فمن المشهور عند كثير من طلبة العلم أن ( النشرة
) هي حل السحر بالسحر، وأن بعض السلف أجاز هذا، والحق أن النشرة عند السلف إنما
يراد به الرقى المجهولة التي لا يجزم بأنها سحر ، أو القراءة على الماء ووضع أوراق
السدر فيه لعلاج المريض، فجاء في جامع معمر (باب النشر وما جاء فيه):
19762 – عبد الرزاق قال أخبرنا عقيل بن
معقل عن همام بن منبه قال سئل جابر بن عبد الله عن النشر فقال من عمل الشيطان .
19763 – قال عبد الرزاق وقال الشعبي لا
بأس بالنشرة العربية التي لا تضر إذا وطئت قال عبد الرزاق وقال الشعبي لا بأس
بالنشرة العربية التي لا تضر إذا وطئت والنشرة العربية أن يخرج الإنسان في موضع
عضاه فيأخذ عن يمينه وشماله من كل ثمر يدقه ويقرأ فيه ثم يغتسل به وفي كتب وهب أن
تؤخذ سبع ورقات من سدر أخضر فيدقه بين حجرين ثم يضربه في الماء ويقرأ فيه آية
الكرسي وذوات قل ثم يحسو منه ثلاث حسوات ويغتسل به فإنه يذهب عنه كل ما به إن شاء
الله وهو جيد للرجل إذا حبس من أهله قال عبد الرزاق وحبس رسول الله صلى الله عليه
و سلم من عائشة خاصة حتى أنكر بصره، فهذا تعريف عبد الرزاق والشعبي للنشرة العربية
لا علاقة له بالسحر لا من قريب ولا من بعيد.
وقال ابن وهب في جامعه 680 – وَأَخْبَرَنِي
مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: سَأَلْتُ عَطَاءَ بْنَ أَبِي
رَبَاحٍ، عَنِ النُّشْرَةِ , وَكَرِهَ ذَلِكَ إِلَّا صَبًّا، قَالَ: يَعْقِدُونَ
بِهَا، قَالَ: وَلَا أَدْرِي مَا يَصْنَعُونَ، قَالَ: فَأَيُّمَا شَيْءٍ
تَصْنَعُهُ فَلَا بَأْسَ بِهِ، فقوله (إلا صباً) يدل على ما ذكرناه من النشرة صب
الماء ، على هيئة معينة عندهم.
وقال أبو داود في سننه باب في النشرة ( ضرب
من الرقية والعلاج يعالج به من كان يظن به مس الجن )، وما بين القوسين من كلام
الخطابي؛ قال ابن ماجه في سننه 40- بَابُ النُّشْرَةِ، 3532- حَدَّثَنَا أَبُو
بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ سُلَيْمَانَ ،
عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ عَمْرِو بْنِ الأَحْوَصِ
، عَنْ أُمِّ جُنْدُبٍ ، قَالَتْ : رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى الله عَليْهِ
وسَلَّمَ رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ ، مِنْ بَطْنِ الْوَادِي يَوْمَ النَّحْرِ ،
ثُمَّ انْصَرَفَ وَتَبِعَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْ خَثْعَمٍ ، وَمَعَهَا صَبِيٌّ لَهَا
بِهِ بَلاَءٌ لاَ يَتَكَلَّمُ ، فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللهِ ، إِنَّ هَذَا
ابْنِي وَبَقِيَّةُ أَهْلِي ، وَإِنَّ بِهِ بَلاَءً لاَ يَتَكَلَّمُ فَقَالَ
رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَليْهِ وسَلَّمَ : ائْتُونِي بِشَيْءٍ مِنْ مَاءٍ ،
فَأُتِيَ بِمَاءٍ فَغَسَلَ يَدَيْهِ وَمَضْمَضَ فَاهُ ثُمَّ أَعْطَاهَا ، فَقَالَ :
اسْقِيهِ مِنْهُ ، وَصُبِّي عَلَيْهِ مِنْهُ ، وَاسْتَشْفِي اللَّهَ لَهُ . قَالَتْ
: فَلَقِيتُ الْمَرْأَةَ فَقُلْتُ : لَوْ وَهَبْتِ لِي مِنْهُ ، فَقَالَتْ : إِنَّمَا
هُوَ لِهَذَا الْمُبْتَلَى ، قَالَتْ : فَلَقِيتُ الْمَرْأَةَ مِنَ الْحَوْلِ
فَسَأَلْتُهَا عَنِ الْغُلاَمِ ، فَقَالَتْ : بَرَأَ وَعَقَلَ عَقْلاً لَيْسَ
كَعُقُولِ النَّاسِ، الحديث الذي أورده ابن ماجه ضعيف ، ولكن تأمل متنه ليس فيه
رائحة السحر إنما هو علاج المريض بالماء.
