعل الذين هاجروا , والثانية من فعل الذين جاهدوا { إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله , والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض } ولهذا لا يصلح …. [قال المحقق : كلمة مبتورة] إلا مع المكنة والقدرة , كما لا تصلح المعاقبة إلا للقادر المتمكن بخلاف الأولى , ولهذا كانت الأولى مشروعة بمكة , والثانية إنما شرعت بالمدينة بعد تبوك لما كان الإسلام في غاية القوة , فإن الثانية تتضمن ترك السلام عليه وترك عيادته وتقديمه في شيء من المراتب الدينية , كالإمامة والحكم والشهادة والحديث والفتوى .

وهذا إذا كان ممن يؤثر في المهجور حصول المنفعة , وربما كان فيه منفعة ومضرة فيراعى ما غلب منهما , وقد يختلف ذلك باختلاف الأحوال والأوقات , وتختلف فيه الاجتهادات , وقد يستغنى عن الهجرة بالتأليف , فالغرض النهي عن المنكر بأقرب الطرق وتحصيل المعروف على أكمل الوجه , والله أعلم .

وأهل السنة والحديث يهجرون الداعية إلى البدع من الكلام أو الرأي أو العبادة , ولهذا كان أهل السنة قد تجنبوا فيها الرواية عن الدعاة إلى البدع عندهم من أهل الكلام كعمر بن عبيد وغيره , ومن أهل الرأي كأهل الرأي من أهل الكوفة , وهو فعل أحمد ابن حنبل معهم , وهذا تفصيله مذكور في غير هذا الموضع . اهـ كلامه رحمه الله تعالى

وما ذكره شيخ الإسلام من أن أحمد كان يهجر أهل الرأي ثابت عنه بل كان ينهى عن الرواية عنهم ، قال العقيلي في الضعفاء (1/59) : حدثنا عبد الله بن أحمد قال : سألت أبي عن أسد بن عمرو صدوق ؟ قال : أصحاب أبي حنيفة ليس ينبغي أن يروى عنهم شيء.

أقول : فإذا كان هذا مذهب أحمد في كتابة الحديث عنهم فما عساه أن يقول في التمذهب بمذهبهم وكتابة رأيهم ، الذي يجوزه بعض من يدعو إلى اتباع الأئمة ولو صدق باتباعهم لعلم أن الرواية لا تختلف عن أئمة الحديث في ترك الإفتاء بقول أهل الرأي ، فضلاً عن التسوية بينهم وبين أهل الحديث بقولك (المذاهب الفقهية المعتبرة) فتبدأ بأهل الرأي وتختم بأهل الحديث .

وقد نص الشيخ هنا على تبديع أهل الرأي

وهذه نقلها حرب مسألة إجماع، حيث قال في عقيدته المطبوعة في آخر مسائله (3/ 977) والتي قال في أولها :” هذا مذهب أئمة العلم وأصحاب الأثر وأهل السنة المعروفين بها المقتدى بهم فيها، وأدركت من أدركت من علماء أهل العراق والحجاز والشام وغيرهم عليها فمن خالف شيئًا من هذه المذاهب، أو طعن فيها، أوعاب قائلها فهو مبتدع خارج من الجماعة زائل عن منهج السنة وسبيل الحق، وهو مذهب أحمد وإسحاق بن إبراهيم بن مخلد، وعبد الله بن الزبير الحميدي وسعيد بن منصور، وغيرهم ممن جالسنا وأخذنا عنهم العلم”.

ومما جاء فيها :” وأصحاب الرأي والقياس في الدين مبتدعة جهلة ضُّلّال، إلا أن يكون في ذلك أثر عمن سلف من الأئمة الثقات، فالأخذ بالأثر أولى”

وقال أيضاً :” وأصحاب الرأي: وهم مبتدعة ضُّلّال أعداء السّنة والأثر يرون الدين رأيًا وقياسًا واستحسانًا، وهم يخالفون الآثار، ويبطلون الحديث، ويردون على الرسول، ويتخذون أبا حنيفة ومن قال بقوله إمامًا يدينون بدينهم، ويقولون بقولهم فأي ضلالة بأبين ممن قال بهذا أوكان على مثل هذا، يترك قول الرسول وأصحابه ويتبع رأي أبي حنيفة وأصحابه، فكفى بهذا غيًا وطغيانًا وردًا”.

وقال أيضاً :” وأما أصحاب الرأي والقياس فأنهم يسمون أصحاب السنة نابتة وكذب أصحاب الرأي أعداء الله، بل هم النابتة تركوا أثر الرسول وحديثه وقالوا بالرأي، وقاسوا الدين بالاستحسان، وحكموا بخلاف الكتاب والسنة، وهم أصحاب بدعة جهلة ضلال طلاب دنيا بالكذب والبهتان. فرحم الله عبد اقال بالحق، واتبع الأثر، وتمسك بالسنة، واقتدى بالصالحين، وجانب أهل البدع وترك مجالستهم ومحادثتهم احتسابًا وطلبًا للقربة من الله وإعزاز دينه، وما توفيقنا إلا بالله”.

وقال الخطيب في تاريخ بغداد (15/ 558) : أَخْبَرَنَا الْبَرْقَانِيّ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّد بن العباس أَبُو عمر الخزاز، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الفضل جعفر بن مُحَمَّد الصندلي، وأثنى عليه أَبُو عمر جدا، قَالَ: حَدَّثَنِي المروذي أَبُو بكر أَحْمَد بن الحجاج، قَالَ: سألت أبا عبد الله، وهو أَحْمَد بن حنبل، عن أبي حنيفة وعمرو بن عبيد، فقال: أبو حنيفة أشد على المسلمين من عمرو بن عبيد، لأن له أصحابا.

وهذا إسنادٌ صحيح إلى أحمد كله أئمة ، فإذا كان هذا مذهب أحمد وقد تقدم لك مذهب الشافعي ورأي مالك في أهل الرأي معروف فمن كان متذهباً بمذهبهم في الفقه لزمه أن يأخذ بقولهم هذا

 ومن جوز التمذهب لم يكن له الإنكار على من أخذ بمذهبهم في هذا وهو قول عامة أئمة الإسلام على ما نقل شيخ الإسلام وحرب الكرماني ، ولو فرضنا مخالفة شيخ الإسلام لهؤلاء ، لم يكن مجرد قوله حجةً عليهم ، بل هم أولى بالتقليد منه على أنه آيةً في المتأخرين لا نظير له ولا مداني حتى

 وقد كان أهل الحديث لهم العناية في الرد على أهل الرأي فقد صنف أحمد كتاب الأشربة رداً عليهم ، والبخاري الجزء في الرفع اليدين رداً عليهم ، وكذا القراءة خلف الإمام وأكثر من الرد عليهم في صحيحه حتى توجع لذلك بعض الحنفية.

قال الزيلعي في نصب الراية (2/271) :” وَالْبُخَارِيُّ كَثِيرُ التَّتَبُّعِ لِمَا يَرُدُّ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ السُّنَّةِ ، فَيَذْكُرُ الْحَدِيثَ ، ثُمَّ يُعَرِّضُ بِذِكْرِهِ ، فَيَقُولُ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : كَذَا وَكَذَا ، وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ : كَذَا وَكَذَا ، يُشِيرُ بِبَعْضِ النَّاسِ إلَيْهِ ، وَيُشَنِّعُ لِمُخَالَفَةِ الْحَدِيثِ عَلَيْهِ ، وَكَيْفَ يُخْلِي كِتَابَهُ مِنْ أَحَادِيثِ الْجَهْرِ بِالْبَسْمَلَةِ ، وَهُوَ يَقُولُ فِي أَوَّلِ كِتَابِهِ : ” بَابُ الصَّلَاةِ مِنْ الْإِيمَانِ ” ، ثُمَّ يَسُوقُ أَحَادِيثَ الْبَابِ ، وَيَقْصِدُ الرَّدَّ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ ؟ قَوْلَهُ : إنَّ الْأَعْمَالَ لَيْسَتْ مِنْ الْإِيمَانِ”.

وقال الذهبي في سير أعلام النبلاء (14/ 38) :” وفِي (الطَّبَقَاتِ) لأَبِي إِسْحَاقَ: وُلِدَ مُحَمَّدُ بنُ نَصْرٍ بِبَغْدَادَ، وَنَشَأَ بِنَيْسَابُوْرَ، وَاسْتوطَنَ سَمَرْقَنْدَ.

رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ، قَالَ: لَمْ يَكُنْ لِي حُسْنُ رَأْيٍ فِي الشَّافِعِيِّ، فَبَيْنَا أَنَا قَاعِدٌ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أَغْفَيْتُ، فرَأَيْتُ النَّبِيَّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فِي المَنَامِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُوْلَ اللهِ! أَكْتُبُ رَأْيَ الشَّافِعِيِّ؟

فَطَأَطَأَ رَأَسَهُ شِبْهَ الغَضْبَانِ وَقَالَ: (تَقُوْلُ رَأْي؟ لَيْسَ هُوَ بِالرَّأْي، هُوَ ردٌّ عَلَى مَنْ خَالَفَ سُنَّتِي) .

فَخَرَجْتُ فِي أَثَرِ هَذِهِ الرُّؤيَا إِلَى مِصْرَ، فَكَتَبْتُ كُتُبَ الشَّافِعِيِّ”

وإنما اشتهر الشافعي بالرد على أهل الرأي

 وقال العقيلي في الضعفاء (3/221) : وحدثنا عبد الرحمن بن محمد بن سلمة الرازي قال : حدثنا عبد الرحمن بن عمر الأصبهاني رستة قال : سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول : حدثني معاذ بن معاذ قال : كنت عند سوار بن عبد الله ، فجاء الغلام فقال : زفر بالباب ، فقال : زفر الرأي لا تأذن له فإنه مبتدع

 فقال له بعض جلسائه : ابن عمك قدم من سفر لم تأته ومشى إليك ، لو أذنت له ؟ فأذن له ، فدخل فسلم ، فما رأيته رد عليه ، وأراه مد يده إليه فلم يناوله يده ، وما رأيته نظر إليه حتى قام وخرج

أقول : فبدعه بالرأي كما قال شيخ الإسلام

 وقال الذهبي في سير أعلام النبلاء (14/ 396) :” وَقَدْ كَانَ السَّرَّاجُ ذَا ثَروَةٍ وَتِجَارَةٍ، وَبِرٍّ وَمَعْرُوْفٍ، وَلَهُ تَعَبُّدٌ وَتَهَجُّدٌ، إِلاَّ أَنَّهُ كَانَ مُنَافِراً لِلْفُقَهَاءِ أَصْحَابِ الرَّأْيِ – وَاللهُ يَغْفِرُ لَهُ –”

  ما زاد السراج على أن سار على سنن من كان قبله ، فلا داعي لإظهار الأمر وكأنه خطيئة

    النقطة الثالثة: تقرير شيخ الإسلام أنه لا يجوز تقليد عالم في زلةٍ زلها:

قال شيخ الإسلام كما في الفتاوى الكبرى (6/ 92): واعتبر ذلك بمناظرة الإمام عبدالله بن المبارك قال: كنا بالكوفة فناظروني في ذلك يعني النبيذ المختلف فيه فقلت لهم : تعالوا فليحتج المحتج منكم عن من يشاء من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم في بالرخصة فإن لم يتبين الرد عليه عن ذلك الرجل بشدة صحت عنه فاحتجوا فما جاؤوا عن أحد برخصة إلا جئناهم بشدة فلما لم يبق في يد أحد منهم إلا عبد الله بن مسعود وليس احتجاجهم عنه في شدة النبيذ بشيء يصح عنه إنما يصح عنه أنه لم ينبذ له في الجر إلا حذر قال ابن المبارك : فقلت للمحتج عنه في الرخصة : يا أحمق عد إن ابن مسعود لو كان ها هنا جالسا فقال هو لك حلال وما وصفنا عن النبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه في الشدة كان ينبغي لك أن تحذر أو تجر أو تخشى فقال قائلهم يا أبا عبد الرحمن فالنخعي والشعبي وسمى عدة معهما كانوا يشربون الحرام فقلت لهم عدوا عند الاحتجاج تسمية الرجال قرب رجل في الإسلام مناقبه كذا وكذا وعسى أن يكون منه زلة أفللأحد أن يحتج بها فإن أبيتم فما قولكم في عطاء وطاوس وجابر بن زيد وسعيد بن جبير وعكرمة قالوا : كانوا خيارا قلت : فما قولكم في الدرهم بالدرهمين يدا بيد فقالوا : حرام فقال ابن المبارك إن هؤلاء رأوه حلالا فماتوا وهم يأكلون الحرام فبقوا وانقطعت حجتهم قال ابن المبارك : ولقد أخبرني المعتمر بن سليمان قال : رآني أبي وأنا أنشد الشعر فقال لي يا بني لا تنشد الشعر فقلت له يا أبت كان الحسن ينشد وكان ابن سيرين ينشد فقال لي : أي بني إن أخذت بشر ما في الحسن وبشر ما في ابن سيرين اجتمع فيك الشر كله وهذا الذي ذكره ابن المبارك متفق عليه بين العلماء فإنه ما من أحد من أعيان الأمة من السابقين الأولين ومن بعدهم إلا لهم أقوال وأفعال خفي عليهم فيها السنة وهذا باب واسع لا يحصى مع أن ذلك لا يغض من أقدارهم ولا يسوغ إتباعهم فيها كما قال سبحانه: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول}، قال ابن مجاهد والحكم بن عتيبة ومالك وغيرهم ليس أحد من خلق الله إلا يؤخذ من قوله ويترك إلا النبي صلى الله عليه و سلم وقال سليمان التيمي إن أخذت برخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله قال ابن عبد البر هذا إجماع لا أعلم فيه خلافا وقد روي عن النبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه في هذا المعنى ما ينبغي تأمله فروى كثير بن عبد الله بن عمر وابن عوف المزني عن أبيه عن جده قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ إني لأخاف على أمتي من بعدي من أعمال ثلاثة قالوا : وما هي يا رسول الله ؟ قال : أخاف عليهم من زلة العالم ومن حكم جائر ومن هوى متبع ]

وقال زياد بن حدير : قال عمر : ثلاث يهدمن الدين زلة العالم وجدال المنافق بالقرآن وأئمة مضلون.اهـ

قال شيخ الإسلام في الاستقامة ص386 : فهذا ونحوه هو الذي أشار إليه الأئمة كالشافعي في قوله خلفت ببغداد شيئا أحدثته الزنادقة يسمونه التغبير يصدون به الناس عن القرآن

فيكون ذو النون هو أحد الذين حضروا التغبير الذي أنكره الأئمة وشيوخ السلف ويكون هو أحد المتأولين في ذلك وقوله فيه كقول شيوخ الكوفة وعلمائها في النبيذ الذين استحلوه مثل سفيان الثوري وشريك ابن عبد الله وأبي حنيفة ومسعر بن كدام ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وغيرهم من أهل العلم وكقول علماء مكة وشيوخها فيما استحلوه من المتعة والصرف كقول عطاء بن أبي رباح وابن جريج وغيرهما وكقول طائفة من شيوخ المدينة وعلمائها فيما استحلوه من الحشوش وكقول طائفة من شيوخ الشاميين وعلمائها فيما كانوا استحلوه من القتال في الفتنة لعلي بن أبي طالب وأصحابه وكقول طوائف من أتباع الذين قاتلوا مع علي من أهل الحجاز والعراق وغيرهم في الفتنة إلى أمثال ذلك مما تنازعت فيه الأمة وكان في كل شق طائفة من أهل العلم والدين.

