تحرير معنى المنكر عند أئمة النقد « الحلقة الأولى »

في

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

فإن تحرير معنى ( المنكر ) عند أئمة النقد ، له أهمية بالغة في عدد من
أبواب العلم التي كثر فيها اللغط والخلاف.

الباب الأول : باب الحسن لغيره فالناس متفقون على إن المنكر لا يصلح في
الشواهد والمتابعات.

الباب الثاني : باب فضائل الأعمال فإن القائلين بالأخذ في الحديث الضعيف
في فضائل الأعمال اشترطوا ألا يكون شديد الضعف ، والمنكر شديد الضعف كما قال الإمام
أحمد : «المنكر منكرٌ أبداً » .

الباب الثالث : باب من قال بالتساهل في آثار الصحابة ،  فكيف نحتج بالضعيف ، هو الآخر يشترط ألا يشتد الضعف.

الباب الرابع : من قال بالتساهل في الروايات التاريخية اشترط ألا تكون
منكرة.

وهنا وقفة قبل المضي في البحث قدماً ، وهو أن هؤلاء متفقون على أن المنكر
ما خالف أحاديث الثقات ، وهذا يوجب التأني الشديد قبل الجزم بأن هذا الحديث الضعيف
يصلح في الشواهد والمتابعات فلعلك إذا جمعت أحاديث الباب وجدت فيها ما هو ثابت ويدل
على نكارة الرواية التي معك.

فلعلك وجدت أثراً عن صحابي في التفسير ، في سنده ضعف وقررت أن تتساهل فيه
، حتى إذا جمعت أخبار الباب وجدت فيما يصح عنه ما يخالف الخبر الذي معك ، أو وجدت أن
عامة أصحابه الذين تلقوا عنه يفتون بخلاف الخبر الذي معك مما يدل على أنه غير محفوظ
فالتؤدة التؤدة.

قال  الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة (3/22) : « ثاني: أنك حكيت
عن الذين أجازوا العَمَلَ بالحديث الضعيف في الفضائل في أثناء تسويغك لعدم بيانك لضعف
أحاديثك ما هو حُجَّةٌ عليك لو كنتَ تدري» ، يخرج من فمك، ويجري به قلمُك، فقد ذكرتَ
عنهم (ص 4) أنهم اشترطوا لجواز العمل به شروطاً منها:

أن لا يشتدَّ ضعفُ الحديث.

وأن لا يُعتقد ثبوتُه عن النبي – صلى الله عليه وسلم -.

وهذا منهم شيءٌ جيد جداً، جزاهم اللّه خيراً، وإن كان تحقيقُ ذلك عسيراً
جداً على العلماء فضلاً عن غيرهم من العامّة ومُدَّعي العلم، بحيث صارت تلك الشروطُ
نظريةً غيرَ واقعيةٍ كما حَقَّقْتُ ذلك في مقدمة «ضعيف الجامع الصغير» (ص 47- 51)،
و«صحيح الترغيب» (34- 36)”.

أقول : نعم التفريق بين الضعيف المحتمل والمنكر عسيرٌ جداً على كثير من
العلماء ، لأنه يحتاج إلى جمع الروايات ، ومع جمعها إلى دقة نظر شديدة ، بل الأمر أدق
من ذلك بكثير

وهنا يبدأ البحث من نقطة الإشكال الأولى : وهي أننا كثيراً ما نجد في كتب
العلل وكتب الضعفاء كالكامل والميزان استنكار أحاديث على بعض الثقات والصدوقين ، واستنكار
بعض الأحاديث على الضعفاء المحتمل ضعفهم فما ضابط ذلك ؟

الجواب : أن الناس مع هذه الاستنكارات أقسام:

قسمٌ أخذ يردها بحجة أنها تخالف القواعد ، وغفل هذا القسم عن هؤلاء الأئمة
هم من وضع القواعد ، وما كان الأئمة المصنفون في المصطلح يعترضون عليهم بمثل ذلك ،
فالذهبي صاحب الموقظة وافق على الكثير من استنكارات الأئمة في الميزان ، وكذا الحافظ
في اللسان.

والقسم الثاني : قسم قلد الأئمة وقبل كلامهم وجعل كلامهم في العلل ككلامهم
في الجرح والتعديل ، وهذا القسم وإن كان مسلكه أسلم من القسم الأول ، إلا أنه حرم فهم
كلام الأئمة على وجهه ومقدماته ، وبالتالي حرم التفريع عليه.

القسم الثالث : قسمٌ حاول فهم كلام الأئمة ولم يتسرع في تعقبهم ونقده.

ونحاول أن نكون من هذا القسم في هذه المباحثة ، والنكارة قسمان:

نكارة متنية.

ونكارة إسنادي.

والمهم عندي هنا بيان النكارة الإسنادية لغموضها على كثير من الباحثين
، الذين صاروا يتعقبون الأئمة ولما يفهموا كلامهم بشكل جيد.

وبيان ذلك يبدأ من نص الإمام مسلم في مقدمة صحيحه حيث قال : «فَأَمَّا
مَنْ تَرَاهُ يَعْمِدُ لِمِثْلِ الزُّهْرِيِّ فِي جَلاَلَتِهِ ، وَكَثْرَةِ أَصْحَابِهِ
الْحُفَّاظِ الْمُتْقِنِينَ لِحَدِيثِهِ وَحَدِيثِ غَيْرِهِ ، أَوْ لِمِثْلِ هِشَامِ
بْنِ عُرْوَةَ ، وَحَدِيثُهُمَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ مَبْسُوطٌ مُشْتَرَكٌ ، قَدْ
نَقَلَ أَصْحَابُهُمَا عَنْهُمَا حَدِيثَهُمَا عَلَى الاِتِّفَاقِ مِنْهُمْ فِي أَكْثَرِهِ
، فَيَرْوِي عَنْهُمَا ، أَوْ عَنْ أَحَدِهِمَا الْعَدَدَ مِنَ الْحَدِيثِ مِمَّا لاَ
يَعْرِفُهُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِمَا ، وَلَيْسَ مِمَّنْ قَدْ شَارَكَهُمْ فِي الصَّحِيحِ
مِمَّا عِنْدَهُمْ ، فَغَيْرُ جَائِزٍ قَبُولُ حَدِيثِ هَذَا الضَّرْبِ مِنَ النَّاسِ
وَاللَّهُ أَعْلَمُ».

أقول :الإمام مسلم يبين لنا أن النكارة ليست مختصةً بالمخالفة ، بل الانفراد
أيضاً قد يكون منكراً .

ويمثل لنا بالزهري فهو كثير الأصحاب جداً ، وأصحابه الحفاظ معروفون ، ثم
يأتي من ينفرد عنه بحديثٍ لا يعرفه هؤلاء الأصحاب فإن ذلك يجعله الأئمة سبباً لتضعيف
الراوي ويستنكرون كثيراً من الأخبار التي على هذا السمت.

فإن قلت : أعطني أمثلة من تصرف الأئمة تدل على هذا المعنى الذي فهمته من
كلام الإمام مسلم ، فإن كلام الأئمة يفسر بعضه بعضاً

فأقول : قال ابن أبي حاتم في العلل :« 2668- وَسَأَلْتُ أَبِي عَنْ حَدِيثٍ
؛ رَوَاهُ حَامِدُ بْنُ يَحْيَى الْبَلْخِيُّ ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ ، عَنْ
زِيَادِ بْنِ سَعْدٍ ، عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ ، عَنْ أَبِيهِ
، قَالَ : كَانَ اسْمُ أَبِي بَكْرٍ : عَبْدُ اللهِ بْنُ عُثْمَانَ ، فَلَمَّا قَالَ
رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : أَنْتَ عَتِيقُ اللهِ مِنَ النَّارِ سُمِّيَ عَتِيقًا.
قَالَ أَبِي : هَذَا حَدِيثٌ بَاطِلٌ».

أقول : لو نظرت إلى رجال هذا الإسناد لوجدتهم جميعاً ثقات ، فلماذا حكم
عليه أبو حاتم بالبطلان.

فالجواب : أن حامد بن يحيى البلخي ثقة ليس بمكثر ، انفرد عن سفيان بن عيينة
وهو كثير الأصحاب جداً ، لأنه كان عالي الإسناد وطال به العمر ويكفيك أن من أصحابه
الشافعي ، وعبد الرزاق وعلي بن المديني وأحمد ابن حنبل ، فكيف ينفرد البلخي من دون
كل هؤلاء بهذا الخبر هذا ما جعل أبو حاتم يحكم على الخبر بالبطلان ، مع أنه خبرٌ في
الفضائل.

وهنا مثال آخر : قال المزي في تهذيب الكمال (17/ 95) في ترجمة ابن أبي
الزناد : «قَال صَالِح بْن مُحَمَّد الْبَغْدَادِيّ : روى عَن أبيه أشياء لم يروها
غيره. وتكلم فيه مَالِك بْن أنس، من سبب روايته عَن أبيه كتاب”السبعة”وَقَال:
أين كنا نحن عَنْ هذا».

أقول : فجرحه مالك بمجرد الانفراد لا المخالفة ، وأبو الزناد كثير الأصحاب
جداً وفيهم مالك والسفيانان.

وقال ابن أبي حاتم في العلل : «886- وسمِعتُ أبِي ، وذكر حدِيثًا : رواهُ
قِرانُ بنُ تمّامٍ ، عن أيمن بنِ نابِلٍ ، عن قُدامة العامِرِيِّ ، فقال : رأيتُ النّبِيّ
صلى الله عليه وسلم يطُوفُ بِالبيتِ يستلِمُ الحجر بِمِحجنِهِ.

وسمِعتُ أبِي يقُولُ : لم يروِ هذا الحدِيث عن أيمن إِلاَّ قِرانٌ ، ولا
أراهُ محفُوظًا ، أين كان أصحابُ أيمن بنِ نابِلٍ ، عن هذا الحدِيثِ ؟».

وهنا لا بد من بيان نقطة مهمة وهو أن الحديث قد يكون محفوظاً من حديث صحابي
معين ولا يعرف من حديث صحابي آخر فيأتي من يرويه عن ذلك الصحابي فيعتبر منكراً

قال العقيلي في الضعفاء : «صالح بن موسى الطلحي حدثنا محمد بن عيسى قال
حدثنا عباس قال سمعت يحيى بن معين قال صالح بن موسى ليس بشئ ومن حديثه ما حدثناه محمد
بن عبد الله الحضرمي قال حدثني محمد بن عبيد المحاربي قال حدثنا صالح بن موسى الطلحي
عن عبد العزيز بن رفيع عن أبي صالح عن أبى هريرة قال إذا كانت ليلة باردة أمر رسول
الله صلى الله عليه وسلم المؤذن فأذن وأمره أن ينادى الصلاة في رحالكم لا يتابع عليه
ولا على غيره من حديثه وفى الصلاة في الرحال أحاديث ثابتة جيدة الاسناد من غير هذا
الوجه».

أقول : فهذا الحديث اعتبروه من مناكير الطلحي ، وهو محفوظ من غير طريق
أبي هريرة فلما روي من طريق أبي هريرة من طريق عبد العزيز بن رفيع عن أبي صالح عن أبي
هريرة اعتبره الأئمة منكراً ، وإلا فأين كل أصحاب أبي هريرة والسمان

قال ابن أبي حاتم في العلل : «345- وسألتُ أبِي عَن حدِيثٍ ؛ رواهُ بقِيّةُ
، عن مُعاوِية بنِ يحيى ، عن مُوسى بنِ عُقبة ، عن نافِعٍ ، عنِ ابنِ عُمر ، عنِ النّبِيِّ
صلى الله عليه وسلم ، قال : رُبّ صائِمٍ حظُّهُ مِن صِيامِهِ الجُوعُ ، ورُبّ قائِمٍ
حظُّهُ مِن قِيامِهِ السّهرُ.

قُلتُ لأبِي : فمُعاوِيةُ هذا من هُو ؟ قال : لاَ يُدرى ، غير أنَّ الحدِيث
بِهذا الإِسنادِ مُنكر».

أقول : القاعدة أن حديث المجهول يصلح في الشواهد عند كثيرٍ من المتأخرين
، فلماذا حكم أبو حاتم على الحديث بالنكارة مع أنه ثابت من حديث أبي هريرة عند الإمام
أحمد في مسنده وابن ماجه في سننه.

فالجواب : أن هذا المجهول انفرد بهذه السلسلة موسى بن عقبة بن عن نافع
عن ابن عمر ، على شهرتها عند أهل الحديث وكثرة أصحاب موسى ونافع وابن عمر ، وليس من
أصحابهم المعروفين ممن يحتمل تفردهم ، فكان هذا سبب الاستنكار

وقال ابن أبي حاتم في العلل :«1229- وسمِعتُ أبِي ، وحدّثنا : عن عَبدِ
الصّمدِ بنِ الفضلِ بنِ هِلالٍ الرّبعِيِّ ، عنِ ابنِ وهبٍ ، عنِ ابنِ لهِيعة ، عن
مِشرحِ بنِ هاعان ، عن عُقبة بنِ عامِرٍ الجُهنِيِّ ، قال : قال رسُولُ اللهِ صلى الله
عليه وسلم : لعن اللَّهُ الّذِين يأتُون النِّساء فِي محاشِهِنّ.

قال أبِي : هذا حدِيثٌ مُنكرٌ بِهذا الإِسنادِ ، ما أعلمُ رواهُ عنِ ابنِ
وهبٍ غيرهُ».

أقول : هذا النص فيه فائدة جليلة :

وهي أن هذا الرجل عبد الصمد من شيوخ أبي حاتم وهو صالح الحال عنده وإلا
لما روى عنه ، مع ذلك استنكر عليه الانفراد بهذا من دون جميع أصحاب ابن وهب ، وإن روي
الحديث من وجه آخر ، ولهذا قال الذهبي في ميزان الاعتدال :

«5077 – عبد الصمد بن الفضل. عن ابن وهب. له حديث يستنكر.وهو صالح الحال
إن شاء الله».

وهذا يدل على أن الذهبي قد فهم منهج أبي حاتم فهماً جيداً ، ففرق بين حال
الراوي والرواية .

قال ابن أبي حاتم في العلل : «108- وسألتُ أبِي عَن حدِيثٍ ؛ رواهُ سعِيدُ
بنُ بشِيرٍ ، عن منصُورِ بنِ زاذان ، عنِ الزُّهرِيِّ ، عن أبِي سلمة ، عن عائِشة كان
النّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ، يُقبِّلُ إِذا خرج إِلى الصّلاةِ ، ولا يتوضّأ.

فقال أبِي : هذا حدِيثٌ مُنكرٌ لا أصل لهُ مِن حدِيثِ الزُّهرِيِّ ، ولا
أعلمُ منصُور بن زاذان سمِع مِن الزُّهرِيِّ ولا روى عنهُ».

أقول : سعيد بن بشير ضعيف فقط ، فكيف صار خبره منكراً.

الجواب : أنه صار منكراً بانفراده عن الزهري بما ليس له أصلٌ عند أصحابه
.

وقال ابن أبي حاتم في العلل : «1156- وسألتُ أبِي عَن حدِيثٍ ؛ رواهُ كثِيرُ
بنُ هِشامٍ ، عن كُلثُومِ. بنِ جوشنٍ ، عن أيُّوب السِّختِيانِيِّ ، عن نافِعٍ ، عنِ
ابنِ عُمر ، قال : قال رسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : التّاجِرُ الصُّدُوقُ الأمِينُ
المُسلِمُ مع الشّهداءِ يوم القِيامةِ.

قال أبِي : هذا حدِيثٌ لا أصل لهُ ، وكُلثُومٌ ضعِيفُ الحدِيثِ».

أقول : والسؤال هنا رجلٌ ضعيف لماذا يصير حديثه منكراً لا أصل له.

الجواب : أنه انفرد بهذه السلسلة الذهبية أيوب عن نافع عن ابن عمر ، بهذا
المتن من دون كافة أهل الحديث فلهذا كان خبره منكراً ولهذا يشير ابن حبان بقوله في
بعض الرواة : «ينفرد عن الأثبات بما لا يشبه حديث الثقات».

وقال ابن أبي حاتم في العلل : «2359 – وَسَأَلْتُ أَبِي عَنْ حَدِيثٍ ؛
رَوَاهُ الْمُسَيِّبُ بْنُ وَاضِحٍ ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ أَسْبَاطٍ ، عَنِ الثَّوْرِيِّ
، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ ، عَنْ جَابِرٍ ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه
وسلم ، قَالَ : مُدَارَاةُ النَّاسِ صَدَقَةٌ.

قَالَ أَبِي : هَذَا حَدِيثٌ بَاطِلٌ لا أَصْلَ لَهُ ، وَيُوسُفُ بْنُ
أَسْبَاطٍ دَفَنَ كُتُبَهُ».

يوسف بن أسباط يصلح في الشواهد والمتابعات ولكن انفراده عن الثوري بمثل
هذا من دون جميع أصحاب الثوري عده أبو حاتم منكراً .

وقال الخلال كما في المنتخب من علله : «37- أخبرني عصمة: نا حنبل: حدثني
أبو عبد الله: نا زيد بن حباب: حدثني علي بن مسعدة، عن قتادة، عن أنس، قال: قال رسول
الله (صلى الله عليه وسلم) : “كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التّوّابون».

قال أبو عبد الله: «هذا حديث منكر».

أقول : علي بن مسعدة هذا الراجح ضعفه ولكن ضعفه ليس شديداً فلماذا يستنكر
أحمد خبره

فالجواب : أن قتادة وأنساً كثيرا الأصحاب جداً ، وقد انفرد هذا المتكلم
فيه بهذا عنهم فاستنكره أحمد

واعلم رحمك الله أن كثيراً من الرواة المختلف فيهم ن لم ينزلوا من درجة
الثقة إلى درجة الصدوق إلى بمناكير وقعت منهم فيغلط البعض ويحسن جميع أخبارهم فيقول
: «اختلفوا فيه وحديثه لا ينزل عن رتبة الحسن» ، متناسياً الأخبار المنكرة التي أنزلته
إلى رتبة الصدوق ، فيحسنها هي الأخرى !

قال الخطيب في تاريخ بغداد (12/ 100) :” «حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ
مُحَمَّدٍ الْعَتِيقِيُّ بِلَفْظِهِ مِنْ أَصْلِ كِتَابِهِ وَكَتَبَهُ لِي بِخَطِّهِ،
قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَمْدَانَ الْفَقِيهُ بِعُكْبَرَا،
قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَغَوِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا
مُصْعَبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ،
عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: « إِنَّ اللَّهَ
لا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا»، الْحَدِيثَ.

وَهَذَا الْحَدِيثُ أَيْضًا بَاطِلٌ مِنْ رِوَايَةِ الْبَغَوِيِّ عَنْ
مُصْعَبٍ وَلَمْ أَرَهُ، عَنْ مُصْعَبٍ، عَنْ مَالِكٍ أَصَلا».

أقول : هذا الحديث مخرج في الصحيح من حديث مالك عن هشام بن عروة عن أبيه
عن عبد الله بن عمرو بن العاص .

فما وجه حكم الخطيب عليه بالبطلان ؟

الجواب : أنه لا يعرف من حديث مصعب عن مالك ، وهذا من أدق ما قد تقف عليه
من النقد الإسنادي ، خلافاً لمن يزعم أن الخطيب لم يكن من أهل النقد

وقال الذهبي في الميزان :«9175 – هارون بن موسى الفروي.

شيخ صدوق من شيوخ النسائي.

روى الساجي، وابن ناجية عنه، عن أبي ضمرة، عن حميد، عن أنس، عن النبي صلى
الله عليه وسلم، قال: إن الله يحجب التوبة عن كل صاحب بدعة.

هذا منكر».

أقول : إي والله هو منكرٌ سنداً ومتناً فأما المتن فالأمر واضح ، وأما
السند فأنس بن عياض كثير الأصحاب جداً من أصحابه أحمد والشافعي وابن المديني ، وقد
انفرد هذا الفروي من دون كل هؤلاء ، ثم إن أنساً مديني وحميد بصري وليس له كثير روايةٍ
عنه وقد انفرد من دون جميع أهل البصرة عن حميد بهذا المتن الغريب، عن أنس بن مالك مع
كثرة أصحاب أنس

وقال ابن أبي حاتم في العلل :«2570- وَسَأَلْتُ أَبِي عَنْ حَدِيثٍ ؛ رَوَاهُ
الأَحْوَصُ بْنُ جَوَّابٍ ، عَنْ سُعَيْرِ بْنِ الْخِمْسِ ، عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ
، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ
صلى الله عليه وسلم : مَنْ أُولِيَ مَعْرُوفًا ، فَقَالَ : جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا
، فَقَدْ أَبْلَغَ فِي الثَّنَاءِ.

فَسَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ : هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ بِهَذَا الإِسْنَادِ».

وقال أيضاً : «2197- وَسَأَلْتُ أَبِي عَنْ حَدِيثٍ ؛ رَوَاهُ أَبُو الْجَوَابِ
، عَنْ سُعَيْرِ بْنِ الْخِمْسِ ، عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ
النَّهْدِيِّ ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ،
قَالَ : مَنْ صُنِعَ إِلَيْهِ مَعْرُوفٌ ، فَقَالَ : جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا ، فَقَدْ
أَبْلَغَ فِي الثَّنَاءِ.

قَالَ أَبِي : هَذَا حَدِيثٌ عِنْدِي مَوْضُوعٌ بِهَذَا الإِسْنَادِ».

أقول : هذا يدل على أن المنكر والموضوع عندهم بمعنى واحد ، وليس في السند
ضعيف غير أن انفراد سعير وأبو الجواب وكلاهما صدوق بهذا الخبر من دون جميع أصحاب التيمي
أوجب هذا الحكم القوي من أبي حاتم ، ولم ينفرد أبو حاتم باستنكار هذا الخبر بل تابعه
الإمام البخاري.

قال الترمذي في العلل الكبير : «374 – حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري ،
حدثنا الأحوص بن جواب ، عن سعير بن الخمس ، عن سليمان التيمي ، عن أبي عثمان ، عن أسامة
بن زيد ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من صنع إليه معروف فقال لفاعله
: جزاك الله خيرا فقد أبلغ في الثناء » سألت محمدا عن هذا الحديث فقال : هذا منكر ،
وسعير بن الخمس كان قليل الحديث ، ويروون عنه مناكير . قلت له فمالك بن سعير ؟ فقال
: هذا مقارب الحديث وهو ابنه».

ولهذا ذكر البزار هذا الحديث في مسنده المعلل وأشار إلى علته بقوله :
«وهذا الحديث لا نعلم رواه عن سليمان التيمي إلا سعير، ولا عن سعير إلا الأحوص بن جواب».

فإن قلت : فهل يسع مسلم أن يخالف هؤلاء الأئمة فيما ذهبوا إليه من استنكار
؟

فالجواب : إن كان الأمر بالدفع بالصدر فليس له ذلك ، وإن كان بذكر ما ينقض
به كلامهم من ذكر متابعات سالمة من النقد للراوي المتهم بالانفراد فله ذلك ، ولا أحسبه
يصفو له.

غير أن أئمة النقد قد وقع الاتفاق على أنهم ممن يعتمد قولهم في الجرح والتعديل
، وأحكامهم في الجرح والتعديل مبنيةٌ على منهجهم في استنكار الأخبار فهدم منهجهم في
استنكار الأخبار فتح لباب إسقاط أحكامهم على الرواة فإن الطعن في المقدمة يؤول إلى
الطعن في النتيجة

فإن قلت : قد علمنا أن الثقة قد يروي المنكر وكذلك الضعيف وكذلك الصدوق
فهل كل ما يستنكره الأئمة من الباب الذي ذكرت ؟

فالجواب : لا فقد تكون النكارة متنية ، وكثيرٌ من الأحاديث يستنكر الأئمة
متونها

والباب في هذا واسع

فإن قلت : أعطني مثالاً على خبرٍ لولا ما في متنه من نكارة لكان يصلح في
الشواهد والمتابعات .

روى الدارمي في مسنده (92) من طريق عمرو بن مالك عن أبي الجوزاء عن عائشة

« قحط أهل المدينة قحطا شديدا فشكوا إلى عائشة فقالت : أنظروا قبر النبي
صلى الله عليه وآله وسلم فاجعلوا منه كوا إلى السماء حتى لا يبقى بينه وبين السماء
سقف . قال : ففعلوا فمطرنا مطرا حتى نبت العشب وسمنت الإبل حتى تفتقت من الشحم فسمي
عام الفتق ».

وهذا الخبر ما في سنده من كلام شرحته في كتابي «الإسعاف من إغاثة السقاف»

 قال شيخ الإسلام كما في «مختصر
الرد على البكري»(ص68-69): «وما روي عن عائشة – رضى الله عنها – من فتح الكوة من قبره
إلى السماء لينزل المطر، فليس بصحيح ولا يثبت إسناده، وإنما نقل ذلك من هو معروف بالكذب.

ومما يبين كذب هذا أنه في مدة حياة عائشة لم يكن للبيت كوة، بل كان بعضه
باقياً كما كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، بعضه مسقوف وبعضه مكشوف، وكانت الشمس
تنزل فيه كما ثبت في «الصحيحين» عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي العصر
والشمس في حجرتها لم يظهر الفيء بعد.

ولم تزل الحجرة كذلك حتى زاد الوليد بن عبد الملك في المسجد في إمارته
لما زاد الحجر في مسجد الرسول – صلى الله عليه وسلم».

وقول شيخ الإسلام أن ناقل الخبر من المعروفين بالكذب محل نظر ، ولكن النكارة
المتنية هنا بينة ، فلو ورد هذا الخبر من طريق أخرى لم يصلح هذا للاعتضاد .

وقال ابن أبي حاتم في العلل : «1410_ وسألتُ أبِي عَن حدِيثٍ ؛ رواهُ يعقُوبُ
بن سُفيان ، عن سُليمان بن عَبدِ الرّحمنِ الدِّمشقِيِّ ، حدّثنا مُعاوِيةُ بن صالِحٍ
، عن مُحمّدِ بن حربٍ ، عن بحِيرِ بن سعدٍ ، عن خالِدِ بن معدان ، عن كثِيرِ بن مُرّة
، عن نُعيمِ بن همّارٍ ، عنِ المِقدامِ بن معدِي كرِبٍ ، عن أبِي أيُّوب الأنصارِيِّ
، عن عوفِ بن مالِكٍ الأشجعِيِّ ، قال : خرج علينا رسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيهِ
وَسَلَّمَ بِالهجِيرِ ، وهُو مرعُوبٌ ، فقال : أطِيعُونِي ما دُمتُ بين ظهرانيكُم ،
وعليكُم بِكِتابِ اللهِ ، وأحِلُّوا حلالهُ ، وحرِّمُوا حرامهُ.

فقال : هذا حدِيثٌ باطِلٌ».

أقول : وهذا الحديث نظيف الاسناد ، ولكنه غريب المتن فقوله ( أطيعوني ما
دمت بين ظهرانيكم ) مفهومه أنه لا طاعة للنبي صلى الله عليه وسلم ، بعد وفاته ولهذا
أورده الدارقطني في أطراف الأفراد والغرائب وإن كان تعجب من سنده أيضاً واجتماع أربعة
من الصحابة فيه .

وقال الخلال كما في المنتخب من علله : «106- وقال إبراهيم بن الحارث: إن
أبا عبد الله سئل عن حديث عقبة بن الحارث: “لو كان بعدي نبي لكان عمر”؟.
فقال: اضرب عليه؛ فإنه عندي منكر»

أقول : ووجه النكارة والله أعلم أن أبا بكر الصديق خيرٌ من عمر وأولى منه
بهذه الفضيلة .

والكلام في نكارة المتن يطول ، وإنما المراد هنا الإشارة ، وإذا نظرت في
كتب الضعفاء بعد هذا البيان تبين لك وجه الكثير من الاستنكارات التي لم تكن مفهومةً
عندك

وعندي كثير في هذا الباب ولكني آثرت هذا القليل لكي يفهم جيداً ، وفي الحلقة
الثانية التي ستفرد للكلام على مسألة مخالفة الراوي لمرويه وأثره في نقد المتن عند
النقاد .

هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم