قال تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب} [المائدة].
اقتران (الإثم) و(العدوان) في الآية فيه فائدة جليلة في نقض القاعدة الليبرالية (أنت حر ما لم تضر)، ويريدون بها اسكت عمن لا يضر الناس، لا تأمره؛ ولا تنهاه؛ ولا تهجره وإن جاهر.
فـ (العدوان) هو الإضرار بالخلق، وأما (الإثم) فهو شامل لما فيه إضرار وما ليس فيه إضرار، وقد يُراد به هنا ما لم يكن فيه إضرار، لعطفه على العدوان.
واعلم -رحمك الله- : أن الدين الحق لا بد فيه من نواهٍ لا تتعلق بحقوق الخلق، يتحقق بها تقوى العبد لله تبارك وتعالى، كترك ذنوب السر؛ لأن الله عز وجل يراك ويسمعك على كل حال.
فكل من يقرر قاعدة (أنت حر ما لم تضر) هو متعاون على الإثم والعدوان، ملغٍ لمعنى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وفي الآية: الحث على البر والتقوى.
وقد يراد بالبر ما فيه إحسان للخلق، كما فيه قوله تعالى: {أن تبروهم وتقسطوا إليهم} [الممتحنة].
والتقوى هي مطلق طاعة الله عز وجل، وقد يراد بها: ما لم يُعقل فيه معنى الإحسان للخلق، أو ما كان فيه معنى خفي كالإخلاص في الصدقة، فقد ورد في الحديث: «التقوى هاهنا» وأشار إلى القلب.
فالمتصدق بار بالفقير؛ ولكن التقوى تتحقق بالإخلاص، وبه -الإخلاص- يثبُت الأجر.
وعوداً على موضوع الإثم والعدوان، اليوم تأثُّر الناس بمفهوم (أنت حر ما لم تضر) جعل صدورهم ضيقة بكل تحريم لا يعقلون به معنى الضرر المباشر، فترى عدداً منهم يتذمر من تحريم المعازف أو التشبه بالكفار، بينما يكون صدره أقبل لتحريم الربا؛ والسرقة؛ والقذف وغيرها.
ومنهم من زاد تأثُّره بالمفاهيم الغربية، فصار لا يضيق صدره بالتبرج وإنما بالتحرش، ولا بالزنا وإنما بالاغتصاب.
وقد يُظهر إنكار ذلك كله، لا سيما إن كان متشرعاً، ولكن يظهَر منه من الإنكار العلمي والعملي في هذه الأمور التي يعقل ضررها حتى الكافر ما لا يظهَر منه في إنكار الذنوب الأخرى، وإن كان قد ظهر في الشرع تعظيم أمرها، كأمر الشرك بنوعيه والبدع.
فلا تسأل عن مقام البدع العقدية في نفس مَن تشبع بهذا الكلام.
حتى إن بعضهم أعظم ذنوب المخالفين عنده هي أن المرء منهم كفَّر فلاناً من علمائنا أو بالغ في الحديث عن تضليله، لا نفس البدعة والضلالة، وإن كانت هذه البدعة عظيمة غاية في مخالفة النصوص.
وبعضهم خارجي في باب (العدوان)، فتراه يُحبط أعمال المعتدين على حقوق الغير، ويسقط لهم كل حسنة، ويبالغ في البراءة منهم.
مرجئ في باب (الإثم)، يربِّت على كتف كل مذنب، ولو كان ذنبه عظيماً في الشرع، فتراه يذكِّره بالرحمة، وإن رأى شخصاً قسى عليه قال: “لا أدري لعله عند الله أحسن منك”، بل ربما يتعمد مشاهدة حسنات هذه الفئة وتعظيمها ليُظهر اعتداله.
وهذا مثل الجبري إن أذنب، فيقول: هذا بقدر الله.
والقدري إذا اعتدي على حق من حقوقه، فيأبى أن يستدِل المذنب بالقدر، ويرى أن عقوبته أيضاً من العدل، ويتمثل بقول القائل: “سرقتَ بقدر الله، ونحن نقطعها بقدر الله”.
والجمع بين هذه الأمور المتناقضة تطفيف ابتلي به كثير من الخلق.