فليس لأحد أن يحتج لأحد الطريقين بمجرد قول أصحابه وإن كانوا من أعظم الناس علما ودينا لان المنازعين لهم هم أهل العلم والدين

وقد قال الله تعالى فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر سورة النساء 59 فالرد عند التنازع إنما يكون إلى كتاب الله وسنة رسوله.اهـ

وقال أيضاً في الاستقامة ص282: ومن احتج بفعل مثل عبد الله في الدين في مثل هذا لزمه أن يحتج بفعل معاوية في قتاله لعلى وبفعل ابن الزبير في قتاله في الفرقة وأمثال ذلك مما لايصلح لأهل العلم والدين أن يدخلوه في أدلة الدين والشرع لا سيما النساك والزهاد وأهل الحقائق لا يصلح لهم أن يتركوا سبيل المشهورين بالنسك والزهد بين الصحابة ويتبعوا سبيل غيرهم.

وما أحسن ما قال حذيفة رضي الله عنه يا معشر القراء استقيموا وخذوا طريق من كان قبلكم فوالله لئن اتبعتموهم لقد سبقتم سبقا بعيدا ولئن أخذتم يمينا وشمالا لقد ضللتم ضلالا بعيدا.اهـ

وقال شيخ الإسلام في اقتضاء الصراط المستقيم (2/37) :

” قد يكون متأولا في هذا الشرع فيغفر له لأجل تأويله ، إذا كان مجتهدا الاجتهاد الذي يعفى فيه عن المخطئ ويثاب أيضا على اجتهاده ، لكن لا يجوز اتباعه في ذلك كما لا يجوز اتباع سائر من قال أو عمل قولا أو عملا قد علم الصواب في خلافه ، وإن كان القائل أو الفاعل مأجورا أو معذورا ، وقد قال سبحانه {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}”.

قال شيخ الإسلام في رفع الملام ص14 :”ثم إنهم مع العلم بأن التارك الموصوف معذور بل مأجور لا يمنعنا أن نتبع الأحاديث الصحيحة التي لا نعلم لها معارضا يدفعها وأن نعتقد وجوب العمل على الأمة ووجوب تبليغها . وهذا مما لا يختلف العلماء فيه”.

أقول : ومن ردها كان مبتدعاً ، ومن قاس المتعصب الذي يردها على الإمام الذي لم تبلغه أو بلغته من طريق ضعيف ، فقد قاس قياساً فاسداً في الجرح والتعديل

 قال شيخ الإسلام في بيان الدليل على إبطال التحليل ص86 :” فإذا كان القول يخالف سنة أو إجماعاً قديماً وجب إنكاره وفاقاً”، وقد قال شيخ الإسلام هذه الكلمة في الرد على بعض شذوذات أهل الرأي في مسألة التحليل ، وكتابه هذا من أنفس الكتب في الرد على أهل الرأي ، وأقوال أهل الرأي التي تخالف السنة كثيرة جداً ، مثل قولهم بإنكار صلاة الاستسقاء وإنكار العقيقة وقولهم في رفع اليدين ، وقولهم في النبيذ ، وقولهم في تغريب الزاني وقولهم في النكاح بغير ولي وقولهم في التحليل ، وقولهم في عدم اعتبار الزنا من الدبر زناً وغيرها كثير ، ولو نظرت في فتاوي شيخ الإسلام لرأيته ينقضها نقضاً مبرماً في كل مناسبةٍ تعرض.

    النقطة الرابعة: في ذم شيخ الإسلام للحيل:

مما اشتهر به فقه أهل الرأي الحيل ، وقد أطال شيخ الإسلام في إقامة الدليل على بطلان في إبطال هذا الأصل الذي بنى عليه أهل الرأي الكثير من المسائل ، وقد سبقه إلى الرد عليهم في ذلك الإمام البخاري .

قال شيخ الإسلام في إقامة الدليل ص110 :” الطريق الأول: بطلان الحيل وأدلة التحريم أن نقول: إن الله سبحانه حرم أشياء إما تحريماً مطلقاً كتحريم الربا أو تحريماً مقيداً إلى أن يتغير حال من الأحوال كتحريم نكاح المطلقة ثلاثاً وكتحريم المحلوف بطلاقها عند الحنث وأوجب أشياء إيجاباً معلقاً بأسباب: إما حقاً لله سبحانه كالزكاة ونحوها أو حقاً للعباد كالشُفْعة ثم إنه شرع أسباباً تُفعل لتحصيل مقاصد كما شرع العبادات من الأقوال والأفعال لابتغاء فضله ورضوانه وكما شرع عقد البيع لنقل الملك بالعوض وعقد القرض لإرفاق المقترض وعقد النكاح للأزواج والسكن والألفة بين الزوجين والخلع لحصول البينونة المتضمنة افتداء المرأة من رق بعلها وغير ذلك وكذلك هدى خلقه إلى أفعال تبلغهم إلى مصالح لهم كما شرع مثل ذلك فالحيلة: أن يقُصَد سقوطُ الواجب أو حل الحرام بفعل لم يقصد به ما جعل ذلك الفعل له أو ما شرع فهو يريد تغيير الأحكام الشرعية بأسباب لم يقصد بها ما جعلت تلك الأسباب له وهو يفعل تلك الأسباب لأجل ما هو تابع لها لا لأجل ما هو المتبوع المقصود بها بل يفعل السبب لما ينافي قصده من حكم السبب فيصير بمنزلة من طلب ثمرة الفعل الشرعي ونتيجته وهو لم يأتِ بقوامه وحقيقته فهذا خداع لله واستهزاء بآيات الله وتلاعب بحدود الله وقد دل على تحريمه الكتاب والسنة وإجماع السلف الصالح وعامة دعائم الإيمان ومباني الإسلام ودلائل ذلك لا تكاد تنضبط ولكن نُنَبِّه على بعضها مع أن القول بإبطال مثل هذه الحيل في الجملة مأثور عن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن سلام وأبُي بن كعب وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وعائشة أم المؤمنين وأنس ابن مالك. ومن التابعين عن سعيد بن المسيب والقاسم بن محمد وسالم بن عبد الله بن عمر وعبد الله بن عبد الله بن عتبة وعروة بن الزبير وسليمان بن يسار وخارجة بن زيد وعطاء بن أبي رباح وغيره من فقهاء المكيين وجابر بن زيد أبي الشعثاء والحسن البصري ومحمد بن سيرين وبكر بن عبد الله المزني وقتادة وأصحاب عبد الله بن مسعود وابراهيم النخعي والشَّعبي وحمَّاد بن أبي سليمان وهو قول أيوب السختياني وعمرو بن دينار ومالك وأصحابه والأوزاعي والليث بن سعد والقاسم بن معن وسفيان الثوري وشريك بن عبد الله وسفيان بن عيينة وعبد الله بن المبارك والفضل بن عياض وحفص بن غياث ويزيد بن هارون وأحمد بن حنبل وأصحابه وأبي عبيد القاسم بن سلام وإسحاق بن راهويه ومن لا يحصى من العلماء وكلامهم في ذلك يطول”.

أقول : فلم يذكر أبا حنيفة وأصحابه لاشتهارهم بذلك وقد وقفت على مخطوطة كتاب الأصل لمحمد بن الحسن الشيباني _ وهو من كتب الرواية عند القوم _ وفيه كتاب الحيل فقرأته حرفاً حرفاً وعدد من الحيل المذكورة فيه نقل شيخ الإسلام عن الإمام أحمد إبطالها ، والحيلة التي من أجلها تعرض شيخ الإسلام لهذه المسألة موجودة فيه ونقل عن أبي حنيفة عدداً من الحيل .

وقال شيخ الإسلام في إقامة الدليل ص167 :” الوجه الثالث: إن هذه الحيل أول ما ظهر الافتاء بها في أواخر عصر التابعين أنكر ذلك علماء ذلك الزمان مثل أيوب السختياني وحماد بن زيد ومالك بن أنس وسفيان بن عيينة ويزيد بن هارون وعبد الرحمن بن مهدي وعبد الله بن المبارك والفضيل بن عياض ومثل شريك بن عبد الله والقاسم بن معن وحفص بن غياث قضاة الكوفة وتكلم علماء ذلك العصر مثل أيوب السختياني وابن عون والقاسم بن مخيمرة والسفيانين والحمادين ومالك والأوزاعي ومن شاء الله من العلماء في الدين وتوسعوا فيها من أهل الكوفة وغيرهم بكلام غليظ لا يقال مثله إلا عند ظهور بدعة لا تعرف دون من أفتى بما كان من الصحابة تفتي به أو بحق منه ومعلوم أن هؤلاء وأمثالهم هم سُرجُ الإسلام ومصابيح الهدى وأعلام الدين وهم كانوا أعلم أهل وقتهم وأعلم ممن بعدهم بالسنة الماضية وأفقه في الدين وأورع في المنطق وقد كانوا يختلفون في مسائل الفقه ويقولون باجتهاد الرأي ولا ينكرون على من سلك هذا السبيل فلما اشتد نكيرهم على أهل الرأي الذين استحلوا به الحيل علم أنهم علموا أن هذه بدعة محدثة وفي كلامهم دلالات على ذلك مثل وصفهم من كان يفتي بذلك بأنه يقلب الإسلام ظهراً لبطن ويترك الاسلام أرق من الثوب السابري وينقض الإسلام عروة عروة إلى أمثال هذه الكلمات وكان أعظم ما أنكروا على المتوسع في الرأي مخالفة الأحاديث والإفتاء بالحِيَل ومعلوم أن أحداً من أهل الفتوى لا يخالف حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمداً وإنما يخالفه لأنه لم يبلغه أو لنسيانه إياه وذهوله عنه أو لأنه لم يبلغه من وجه يثق به أو لعدم تفطنه لوجه الدلالة منه أو لقلة اعتنائه بمعرفته أو لنوع تأويل يتأوله عليه أو ظنه أنه منسوخ ونحو ذلك وما من الفقهاء أحد إلا وقد خفيت عليه بعض السنة وإنما المنكر الذي لم يكن يعرف في الماضين الافتاء بالحيل وقد ذكر عن بعض أهل الرأي تصريح أنه قال: ما نقموا علينا من أنا عمدنا إلى أشياء كانت حراماً عليهم فاحتلنا فيها حتى صارت حلالاً وقال آخران: إنا احتلنا للناس منذ كذا وكذا سنة احتال على هذا في قضية جرت له مع رجل ولما وضع بعض الناس كتاباً في الحيل اشتد نكير السلف لذلك قال أحمد بن زهير بن مروان: كانت امرأة ها هنا تمرّ وأرادت أن تختلع من زوجها فأبى زوجها عليها فقيل لها: لو ارتددت عن الإسلام لبنت من زوجك ففعلت ذلك فذكر ذلك لعبد الله – يعني ابن المبارك – وقيل له: إن هذا كتاب الحيل فقال عبدالله: من وضع هذا الكتاب فهو كافر ومن سمع به فرضي به”.

فهنا يقرر الشيخ أنهم غير معذورين في الحيل ، فهنا قيد ما أطلق في رفع الملام ، وتلك العبارات التي نقلها الشيخ عن السلف في ذم المحتالين قيل كثير منها في أبي حنيفة نفسه ، فهذا يبطل قياس خطأ أبي حنيفة على خطأ مالك كما فعل ابن عبد البر ، وكما الظاهرية شذوا بإنكار القياس شذ أهل الرأي بالحيل .

ثم قال الشيخ :” ثم قال ابن المبارك: ما أرى الشيطان كان يحسن مثل هذا حتى جاء هؤلاء فأفادها منهم فأشاعها حينئذٍ أو كان يحسنها ولم يجد من يمضيها حتى جاء هؤلاء وقال إسحق الطالقاني قيل: يا أبا عبد الرحمن! أن هذا وضعه إبليس يعني كتاب الحيل فقال: إبليس من الأبالسة وقال النضر بن شُميل: في كتاب الحيل ثلاثمائة وعشرون أو ثلاثون مسألة كلها كفر. وقال أبو حاتم الرازي: قال شريك – يعني ابن عبد الله قاضي الكوفة الإمام المشهور- وذكر له “كتاب الحيل” – قال: من يخادع الله يخدعه وقال حفص بن غياث: وهو كذلك كان ينبغي أن يكتب عليه كتاب الفجور وقال إسماعيل بن حماد قال: القاسم بن معن – يعني ابن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود قاض الكوفة أيضاً -: كتابكم هذا الذي وضعتموه في الحيل كتاب الفجور وقال سعيد بن سابور إن الرجل ليأتي الرجل من أصحاب الحيل فيعلمه الفجور وقال حماد بن زيد: سمعت أيوب يقول: ويلهم من يخدعون – يعني أصحاب الحيل وقال عبد الله بن عبدالرحمن الدارمي: سمعت يزيد بن هارون يقول لقد أفتى -يعني أصحاب الحيل- في شيء لو أفتى به اليهود والنصارى كان قبيحاً أتاه رجل فقال: إني حلفت أن لا أطلق امرأة بوجه من الوجوه وإنهم قد بذلوا إليه مالاً كثيراً قال: فقبل أمها قال يزيد بن هارون: يأمره بأن يقبل امرأة أجنبية وقال حبيش بن سندي: سئل أبو عبد الله يعني الإمام أحمد بن حنبل عن الرجل يشتري جارية ثم يعتقها من يومه ويتزوجها أيطأها من يومه قال: كيف يطأها من يومه هذا وقد وطئها ذلك بالأمس هذا من طريق الحيلة وغضب وقال: هذا أخبث قول”.

هذه الحيلة التي وصفها أحمد بالخبث ، موجودة في كتاب الحيل من الأصل لمحمد بن الحسن الشيباني وقد رأيته مخطوطاً ، والله يحب الإنصاف ما رأيت فيه حيلةً تأمر المرأة بالردة .

    النقطة الخامسة : اختيار شيخ الإسلام إقامة الحد على من يشرب النبيذ الذي أجازه أهل الرأي:

قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (10/ 367) :” وَكَذَلِكَ نُقِيمُ الْحَدَّ عَلَى مَنْ شَرِبَ النَّبِيذَ الْمُخْتَلَفَ فِيهِ وَإِنْ كَانُوا قَوْمًا صَالِحِينَ فَتَدَبَّرْ كَيْفَ عُوقِبَ أَقْوَامٌ فِي الدُّنْيَا عَلَى تَرْكِ وَاجِبٍ أَوْ فِعْلِ مُحَرَّمٍ بَيِّنٍ فِي الدِّينِ أَوْ الدُّنْيَا وَإِنْ كَانُوا مَعْذُورِينَ فِيهِ لِدَفْعِ ضَرَرِ فِعْلِهِمْ فِي الدُّنْيَا”

وهذا فصل جليل لشيخ الإسلام في تقرير أنه لا تلازم بين العقوبة الدنيوية والعقوبة الأخروية ، وهذا يجتنبه كثيرٌ ممن يتكلم في مسألة ( التبديع ) في عصرنا وينقل عن شيخ الإسلام ما يروقه فقط ، ويجتنب هذا النقل الذي في ثناياه أن داعية البدعة يعاقب وإن كان في نفسه متأولاً حفاظاً على الشريعة العامة .

فإن قلت : أليس قد ذكر بعض أهل المدينة بالرأي كربيعة .

قلت لك : هؤلاء وصفوا بالرأي باعتبار أنهم تكلموا بشيء منه بين قوم أهل اتباع فنسبوا إلى ذلك ، وإلا لا يعرف عنهم من التوسع ما عند أهل الكوفة الذين تقدم النص عليهم في غير ما موضع مما سبق ، ومع ذلك كان موضع إنكار عندهم حتى إن مالكاً هجر مجلس ربيعة الرأي لما كثرت عنده منه المخالفة .

قال الدوري في تاريخه 5411 : حَدثنَا أَبُو زَكَرِيَّا يحيى بن معِين قَالَ هَذِه رِسَالَة اللَّيْث بن سعد إِلَى مَالك حَدثنَا يحيى قَالَ حَدثنَا عبد الله بن صَالح بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم من اللَّيْث بن سعد إِلَى مَالك بن أنس، ومما جاء في هذه الرسالة قول الليث بن سعد :” ورأيتهم يَوْمئِذٍ فِي الْفتيا بن شهَاب وَرَبِيعَة بن أبي عبد الرَّحْمَن رَحْمَة الله عَلَيْهِمَا فَكَانَ من خلاف ربيعَة تجَاوز الله عَنهُ لبَعض مَا مضى وَحَضَرت وَسمعت قَوْلك فِيهِ وَقَول ذَوي السن من أهل الْمَدِينَة يحيى بن سعيد وَعبيد الله بن عمر وَكثير بن فرقد وَغير كثير مِمَّن هُوَ أسن مِنْهُ حَتَّى اضطرك مَا كرهت من ذَلِك إِلَى فِرَاق مَجْلِسه وذاكرتك أَنْت وَعبد الْعَزِيز بن عبد الله بعض مَا نعيب على ربيعَة من ذَلِك فكنتما موافقين فِيمَا أنْكرت تكرهان مِنْهُ مَا أكره وَمَعَ ذَلِك بِحَمْد الله عِنْد ربيعَة خير كثير وعقل أصيل ولسان بليغ وَفضل مستبين وَطَرِيقَة حَسَنَة فِي الْإِسْلَام ومودة صَادِقَة لإخوانه عَامَّة وَلنَا خَاصَّة رَحمَه الله وَغفر لَهُ وجزاه بِأَحْسَن عمله”.

وهنا عدة تنبيهات لتتم الفائدة :

التنبيه الأول : اعلم رحمك الله أن أهل الرأي هم أول من قال بالبدعة الحسنة ، وقد رد عليهم أهل العلم

قال ابن المنذر في الأوسط (4/6) :” وخالف النعمان كل ما ذكرناه ، فحكى يعقوب عنه في الجامع الصغير أنه قال : التثويب الذي يثوب الناس في صبح الفجر بين الأذان والإقامة : حي على الصلاة مرتين ، حي على الفلاح مرتين ، وكان كره التثويب في العشاء وفي سائر الصلوات .

 قال أبو بكر : فخالف ما قد ثبتت به الأخبار ، عن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلال ، وأبي محذورة ، ثم جاء عن ابن عمر ، وأنس بن مالك ، وما عليه أهل الحرمين من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا ، يتوارثونه قرنا عن قرن يعملون به في كل زمان ظاهرا في أذان الفجر في كل يوم

ثم لم يرض خلافه ما ذكرناه حتى استحسن بدعة محدثة لم ترو عن أحد من مؤذني رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عمل به على عهد أحد من أصحابه .

 وفي كتاب ابن الحسن : كان التثويب الأول بعد الأذان : الصلاة خير من النوم ، فأحدث الناس هذا التثويب وهو حسن .

قال أبو بكر : وقد ثبتت الأخبار عن مؤذني رسول الله صلى الله عليه وسلم عمن ذكرنا من أصحابه أن التثويب كان في نفس الأذان قبل الفراغ منه فكان ما قال : أن التثويب الأول كان بعد الأذان محالا لا معنى له ، ثم مع ذلك هو خلاف ما عليه أهل الحجاز ، والشام ، ومصر ، وخلاف قول سفيان الثوري ، ثم استحسن أقر أنه محدث ، وكل محدث بدعة “

 وليس هذا ببعيد عن بدعة الإرجاء .

التنبيه الثاني : قد علم المشتغلون بعلم الحديث أن الإمام مالك ثقة ثبت وهو ممن يقبل قوله في الرواة إلا أن نقده خاص في الغالب بأهل المدينة ، وكذلك الشافعي يقبل قوله في الرواة جرحاً وتعديلاً على قلة كلامه في الباب ، وأما الإمام أحمد فالناظر في مسنده ومسائله يعلم فضله على الشافعي في سعة الرواية وكثرة الشيوخ ، وكلامه في الرجال والعلل والمراسيل كثيرٌ جداً ، وقد صح أنه يحفظ ألف ألف حديث.

وأما أبو حنيفة ، قال الترمذي في العلل الكبير سَمِعْتُ مَحْمُودَ بْنَ غَيْلَانَ , يَقُولُ: سَمِعْتُ الْمُقْرِيَّ , يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا حَنِيفَةَ , يَقُولُ: عَامَّةُ مَا أُحَدِّثُكُمْ خَطَأٌ.

 قَالَ مَحْمُودٌ: وَسَمِعْتُ وَكِيعًا يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا حَنِيفَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ عَطَاءً قَالَ: وَكِيعٌ إِنْ كَانَ سَمِعَهُ ، [ فإنه ] كان زمناً في الحديث ، ولا يحسن رواية عشرة أحاديث مسندة على الوجه الصحيح

 كيف يجعل في مصاف من يحفظ ألف ألف حديث ؟!

 ويسوى بينهم في الاجتهاد ويقال إن أردت أن تصير حنفياً فلك هذا ، وإن أردت أن تصير حنبلياً فلك هذا ؟ هل هذا من الإنصاف في شيء ، أم هو تغريرٌ بالأمة وشغل لهم بالأقوال الباطلة ؟

قال الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (2/ 561) : أَخْبَرَنَا محمد بن الحسين القطان، قَالَ: أخبرنا دعلج بن أحمد، قَالَ: أخبرنا أحمد بن علي الأبار، قَالَ: حَدَّثَنِي يونس، يعني ابن عبد الأعلى، قَالَ: سمعت الشافعي، يقول: ناظرت محمد بن الحسن وعليه ثياب رقاق، فجعل تنتفخ أوداجه، ويصيح حتى لم يبق له زر إلا انقطع.

قلت: ما كان لصحابك أن يتكلم ولاكان لصاحبي أن يسكت، قَالَ: قلت له: نشدتك بالله هل تعلم أن صاحبي كان عالما بكتاب الله؟ قَالَ: نعم.

قَالَ: قلت: فهل كان عالما بحديث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: نعم.

قَالَ: قلت: أفما كان عاقلا؟ قَالَ: نعم.

قلت: فهل كان صاحبك جاهلا بكتاب الله؟ قَالَ: نعم.

قلت: وبما جاء عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: نعم.

قلت: أفكان عاقلا قَالَ: نعم.

قَالَ: قلت: صاحبي فيه ثلاث خصال لا يستقيم لأحد أن يكون قاضيا إلا بهن أو كلاما هذا معناه.

أقول : هذه المناظرة رواها ابن أبي حاتم في مناقب الشافعي عن يونس بن عبد الأعلى بسياق أتم وفيها أن الشيباني أنكر أن يكون مالك عاقلاً ، وفيها ذكر علم مالك باختلاف الصحابة وجهل أبي حنيفة به ، وليست نسخة المناقب حاضرةً عندي الساعة فأنقل عنها ، والذي أردت قوله أن هذه شهادة صاحبه عليه فإن قبلناها هل يصح أن يكون مجتهداً فضلاً عن أن يكون مقارناً لأحمد ابن حنبل أو الشافعي ؟

والعجيب أن بعض المتعصبين من أتباعه يلمزون بعض الصحابة بعدم الفقه ويردون حديثهم ، وإمامهم ضعيف في الحديث ويشهد عليه صاحبه بالجهل بالقرآن والسنة

وقد نظرت في كتاب الأصل للشيباني في كتاب الحجر فوجدته ينسب أبا حنيفة إلى مخالفة القرآن ، إذ أن مذهب أبي حنيفة أن من تجاوز الأربعين لا يحجر عليه وإن كان سفيهاً ، فاحتج عليه الشيباني بظاهر القرآن ، وقال كلاماً معناه أننا لو قلنا بقول أبي حنيفة لم يكن لقوله تعالى في الآية (فَإِنْ آَنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ ) فائدة

 وقال عبد الله بن أحمد في العلل [ 1707 ] سمعت أبي يقول أهل الرأي لا يروى عنهم الحديث ، فكيف لو رأى أحمد من فرض على الطلبة في الجامعات تحقيق كتبهم ، ومن صار يقرنهم بأهل الحديث ويذكر قولهم قبل أقوال أهل الحديث فيما يسمى بالفقه المقارن ، ولا يميزهم عن أهل الحديث بلقبٍ يخصهم ك ( أهل الرأي ) كما كان السلف يفعلون

وقال أبو داود في مسائله عن أحمد ص275 سمعت أحمد ذكر شيئاً من أمر أصحاب الرأي فقال يحتالون لنقض سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقال عبد الله بن أحمد في مسائله عن أبيه 1585 – حَدثنَا قَالَ سَأَلت ابي عَن الرجل يُرِيد ان يسْأَل عَن الشَّيْء من امْر دينه مِمَّا يبتلى بِهِ من الايمان فِي الطَّلَاق وَغَيره وَفِي مصر من اصحاب الرَّأْي وَمن اصحاب الحَدِيث لَا يحفظون وَلَا يعْرفُونَ الحَدِيث الضَّعِيف وَلَا الاسناد الْقوي فَلِمَنْ يسْأَل لاصحاب الرَّأْي اَوْ لهَؤُلَاء اعني اصحاب الحَدِيث على مَا قد كَانَ من قلَّة معرفتهم قَالَ يسْأَل اصحاب الحَدِيث لَا يسْأَل اصحاب الرَّأْي ضَعِيف الحَدِيث خير من رَأْي ابي حنيفَة.

أقول : أفترى من يقول بهذا يجوز التمذهب بمذهب أبي حنيفة ، أو يجوز أن تدرس كتب متأخري أهل الرأي مثل الكاساني صاحب بدائع الصنائع وابن نجيم صاحب البحر الرائق دراسة استفادة وقد حرفوا في مذهب أبي حنيفة نفسه .

وقال عبد الله بن أحمد في العلل 1926 :

 قَالَ أبي قلت لأبي عَاصِم النَّبِيل الضَّحَّاك بْن مخلد ورأيته يَجِيء يَوْم الْجُمُعَة فيجلس فِي مجْلِس أَصْحَاب الرَّأْي عِنْد هِلَال الرَّأْي فَقلت لَهُ يَوْمًا مَا لَك لَا تكون مثل أَصْحَاب بن عون وَأَصْحَابك مَا لَك وللرأي مَا لَك وَلِهَذَا لَا تكون مثل أَصْحَابك فَسكت فَلم يقل شَيْئا.

وقال المزي في تهذيب الكمال (17/ 437) :” وَقَال أَبُو الحسن الميموني: سمعت أبا عَبد اللَّهِ وسئل عَنْ أصحاب الرأي يكتب عنهم الحديث؟ فقال أَبُو عَبْد اللَّه: قال عَبْد الرَّحْمَن: إذا وضع الرجل كتابا من هذه الكتب كتب الرأي أرى أن لا يكتب عنه الحديث ولا غيره.

 قال أَبُو عَبْد اللَّه: وما تصنع بالرأي وفي الحديث ما يغنيك عنه، أهل الحديث أفضل من تكلم فِي العلم، عليك بحديث رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وما روي عَنْ أصحابه أَبِي بَكْر وعُمَر فإنه سنة”.

أقول : وصية جليلة من إمام جليل .

التنبيه الثالث : نسب بعضهم إلى يحيى بن سعيد القطان أنه كان يفتي بمذهب أبي حنيفة وليس ذلك صحيحاً، قال الدوري في تاريخه عن ابن معين 2530 : سَمِعت يحيى يَقُول قَالَ يحيى بن سعيد الْقطَّان لَا نكذب الله رُبمَا رَأينَا الشَّيْء من رأى أبي حنيفَة فاستحسناه فَقُلْنَا بِهِ.

أقول : فقوله ( ربما ) يدل على ندرة الشيء وقلة تكرره ، ولو كان على مذهبه لما قال ( ربما ) ، بل لقال ( أبو حنيفة إمامنا وبقوله نقول ) ، وكما تقدم عن أحمد أن في الحديث وآثار الصحابة والتابعين الغنية وما أصاب فيه أبو حنيفة لا بد أن تجد له أصلاً في هذه ، ولا بد أن تجد له قائلاً من أهل الحديث والتحقيق، وكذا نسب إلى وكيع بأنه على مذهب أبي حنيفة وقد أجاد الدكتور عبد الرحمن الفريوائي في رد هذا القول في مقدمة كتاب الزهد لوكيع .

قال الترمذي في جامعه 906 – حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ هِشَامٍ الدَّسْتُوَائِيِّ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي حَسَّانَ الأَعْرَجِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ:

أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَلَّدَ نَعْلَيْنِ، وَأَشْعَرَ الهَدْيَ فِي الشِّقِّ الأَيْمَنِ بِذِي الحُلَيْفَةِ، وَأَمَاطَ عَنْهُ الدَّمَ» وَفِي البَابِ عَنْ المِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ.: «حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ» وَأَبُو حَسَّانَ الأَعْرَجُ: اسْمُهُ مُسْلِمٌ «وَالعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ العِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرِهِمْ» ، «يَرَوْنَ الإِشْعَارَ وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَإِسْحَاقَ» سَمِعْتُ يُوسُفَ بْنَ عِيسَى يَقُولُ: سَمِعْتُ وَكِيعًا يَقُولُ حِينَ رَوَى هَذَا الحَدِيثَ، فَقَالَ: «لَا تَنْظُرُوا إِلَى قَوْلِ أَهْلِ الرَّأْيِ فِي هَذَا، فَإِنَّ الإِشْعَارَ سُنَّةٌ، وَقَوْلُهُمْ بِدْعَةٌ» . وَسَمِعْتُ أَبَا السَّائِبِ يَقُولُ: ” كُنَّا عِنْدَ وَكِيعٍ، فَقَالَ لِرَجُلٍ عِنْدَهُ مِمَّنْ يَنْظُرُ فِي الرَّأْيِ: أَشْعَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَقُولُ أَبُو حَنِيفَةَ هُوَ مُثْلَةٌ؟ قَالَ الرَّجُلُ: فَإِنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: الإِشْعَارُ مُثْلَةٌ، قَالَ: فَرَأَيْتُ وَكِيعًا غَضِبَ غَضَبًا شَدِيدًا، وَقَالَ: أَقُولُ لَكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَقُولُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ، مَا أَحَقَّكَ بِأَنْ تُحْبَسَ، ثُمَّ لَا تَخْرُجَ حَتَّى تَنْزِعَ عَنْ قَوْلِكَ هَذَا “.

أقول : والعجيب من صاحب الرأي هذا أنه يتكثر بإبراهيم النخعي ، وقد كان شديداً على المرجئة يبغضهم أكثر من اليهود والنصارى كما قال هو بنفسه ، ومن تناقض أهل الرأي أنهم يعتمدون أقوال النخعي في الفقه فربما بنوا باباً على فتياه.

قال الكوثري في التأنيب ص139 :” ولأبي حنيفة بعض أبواب في الفقه من هذا القبيل ففي كتاب الوقف أخذ بقول شريح القاضي وجعله أصلاً ففرع عليه المسائل فأصبحت فروع هذا الباب غير مقبولة حتى ردها صاحباه ، وهكذا فعل في كتاب المزارعة حيث أخذ بقول إبراهيم النخعي فجعله أصلاً ففرع عليه الفروع”.

أقول : وقد كان أبو حنيفة وأصحابه مرجئة

وقد قال ابن سعد في الطبقات 9192- قَالَ : أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّلْتِ ، قَالَ : حَدَّثَنَا مَنْصُورُ بْنُ أَبِي الأَسْوَدِ ، عَنِ الأَعْمَشِ ، قَالَ : ذُكِرَ عِنْدَ إِبْرَاهِيمَ الْمُرْجِئَةُ فَقَالَ : وَاللَّهِ إِنَّهُمْ أَبْغَضُ إِلَيَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ.

ولهذا تسلط بعض الشافعية على الحنفية بمثل هذا ، وهو مخالفتهم في العقيدة لمن يقلدون في الفقه

 قال صاحب مغني المحتاج (16/ 318) :” فَائِدَةٌ : لَا بِدَعَ وَلَا إشْكَالَ فِي الْعِبَارَةِ الْمَعْزُوَّةِ إلَى إمَامِنَا الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ : أَنَا مُؤْمِنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَهِيَ مَرْوِيَّةٌ عَنْ عُمَرَ ، وَصَحَّتْ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَهِيَ قَوْلُ أَكْثَرِ السَّلَفِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَالْأَشْعَرِيَّةِ ، وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ إنْكَارُهَا .

قَالَ الدَّمِيرِيُّ : وَهُوَ عَجِيبٌ لِأَنَّهَا صَحَّتْ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَهُوَ شَيْخُ شَيْخِ شَيْخِ شَيْخِهِ”.

التنبيه قبل الأخير : قد رأيت شدة السلف على أهل الرأي ، ولا شك أن المتكلمين أولى بالشدة من أهل الرأي ، وكذلك أهل التحزب المعاصر هم أشد من أهل الرأي ، خصوصاً الخوارج منهم ، ومن يستحل الديمقراطية ، وفي هذا الرد على من زعم أن آثار السلف في أهل البدع خاصة بأصحاب البدع الكلامية.

التنبيه الأخير : ذم أهل الرأي وبعض أعيانهم موجودٌ في كتب كثيرة كالمعرفة والتاريخ ليعقوب بن سفيان

 وأحوال الرجال للجوزجاني والمسائل المروية عن أحمد وكتب مناقب الشافعي وعامة كتب المجروحين

 وعدد من كتب العقيدة وغيرها ، ولا زالت هذه الكتب تروى بالأسانيد عصراً بعد عصر حتى وصلت إلينا فمن زعم الإجماع على عدم ثلب أهل الرأي فقد غلط

 وأعظم منه غلطاً من دعا إلى حذف بعض الفصول من كتب أئمة الإسلام المتعلقة بثلب أهل الرأي ، فإن هذا لا يجوز ، وهل سنأتي على جميع الكتب التي ذكر فيها ثلب أهل الرأي ونحذف منها تلك الفصول والنقولات .

وسبحان الله بعض الكتب تحتوي على روايات مكذوبة في ثلب الصحابة كما تجده في بعض التواريخ مثل تاريخ الطبري تجد فيه من مرويات لوط بن يحيى وسيف بن عمر و الواقدي مما فتن خلقاً كثيراً

 ومع ذلك لم نسمع بدعوى لطباعة هذه الكتب مع حذف مرويات هؤلاء أو ما كان منها مسيئاً للصحابة ثم نجد الدعاوى إلى حذف الفصول المتعلقة بثلب أهل الرأي من كتب أئمة الإسلام والله المستعان.

فإن قلت أن الأئمة ثلبوهم بالباطل ، فنسبة الظلم إلى أئمة الجرح والتعديل فيه من المفسدة على أديان ، ما هو أعظم بكثير من ثلب أهل الرأي .

وإن قلت : قد تكلموا فيهم بحق ، فما زالت كتبهم تطبع وأغلاطهم تنتشر بين الناس ، ومن خشي على نفسه في حال معينة ليس له أن يلزم هذه الحال على الدوام فالحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً ومن ترخص برخصة ليس له أن ينكر على من أخذ بالعزيمة .

ثم ذكروا لي موطناً لابن تيمية مشكلاً 
 ذا الموطن المشار إليه :” وَقَالَ طَائِفَةٌ: بَلْ مَنْ اسْتَفَاضَ مِنْ بَيْنِ النَّاسِ إيمَانُهُ وَتَقْوَاهُ وَاتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الثَّنَاءِ عَلَيْهِ كَعُمَرِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد والْفُضَيْل بْنِ عِيَاضٍ وَأَبِي سُلَيْمَانَ الداراني وَمَعْرُوفٍ الْكَرْخِي وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ – رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ – وَغَيْرِهِمْ شَهِدْنَا لَهُ بِالْجَنَّةِ؛ لِأَنَّ فِي الصَّحِيحِ: {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرَّ عَلَيْهِ بِجِنَازَةِ فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا خَيْرًا فَقَالَ: وَجَبَتْ وَجَبَتْ وَمُرَّ عَلَيْهِ بِجِنَازَةِ فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا شَرًّا. فَقَالَ: وَجَبَتْ وَجَبَتْ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ مَا قَوْلُك وَجَبَتْ وَجَبَتْ؟ . قَالَ: هَذِهِ الْجِنَازَةُ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهَا خَيْرًا فَقُلْت وَجَبَتْ لَهَا الْجَنَّةُ وَهَذِهِ الْجِنَازَةُ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهَا شَرًّا فَقُلْت: وَجَبَتْ لَهَا النَّارُ: قِيلَ بِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: بِالثَّنَاءِ الْحَسَنِ وَالثَّنَاءِ السَّيِّئِ} “

وهذا الموطن لم أجده إلا في مجموع الفتاوى وظاهر تقييده بالمسلم الذي اتفق الناس على الثناء عليه ومعلوم أن أبا حنيفة ليس كذلك كما قال ابن تيمية نفسه في رسالته التي في الطلاق

وهو هنا ينقل القول عن غيره فيقول ( وقالت طائفة ) وإلا كيف يتسق هذا مع نقله الاتفاق على تبديعهم في الإيمان

وفي بقية مؤلفاته إذا ذكر هذه المسالة يمثل بعمر بن عبد العزيز والحسن البصري فقط ويحذف بقية التمثيلات

قال في النبوات :” لكن هذا مثل الشهادة لمعين بالجنة، وفيها ثلاثة أقوال4:
قيل: لا يشهد بذلك لغير النبي. وهو قول أبي حنيفة، والأوزاعي، وعلي ابن المديني، وغيرهم.
وقيل: يشهد به لمن جاء به نص، إن1 كان [خبراً] 2 صحيحاً؛ كمن شهد له النبيّ بالجنة فقط. وهذا قول كثيرٍ من أصحابنا، وغيرهم.
وقيل: يشهد به لمن استفاض عند الأمة أنه رجل صالح3؛ كعمر بن عبد العزيز، والحسن البصري، وغيرهما.
وكان أبو ثور4 يشهد لأحمد بن حنبل بالجنّة.
وقد جاء في الحديث الذي في المسند: “يُوشك أن تعلموا أهل الجنة من أهل النار”. قالوا: بماذا يا رسول الله؟ قال: “بالثناء الحسن والثناء السيئ”5.
وفي الصحيحين: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم مُرّ عليه بجنازة، فأثنوا عليها خيراً، فقال: “وَجَبَت وَجَبَت”. ومُرّ عليه بجنازة، فأثنوا عليها شراً، فقال: “وَجَبَت وَجَبَت”. فقيل: يا رسول الله! ما قولك: وجبت وجبت؟ قال:
“هذه الجنازة أثنيتم عليها الخير، فقلت: وجبت لها الجنة. وهذه الجنازة أثنيتم عليها شراً، فقلت: وجبت لها النار. أنتم شهداء الله في الأرض”1.
وفي حديث آخر: “إذا سمعت جيرانك يقولون: قد أحسنتَ، فقد أحسنت. وإذا سمعتهم يقولون: قد أسأتَ، فقد أسأت”2.
وسئل عن الرجل: يعمل العمل لنفسه، فيحمده الناس عليه، فقال: “تلك عاجل بشرى المؤمن” 3.
الثناء على رجل يعرف بأسباب
والتحقيق: أنّ هذا قد [يُعلم] 4 بأسباب، وقد يغلب على الظن. ولا يجوز للرجل أن يقول بما لا يعلم؛ ولهذا لما قالت أم العلاء الأنصارية5: لمّا قدم المهاجرون المدينة اقترعت الأنصار على سكناهم، فصار لنا عثمان بن مظعون6 في السكنى، / فمرض، فمرضناه، ثم توفي، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل، فقلت: رحمة الله عليك أبا السائب فشهادتي أن قد أكرمك الله. قال النبي صلى الله عليه وسلم: ” [وما يدريك] 1 أنّ الله قد أكرمه؟ “. قالت: لا والله، لا أدري. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “أما هو فقد أتاه اليقين من ربه وإني لأرجو له الخير. والله ما أدري وأنا رسول الله ما يُفعل بي ولا بكم”. قالت: فوالله لا أزكي بعده أحداً أبداً. قالت: ثم رأيت لعثمان [رضي الله عنه] 2 بعد في النوم عيناً تجري، فقصصتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: “ذاك عمله”3”

وظاهر آخر كلامه أنه لا يختار أمر الشهادة مطلقاً 

وقال في منهاج السنة :” وَإِنَّمَا قَدْ نَقِفُ فِي الشَّخْصِ الْمُعَيَّنِ ; فَلَا نَشْهَدُ لَهُ بِجَنَّةٍ وَلَا نَارٍ إِلَّا عَنْ عِلْمٍ، لِأَنَّ حَقِيقَةَ بَاطِنِهِ وَمَا مَاتَ عَلَيْهِ لَا نُحِيطُ بِهِ، لَكِنْ نَرْجُو لِلْمُحْسِنِ وَنَخَافُ عَلَى الْمُسِيءِ.
وَلَهُمْ فِي الشَّهَادَةِ بِالْجَنَّةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: مِنْهُمْ مَنْ لَا يَشْهَدُ بِالْجَنَّةِ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْأَنْبِيَاءِ. وَهَذَا قَوْلُ مُحَمَّدِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْأَوْزَاعِيِّ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَشْهَدُ بِالْجَنَّةِ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ جَاءَ فِيهِ نَصٌّ. وَهَذَا قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ.
وَالثَّالِثُ: يَشْهَدُ بِالْجَنَّةِ لِهَؤُلَاءِ وَلِمَنْ شَهِدَ لَهُ الْمُؤْمِنُونَ. كَمَا قَالَ النَّبِيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ” «أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ» ” (3) . وَقَالَ: ” «يُوشِكُ أَنْ تَعْلَمُوا أَهْلَ الْجَنَّةِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ ” قَالُوا: بِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: ” بِالثَّنَاءِ الْحَسَنِ وَالثَّنَاءِ السَّيِّئِ» ” (1) فَأَخْبَرَ أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُعْلَمُ بِهِ أَهْلُ الْجَنَّةِ وَأَهْلُ النَّارِ. وَكَانَ أَبُو ثَوْرٍ يَقُولُ: ” أَشْهَدُ أَنَّ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ فِي الْجَنَّةِ ” وَيَحْتَجُّ بِهَذَا. وَبَسْطُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ.”

والرجل له أطوار في هذا ولا شك

هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم