بيان كذب محمد رشيد رضا على الحافظ ابن كثير

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

قال الكائد للإسلام وأهله محمد رشيد رضا في تفسيره المنار (1/8) :

وَأَكْثَرُ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ قَدْ سَرَى إِلَى
الرُّوَاةِ مِنْ زَنَادِقَةِ الْيَهُودِ وَالْفُرْسِ وَمُسْلِمَةِ أَهْلِ
الْكِتَابِ
،
كَمَا قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَجُلُّ ذَلِكَ فِي قَصَصِ الرُّسُلِ مَعَ
أَقْوَامِهِمْ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِكُتُبِهِمْ وَمُعْجِزَاتِهِمْ، وَفِي تَارِيخِ
غَيْرِهِمْ كَأَصْحَابِ الْكَهْفِ وَمَدِينَةِ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ، وَسِحْرِ
بَابِلَ وَعُوجِ ابْنِ عُنُقَ، وَفِي أُمُورِ الْغَيْبِ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ
وَقِيَامَتِهَا وَمَا يَكُونُ فِيهَا وَبَعْدَهَا، وَجُلُّ ذَلِكَ خُرَافَاتٌ
وَمُفْتَرَيَاتٌ صَدَّقَهُمْ فِيهَا الرُّوَاةُ حَتَّى بَعْضُ الصَّحَابَةِ –
رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ –

أقول : لم يقل ابن كثير ذلك أبداً وهذا
كذب عليه ولو قاله لكان مردوداً عليه

إذ أن فيه تجهيلاً لخير القرون واتهاماً
لهم بأنهم كانوا يصدقون الزنادقة والكفار في تفسير كتاب الله عز وجل وذلك يقتضي
عدة أمور

الأول : أنه لم يكن عندهم من العلم المأثور عن
النبي صلى الله عليه وسلم ما يغنيهم عن أكاذيب أهل الكتاب

قال ابن سعد في الطبقات 9985 : أَخبَرنا
حَفصُ بن عُمَر الحَوضيُّ، قالَ: حَدَّثَنا حَماد بن زَيدٍ، قالَ: حَدَّثَنا
عَطاءُ بن السّائِبِ، أَنَّ أَبا عَبدَ الرَّحمَن السُّلَميِّ، قالَ:

 إِنّا أَخَذنا هَذا القُرآنَ عَن قَوم أَخبَرونا
أَنَّهُم كانوا إِذا تَعَلَّموا عَشرَ آياتٍ, لَم يُجاوِزوهُنَّ إِلَى العَشر
الأُخَر, حَتى يَعلَموا ما فيهنَّ, فَكُنّا نَتَعَلَّمُ القُرآنَ والعَمَلَ بِه,
وإِنَّهُ سَيَرِثُ القُرآنَ بَعدَنا قَومٌ لَيَشرَبونَهُ شُربَ الماء لاَ يُجاوِزُ
تَراقيَهُم, بَل لاَ يُجاوِزُ هاهُنا, ووَضَعَ يَدَهُ عَلَى الحَلقِ.

فهل من كان هذا حاله يحتاج إلى أكاذيب أهل
الكتاب ؟

ورشيد رضا وأضرابه ينكرون أموراً عليها
عامة السلف كالقصة المروية في تفسير قوله تعالى ( وألقينا على كرسيه جسداً )
وكالمروي عن ابن عباس وتلاميذه في هم يوسف وكقصة صاحب البقرة

بل قصة هاروت وماروت صحت عن علي بن أبي
طالب وتفسير قوله تعالى ( إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً )
صح عن ابن مسعود وهم ينكرون كل ذلك