وقال ابن حبان في صحيحه ذِكْرُ الْخَبَرِ
الْمُدْحِضِ قَوْلَ مَنْ نَفَى جَوَازَ اتِّخَاذِ النُّشْرَةِ لِلْأَعِلَّاءِ،
فهنا ابن حبان يريد الرد على من منع من االنشرة فماذا أورد ؟
قال ابن حبان في صحيحه 6069 – أَخْبَرَنَا
عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْهَمْدَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الطَّاهِرِ بْنُ
السَّرْحِ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، فَقَالَ: أَخْبَرَنِي دَاوُدُ بْنُ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَكِّيُّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى الْمَازِنِيِّ، عَنْ
يُوسُفَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ الشَّمَّاسِ، عَنْ أَبِيهِ،
عَنْ جَدِّهِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ
دَخَلَ عَلَيْهِ فَقَالَ: «اكْشِفِ الْبَأْسَ، رَبَّ النَّاسِ، عَنْ ثَابِتِ بْنِ
قَيْسِ بْنِ الشَّمَّاسِ»، ثُمَّ أَخَذَ تُرَابًا مِنْ بُطْحَانَ فَجَعَلَهُ فِي
قَدَحٍ فِيهِ مَاءٌ، فَصَبَّهُ عَلَيْهِ.
هذا الخبر الذي أورده خبر في القراءة على
الماء !
وقال البيهقي في سننه الكبرى ( الْقَوْلُ
فِيمَا يُكْرَهُ مِنَ النُّشْرَةِ وَفِيمَا لَا يُكْرَهُ كَالْقَوْلِ فِي
الرُّقْيَةِ).
وقال في الصغرى ( 3128 – وروي ، عن جابر ،
مرفوعا أنه سئل عن النشرة ، فقال : « هو من عمل الشيطان » والنشرة ضرب من الرقية
والعلاج يعالج به من كان يظن به مس من الجن ، وكل ذلك إذا كانت الرقية بغير كتاب
الله وذكره ، فإذا كانت بما يجوز فلا بأس بها على وجه التبرك بذكر الله)، فجوز
وجود نشرة خالية من السحر، وقال قوام السنة الأصبهاني في دلائل النبوة (1/ 170)
:” وَقَوْلُهُ تَنَشَّرْتَ مِنَ النَّشْرَةِ أَيْ هَلَا حَلَلْتَ السِّحْرَ
الَّذِي سُحِرْتَ بِعِلَاجٍ أَوْ مُدَاوَاةٍ”.
وقال العراقي في طرح التثريب (9/ 67)
:” فَإِنَّهَا تَأْخُذُ مَاءً يَسِيرًا تَرُشُّ بِهِ فِي جَيْبِ الْمَحْمُومِ
أَوْ يُنْضَحُ بِهِ وَجْهُهُ وَيَدَاهُ وَرِجْلَاهُ ، وَيُذْكَرُ اسْمُ اللَّهِ
فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ بَابِ النُّشْرَةِ الْجَائِزَةِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ
ذَلِكَ مِنْ بَابِ الطِّبِّ”، فسماه نشرة وليس بسحر.
وقال ابن حجر في شرح البخاري (10/ 205)
:” وفي الحديث من الفوائد أيضا: أن العائن إذا عرف يقضي عليه بالاغتسال، وأن
الاغتسال من النشرة النافعة”
ولو فرضنا أن النشرة من الألفاظ المشتركة التي
تحتمل عدة معاني كلفظ ( العين ) ، فمن أين لنا أن من أجاز النشرة من السلف أراد حل
السحر بالسحر ، ولم يرد المعنى الثاني من النشرة ، خصوصاً مع كون الساحر كافراً
حلال الدم عند جمهور أهل العلم.
وترجيح أحد المعنيين على الآخر يحتاج إلى
بينة وليس بالتشهي، ولا يجوز حمل كلام السلف على المتعارف عندنا أو ما اصطلح عليه
المتأخرون ، ومن نظر في عامة استخدامهم لهذا اللفظ في القرون الأولى ، وجده لا
يخرج عما ذكرنا، ومنع الحسن البصري منها ، إن صح عنه إما لعدم صحة النص عنده بجواز
ذلك الفعل الوارد ، وإما أن يكون للنشرة عدة معاني على ما ذكرنا ولهذا مال ابن
القيم في إعلام الموقعين.
قال ابن حجر في شرح البخاري (10/233)
:” ثم الحصر المنقول عن الحسن ليس على ظاهره لأنه قد ينحل بالرقى والأدعية
والتعويذ ولكن يحتمل أن تكون النشرة نوعين”.
وهذا أخذه من كلام ابن القيم في زاد
المعاد وإليه جنح سليمان بن عبد الله في تيسير العزيز الحميد
وفيما سبق رد على قول ابن الجوزي (النشرة
حل السحر عن المسحور ولا يكاد يقدر عليه إلا من يعرف السحر)، فإن هذا إنما ينطبق
على معنى واحد من معاني النشرة ، وهو غير المعنى المشهور عند السلف إلا أن يكون
أراد ( إلا من يعرف السحر ) أي يعرف المسحور ، وأي أنواع السحر وقع عليه وكيف
يعالج وهذا ربما أدركه المرء بممارسة العلاج ، وإن لم يكن ساحراً. هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه
وسلم