 فهل علي وابن مسعود ممن صدق زنادقة أهل الكتاب ؟

ويا ليت شعري هل يجوز في حكمة الرب سبحانه
وتعالى في دينه الذي تعهد بحفظه أن يعلم أن الاسرائيليات المكذوبة ستنتشر ولا يقيض
في زمن السلف من ينكر ذلك إنكاراً تزول به الشبهة بل عامة الاسرائليليات المزعومة
مروية من طريق ابن عباس الذي دعا له النبي صلى الله عليه وسلم الله عز وجل بأن
يفقهه في الدين ويعلمه التأويل ، ويقره أهل طبقته على ذلك ويتابعه أعيان الطبقة
التي تليها

الثاني : أنه يلزم من هذا أن الخلف أعلم بتفسير
كتاب الله عز وجل من السلف

وقد قال الله تعالى في وصف السابقين ( ثلة
من الأولين وقليل من الآخرين )

وقال الله تعالى : (وَالسَّابِقُونَ
الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ
بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ
تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ
الْعَظِيمُ)

وقال البخاري في صحيحه 2652 : حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ
عَنْ عَبِيدَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

 خَيْرُ
النَّاسِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ
يَجِيءُ أَقْوَامٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ وَيَمِينُهُ
شَهَادَتَهُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ وَكَانُوا يَضْرِبُونَنَا عَلَى الشَّهَادَةِ
وَالْعَهْدِ

وقال البخاري في صحيحه 7311 : حَدَّثَنَا
عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ إِسْمَاعِيلَ عَنْ قَيْسٍ عَنْ الْمُغِيرَةِ
بْنِ شُعْبَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

 لَا يَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ
حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ

فهذه شهادة الله تعالى وشهادة نبيه صلى
الله عليه وسلم للسلف الصالح

وأما رشيد رضا وأبو شهبة ومن نهج نهجهم
فيقولون أن هؤلاء أجهل الخلق خدعهم زنادقة أهل الكتاب والفرس فأشاعوا فيهم
الأكاذيب الباطلة فتلقوها عنهم وحدثوا بها جازمين في تفسير الكتاب العزيز وأفشوا
ما لا يليق بالله عز وجل وملائكته وأنبيائه في أمة الإسلام !

فهل يصلح أن يكون هذا وصف خير القرون
وأعلم الناس والطائفة المنصورة!

بل هذه الأخبار التي يدعي محمد رشيد رضا
وأضرابه أنها اسرائيليات البراهين والقرائن تدل على أنها مرفوعة إلى النبي صلى
الله عليه وسلم لم يصرح الراوي برفعها ولا توجد رائحة شبهة تدل على أنها
اسرائيليات وقد بسطت ذلك في مقدمة صحيح آثار ابن عباس وإليك بعضاً مما قلت هناك

قلت هناك ( وقبل الشروع في سرد الآثار أحب
الإجابة على شبهة انتشرت في المعاصرين والمتأخرين، وهي أنهم كلما رأوا صحابياً
يتكلم في أمر غيبي قالوا [هذه إسرائيلية] وأحسنهم طريقة من يقول [قد تكون
إسرائيلية]، وكأن الصحابة والتابعين ما كان عندهم طريقة لمعرفة الأمور الغيبية إلا
الأخبار الإسرائيلية، والواقع أنه لا يوجد دليل ولا قرينة على صدق دعواهم أن هذه
إسرائيلية، بل الأدلة والقرائن كلها تدل على أن هذه الأخبار أخذت من أصول صحيحة
وبيان ذلك من وجوه منها ما هو عام ومنها ما يتعلق بابن عباس وحده

الوجه الأول: أننا إذا قلنا أن الصحابة أخذوا عن بني
إسرائيل وصاروا يحدثون عنهم بما لا أصل في شرعنا، جازمين به موهمين الناس أنه حق
فقد نسبنا الصحابة إلى تضليل الأمة

وقد نبه على هذا القاضي أبو يعلى في إبطال
التأويلات [1/ 222]:

فإن قيل: فقد قيل إن عبد الله بن عمرو
وسقين يوم اليرموك، وكان فيها من كتب الأوائل مثل دانيال وغيره، فكانوا يقولون له
إذا حدثهم: حَدَّثَنَا ما سمعت من رسول الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
ولا تحدثنا من وسقيك يوم اليرموك، فيحتمل أن يكون هَذَا القول من جملة تِلْكَ
الكتب فلا يجب قبوله.

وكذلك كان وهب بن منبه يَقُول: إنما ضل من
ضل بالتأويل، ويرون فِي كتب دانيال أنه لما علا إلى السماء السابعة فانتهوا إلى
العرش رأى شخصا ذا وفرة فتأول أهل التشبيه عَلَى أن ذَلِكَ ربهم وإنما ذَلِكَ
إبراهيم؟

قيل: هَذَا غلط لوجوه: أحدهما أنه لا يجوز
أن يظن به ذَلِكَ لأن فيه إلباس فِي شرعنا، وهو أنه يروي لهم ما يظنوه شرعا لنا،
ويكون شرعا لغيرنا، ويجب أن ننزه الصحابة عن ذَلِكَ. اهـ

قلت: بل يجب تنزيه السلف كلهم عما ينسبه
إليهم هؤلاء، إذ يزعمون أنهم تتابعوا على قبول هذه الآثار الإسرائيلية المتعلقة
بالله وملائكته وأنبيائه وأودعوها في كتب المعتقد والتفسير معتمدين لها بغير نكير،
مع نكارة متونها – زعموا –

الوجه الثاني: أن الصحابة كانوا ينقدون ما يذكره أهل
الكتاب لهم ولا يقبلونه مطلقاً، وما سلم من نقد الصحابة أنى لنا أن نقف على موطن
الخلل فيه.

قال المعلمي: قال معاوية لما ذكر له كعب
الأحبار فقال: إن كان من أصدق هؤلاء المحدثين عن أهل الكتاب، وإن كنا من ذلك لنبلو
عليه الكذب.

وكان عند عبد الله بن عمرو بن العاص صحيفة
عن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسميها [الصادقة] تميزاً لها عن صحف كانت عنده من
كتب أهل الكتاب.

وزعم كعب أن ساعة الإجابة إنما تكون في
السنة مرة أو في الشهر مرة، فرد عليه أبو هريرة وعبد الله بن سلام بخبر النبي صلى
الله عليه وسلم أنها في كل يوم جمعة

وبلغ حذيفة أن كعباً يقول: إن السماء
تدورعلى قطب كقطب الرحي، فقال حذيفة [كذب كعب … ]

وبلغ ابن عباس أن نوفاً البكالي – وهو من
أ صحاب كعب – يزعم أن موسى صاحب الخضر غير موسى بن عمران، فقال ابن عباس [كذب عدو
الله .. .] ولذلك نظائر. اهـ

وقال أبو جعفر بن جرير: حدثنا ابن بشار،
حدثنا عبد الرحمن، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي وائل قال: جاء رجل إلى عبد الله
-هو ابن مسعود-

فقال: من أين جئت؟

قال: من الشام.

قال: مَنْ لقيت؟

قال: لقيت كعبًا.

قال: ما حدثك كعب؟

قال: حدثني أن السموات تدور على مِنْكَب
مَلَك.

قال: أفصدقته أو كذبته؟

قال: ما صدقته ولا كذبته.

قال: لوددت أنك افتديت مَن رحلتك إليه
براحلتك ورَحْلِها، كَذَب كعب.

إن الله تعالى يقول: {إِنَّ اللَّهَ
يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ
أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ}

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في بيان تلبيس
الجهمية [3/ 268]:

وهذا الأثر وإن كان في رواية كعب فيحتمل
أن يكون من علوم أهل الكتاب ويحتمل أن يكون مما تلقاه عن الصحابة ورواية أهل
الكتاب التي ليس عندنا شاهد هو لا دافعها لا يصدقها ولا يكذبها فهؤلاء الأئمة
المذكورة في إسناده هم من أجل الأئمة وقد حدثوا به هم وغيرهم ولم ينكروا ما فيه من
قوله: من ثقل الجبار فوقهن.

فلو كان هذا القول منكرًا في دين الإسلام
عندهم لم يحدثوا به على هذا الوجه. اهـ

وقال العلامة ابن القيم – [كما في مختصر
الصواعق- ص436]

: وَرَوَى يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ عَنِ
الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ كَعْبٍ قَالَ: قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى فِي التَّوْرَاةِ

: أَنَا اللَّهُ فَوْقَ عِبَادِي،
وَعَرْشِي فَوْقَ جَمِيعِ خَلْقِي، وَأَنَا عَلَى عَرْشِي أُدَبِّرُ أَمْرَ
عِبَادِي، وَلَا يَخْفَى عَلَيَّ شَيْءٌ فِي السَّمَاءِ وَلَا فِي الْأَرْضِ.

وَرَوَاهُ ابْنُ بَطَّةَ وَأَبُو
الشَّيْخِ وَغَيْرُهُمَا بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

وَهَبْ أَنَّ الْمُعَطِّلَ يُكَذِّبُ
كَعْبًا وَيَرْمِيهِ بِالتَّجْسِيمِ، فَكَيْفَ حَدَّثَ بِهِ عَنْهُ هَؤُلَاءِ
الْأَعْلَامُ مُثْبِتِينَ لَهُ غَيْرَ مُنْكِرِينَ؟

الوجه الثالث: أن جزم الصحابي بما يقول يؤكد أنه ليس
إسرائيلية، لأن الاسرائيليات لا تصدق ولا تكذب، فكيف يجزم بما لا يصدق ولا يكذب

وقد نبه على هذا المعنى شيخ الإسلام ابن
تيمية

كما في مجموع الفتاوى [13/ 345]:

وَمَا نُقِلَ فِي ذَلِكَ عَنْ بَعْضِ
الصَّحَابَةِ نَقْلًا صَحِيحًا فَالنَّفْسُ إلَيْهِ أَسْكَنُ مِمَّا نُقِلَ عَنْ
بَعْضِ التَّابِعِينَ لِأَنَّ احْتِمَالَ أَنْ يَكُونَ سَمِعَهُ مِنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ مِنْ بَعْضِ مَنْ سَمِعَهُ مِنْهُ أَقْوَى؛
وَلِأَنَّ نَقْلَ الصَّحَابَةِ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَقَلُّ مِنْ نَقْلِ
التَّابِعِينَ.

 وَمَعَ جَزْمِ الصَّاحِبِ فِيمَا يَقُولُهُ
فَكَيْفَ يُقَالُ إنَّهُ أَخَذَهُ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَقَدْ نُهُوا عَنْ
تَصْدِيقِهِمْ؟.
اهـ

الوجه الرابع: أن الصحابة عموماً وابن عباس خصوصاً
كانوا من أشد احترازاً من التفسير بالرأي، لاحتماله الصواب والخطأ فكيف يفسرون
القرآن بالاسرائيليات التي تحتمل الصواب والخطأ، والتي تحمل في طياتها على زعم
جماعة من المعاصرين اعتقاداً باطلاً!

قال أبو عبيد في فضائل القرآن [689]:

حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن أيوب، عن
ابن أبي مليكة، قال:

سأل رجل ابن عباس عن يوم كان مقداره ألف
سنة؟

فقال ابن عباس: فما يوم كان مقداره خمسين
ألف سنة؟

قال الرجل: إنما سألتك لتحدثني.

فقال ابن عباس: هما يومان ذكرهما الله في
كتابه، الله أعلم بهما. فكره أن يقول في كتاب الله ما لا يعلم.

أقول: فأين من ينسب ابن عباس إلى التفسير
بالرأي والتوسع في ذلك؟

قال أبو عبيد القاسم بن سلام في فضائل
القرآن [690]:

حدثنا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن عمرو بن
مرة، قال: قال رجل لسعيد بن جبير:

أما رأيت ابن عباس حين سئل عن هذه الآية
والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم فلم يقل فيها شيئا، فقال سعيد: كان لا
يعلمها

أقول: فأين من ينسب ابن عباس إلى التفسير
بالرأي والتوسع في ذلك، وأنه إمام مدرسة التفسير بالرأي!

الوجه الخامس: من يقول في بعض أخبار ابن عباس أنها
إسرائيلية

من أين له أنه أخذه عن بني إسرائيل فقد
يكون أخذه عن غيره من الصحابة، أو عن النبي صلى الله عليه وسلم، وخصوصاً وأن ابن
عباس روايته عن النبي صلى الله عليه وسلم وغيره من الصحابة أكثر بكثير من روايته
عن كعب الأحبار فإنها قليلة جداً

فإن قيل: لو كان عن النبي صلى الله عليه
وسلم لسماه؟

فيقال: هذا الإيراد يسقطه وجود المرفوع
حكماً، وقد حكى العديد من الصحابة أخباراً غيبية ولا يعرفون بالأخذ عن بني إسرائيل
فاعتبر ذلك العلماء مرفوعاً حكماً.

فعلى سبيل المثال لا الحصر قال ابن
المبارك في الزهد [425]:

قال أنا سفيان عن منصور عن أبي الضحى عن
مسروق عن ابن مسعود قال:

جنات عدن بطنان الجنة , يعني سرة الجنة.

فهذا له حكم الرفع من صحابي لا يعرف
بالأخذ عن علماء أهل الكتاب ممن أسلم، ولم يرفعه وله حكم الرفع

وهذا حذيفة يحكي قصة إهلاك قوم لوط كما في
الكتاب العقوبات لابن أبي الدنيا

وهذا عثمان يحكي قصة ذاك الرجل الذي شرب
الخمر فزنا وقتل كما في المصنف [17060]

وغيرهم كثير ولا يعرفون بالأخذ عن بني
إسرائيل ولا يشك أحد أنهم أخذوا ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم

وابن عباس تتلمذ على عمر بن الخطاب، وكان
من أهل مجلس شورته وحمل عنه علماً كثيراً، وفي صحيح البخاري سأله عن المرأتين اللتين
تظاهرتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأجابه عمر

وتتلمذ على أبي بن كعب، وعنه يروي قصة
موسى والخضر التي في الصحيحين

وتتلمذ على زيد بن ثابت، وأمر تلمذته عليه
مشهور

فلو فرضنا أنه جاءنا أثر عن ابن عباس ولو
نعلم هل هو إسرائيلية أخذها من كعب الأحبار أم هي خبر مرفوع عن النبي صلى الله
عليه وسلم، أو عن عمر أو عن أبي بن كعب أو زيد بن ثابت أو غيرهما من الصحابة

لكانت القسمة العادلة تقتضي أن يكون
احتمال كونه مأخوذاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أو قراء صحابته 80%، واحتمال
كونه مأخوذاً من كعب الأحبار 20% أو أقل من ذلك

فما كان هذا شأنه كيف يجزم أنه إسرائيلية،
بل لو كان مرفوعاً حكماً وكذبنا به لكان هذا التكذيب كفراً، فأيهما أحوط للدين أن
نكذب بما لم نحط به علماً، أم أن نعرف لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم قدرهم
ونعتقد ما اعتقدوا.

الوجه السادس: قال عبد الرزاق في تفسيره [2596]:

عَنْ إِسْرَائِيلُ , عَنْ فُرَاتٍ
الْقَزَّازِ , عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ , عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ , قَالَ:

أَرْبَعُ آيَاتٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ لَمْ
أَدْرِ مَا هُنَّ حَتَّى سَأَلْتُ عَنْهُنَّ كَعْبَ الْأَحْبَارِ:

قَوْمُ تُبَّعٍ فِي الْقُرْآنِ وَلَمْ
يُذْكَرْ تُبَّعٌ , قَالَ: إِنَّ تُبَّعًا كَانَ مَلِكًا وَكَانَ قَوْمُهُ
كُهَّانًا , وَكَانَ فِي قَوْمِهِ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَكَانَ
الْكُهَّانُ يَبْغُونَ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ , وَيَقْتُلُونَ تَابِعَتَهُمْ.

فَقَالَ أَصْحَابُ الْكِتَابِ لِتُبَّعٍ:
إِنَّهُمْ يَكْذِبُونَ عَلَيْنَا.

قَالَ: فَإِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ
فَقَرِّبُوا قُرْبَانًا فَأَيُّكُمْ كَانَ أَفْضَلَ أَكَلَتِ النَّارُ قُرْبَانَهُ
, قَالَ: فَقَرَّبَ أَهْلُ الْكِتَابِ وَالْكُهَّانُ , فَنَزَلَتْ نَارٌ مِنَ
السَّمَاءِ فَأَكَلَتْ قُرْبَانَ أَهْلِ الْكِتَابِ.

قَالَ: فَتَبِعَهُمْ تُبَّعٌ فَأَسْلَمَ ,
فَلِهَذَا ذَكَرَ اللَّهُ قَوْمَهُ فِي الْقُرْآنِ وَلَمْ يَذْكُرْهُ.

وَسَأَلْتُهُ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ
{وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ} قَالَ: «شَيْطَانٌ
أَخَذَ خَاتَمَ سُلَيْمَانَ الَّذِي فِيهِ مُلْكُهُ فَقَذَفَ بِهِ فِي الْبَحْرِ
فَوَقَعَ فِي بَطْنِ سَمَكَةٍ , فَانْطَلَقَ سُلَيْمَانُ يَطُوفُ إِذْ تُصُدِّقَ
عَلَيْهِ بِتِلْكَ السَّمَكَةِ , فَاشْتَرَاهَا فَأَكَلَهَا , فَإِذَا فِيهَا
خَاتَمُهُ فَرَجَعَ إِلَيْهِ مُلْكُهُ.

أقول: ظاهر هذا أن ابن عباس لم يتعلم من
كعب إلا هذه الأمور الأربعة، وأما بقية الآيات فكان عنده علمٌ من قبل كعب الأحبار
فتنبه لهذا فإنه مهم، ولم يذكر الآيتين الباقتين

وقد جاءت في خبر عكرمة

قال ابن أبي شيبة في المصنف [35253]:

حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ
زَائِدَةَ، عَنْ مَيْسَرَةَ الأَشْجَعِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:

قَالَ: سَأَلْتُ كَعْبًا: مَا سِدْرَةُ
الْمُنْتَهَى؟

فَقَالَ: سِدْرَةٌ يَنْتَهِي إِلَيْهَا
عِلْمُ الْمَلاَئِكَةِ، وَعِنْدَهَا يَجِدُونَ أَمْرَ اللهِ لاَ يُجَاوِزُهَا
عِلْمُهُمْ.

وَسَأَلْتُهُ عَنْ جَنَّةِ الْمَأْوَى؟

فَقَالَ: جَنَّةٌ فِيهَا طَيْرٌ خُضْرٌ،
تَرْتَقِي فِيهَا أَرْوَاحُ الشُّهَدَاءِ.

وقال أيضاً [32544]:

حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ
زَائِدَةَ، عَنْ مَيْسَرَةَ الأَشْجَعِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:

قَالَ: سَأَلْتُ كَعْبًا عَنْ رَفْعِ
إدْرِيسَ مَكَانًا عَلِيًّا؟ وذكر خبراً

فهذا يدل على أن بقية القرآن كله علمه ابن
عباس من الصحابة من أمثال عمر بن الخطاب الذي ذكر كما في صحيح البخاري أنه أخبره
بشأن المرأتين اللتين تظاهرتا، وأبي بن كعب الذي روى عنه قصة موسى والخضر في
الصحيح، وزيد بن ثابت الذي تتلمذ عليه طويلاً وغيرهم من الصحابة

فإذا تأرجح بين كونه مأخوذاً عن كعب أو
غيره، كان الأصل أنه أخذه من غيره من الصحابة لأن هذا هو الأكثر الغالب، وإذا كان
متعلقاً بأمر القرآن فالمتعين أنه أخذه عن النبي صلى الله عليه وسلم أو الصحابة
لأن مسائله عن كعب عدها لك عداً”

 انتهى المراد نقله ومن أراد بقية الكلام فليراجع
المصدر المذكور

والأمر لم يقف عند ابن عباس بل تعدى إلى
تكذيب خبر علي في هاروت وماروت وإلى تكذيب خبر ابن مسعود في قصة داود وخطيئته
وتوبته منها

بل العجيب أن نبي الله صالحاً ونبي الله
هوداً لم يذكروا في التوراة وليسوا من أنبياء بني إسرائيل بل هم من العرب ويقال في
بعض أخبارهم ( إسرائيليات ) !

بل ما صح عن علي في أن آدم أهبط في الهند
قال ابن كثير أنه إسرائيلية ( ولعله لم يستحضره عن علي ) ، وتابعه على ذلك من
تابعه

بل العجيب أن مثل هذا يدعى في قصة
الغرانيق فهل كان التابعون الذين تتلمذوا على الصحابة بحاجة إلى خبر أهل الكتاب
والزنادقة في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ! ، وقصة الغرانيق من أخبار السيرة

بل حتى التفسير المتعلق باللغة يرد أيضاً
فتفتسير عبد الله بن عمرو للحصور يردونه وتفسير ابن عباس وعدد من التابعين للحروف
المقطعة أيضاً يردونه

فلا أدري ما قيمة قولهم بعد ذلك ( على فهم
سلف الأمة ) ! وهذا قدر سلف الأمة عندهم

والواقع أنه في هذا العصر قد عصفت عدة فتن
كلها تسفيه للسلف وحط من قدرهم وإعلاء لأهل الباطل عليهم والعجيب أن ذلك انتشر بين
المنتسبين للسلف

الأولى : فتنة تعظيم أهل الرأي والخلط بين طريقتهم
وطريقة أهل الحديث واتهام أئمة أهل الحديث بظلم أهل الرأي وقد نتج عن ذلك دخول عدد
من مسائل أهل الرأي على أهل الحديث

والعجيب أن كثيراً ممن تأثر بهذه الفتنة
يردد آثاراً يدخل أهل الرأي في عمومها ويدخل هو فيها

كترديد أثر ( إن هذا العلم دين )

( والسني الذي أذا ذكرت الأهواء لم يغضب
لشيء منها )

ثم هو يغضب لأهل الرأي فبين حال نفسه
بنفسه

الثانية : فتنة تهوين الخلاف مع الجهمية الإناث
المرجئة الجبرية واعتبار بدعتهم غير مكفرة والقول بأن كثيراً من أئمة الإسلام منهم
وترتب على ذلك النفرة من مواقف الإمام أحمد وغيره من الأئمة من اللفظية والواقفة
الذين هم خير من هؤلاء ، وترتب عليه دخول العديد من بدعهم على أهل السنة بسبب إحسان
الظن وضعف العناية بالآثار

الثالثة : الظاهرية ورد أقوال الصحابة وإجماعات
السلف في الفقه فقرابة العشرين مسألة ينقل فيها الإجماع على قول وترى أدعياء
الاجتهاد والتحقيق على قول آخر حتى انهم في بعض المسائل ردوا إجماعات ابن حزم نفسه
!

الرابعة : دعوى أن تفسير السلف المأثور كثير منه
مأخوذ عن بني إسرائيل

الخامسة : تقليد بعض المعاصرين في التصحيح والتضعيف
وإهمال كلام السلف في ذلك الباب إلا ما وافق ما ذهب إليه المعاصر المقلد – بفتح
اللام –

وهكذا تسفيه للسلف في التفسير والفقه
والحديث بل و في العقيدة واتهام لهم بأنهم أفشوا الاسرائيليات الباطلة في الأمة ،
ثم إنهم نقموا على أهل الرأي وظلموهم وحسدوهم ثم إنهم تنطعوا وتوسعوا في إطلاق
التجهم والتكفير على الناس ثم إنهم تتابعوا على مقالات لا دليل عليها في الفقه وهي
إما تخالف القياس أو تخالف الأخبار الثابتة ثم إنهم تكلموا في الأخبار بالتخرص
فضعفوا أخبار الثقات بلا حجة وما اعتنوا بجمع الطرق

فأي سلف هؤلاء ؟!

أليس هذا هدم للدين من القواعد عن طريق
إسقاط الثقة بالكامل في السلف الصالح

ولو قلت عشر هذا في بعض المعاصرين لقالوا
( يطعن في العلماء ) !

ونحن هنا لا نتكلم عن المنقول عن أفراد بل
هذه الأمور التي يستنكرها القوم هي أمور في فعلها السلف في كل طبقاتهم

ثم بعد قولهم بهذه الأطروحات المسفهة
للسلف أو بعضها والسكوت على البعض الآخر يزعمون انتحال السلف ، والغيرة على الدين .

وحقيقة أمرهم تنافس على الرياسة أو جهل
وغفلة مع سلامة صدر زائدة في الأخيار منهم وقل ما هم وتحمر أنوفهم لأنفسهم ولا تحمر
للسلف الذين أهينوا بشتى أنواع الإهانات في هذا العصر

ولما كان المفتونون بهذه الفتن يعلمون أن
في كتب السلف ترياقاً شافياً لسمومهم بالغوا في التنفير منها والتحذير ممن يقرأها
ويدرسها فافهم سر المسألة

ولا تظنن أنهم إذا تكلموا في بعض المسائل
يريدون فلاناً وفلاناً بل هم يريدون السلف ولكن لا يستطيعون التصريح كما لم يستطيع
الرافضة التصريح بالنبي صلى الله عليه وسلم

فهم إذا تكلموا في أمر أهل الرأي وقالوا (
غلا بعضهم ) و ( إمام أهل الرأي محسود ) فهم يريدون سفيان وأحمد والأوزاعي ولو لم
يريدوهم فمن يريدون وما تكلم إلا هؤلاء وأضرابهم

وإذا قالوا فشت الاسرائيليات في الأمة
بفعل بعض المحدثين فهم يريدون أبا هريرة وابن عباس وسعيد بن جبير وعكرمة بل هم
يريدون كل المحدثين وقولهم ( بعض ) مجرد تغرير وتقسيمهم للصحابة بأن منهم من يأخذ
عن بني إسرائيل ومنهم من لا يأخذ مجرد خطوة أولية فالأمر وصل إلى علي وابن مسعود
وما اتفق عليه السلف

وهؤلاء المكذبون لأخبار السلف لهم حظ من
قوله تعالى : (بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا
يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ
كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ)

وقوله تعالى : (وَقَالُوا أَسَاطِيرُ
الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا)

فهذا الذي قاله المشركون في النبي صلى
الله عليه وسلم هو ما يقوله الجهلة الأغبياء في أخبار ورثة النبي صلى الله عليه
وسلم من هذه الأمة

ومحمد رشيد رضا إنكاره لم يتوقف على آثار
الصحابة والتابعين ، بل هو ينكر الرجم والدجال ونزول المسيح ويأجوج ومأجوج وينفي
الكثير من الأخبار الغيبية ويصرح بأن أخبار الآحاد لا تصلح في العقيدة ومع ذلك
يصفه مشهور حسن الذي يتكلم عن التأصيل العلمي بأنه ( الإمام السلفي )!

هذا
وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم