بعض مشاهير مواقع التواصل ادعى أن الإنكار في المعازف من تشديدات المتأخرين

في

,

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

بعض مشاهير مواقع التواصل ادعى أن الإنكار في المعازف من تشديدات المتأخرين

ثم لما ذكر له كلام السلف في هذا الإنكار مما ذكرته هنا في القناة وذهب ينقل عن ابن تيمية كلاما هو حجة عليه أصلا وفيه التوكيد على الإنكار على من يرى السماع البدعي

قال ابن تيمية في الاستقامة : ولكن من ذهب إلى القول المرجوح ينتفع به في عذر المتأولين فإن عامة ما حرمه الله مثل قتل النفس بغير حق ومثل الزنا والخمر والميسر والأموال والاعراض قد استحل بعض أنواعه طوائف من الامة بالتأويل وفي المستحلين قوم من صالحي الأمة وأهل العلم والإيمان منهم
لكن المستحل لذلك لا يعتقد أنه من المحرمات ولا أنه داخل فيما ذمه الله ورسوله فالمقاتل في الفتنة متأولا لا يعتقد أنه قتل مؤمنا بغير حق والمبيح للمتعة والحشوش ونكاح المحلل لا يعتقد أنه أباح زنا وسفاحا والمبيح للنبيذ المتأول فيه ولبعض أنواع المعاملات الربوية وعقود المخاطرات لا يعتقد أنه أباح الخمر والميسر والربا
ولكن وقوع مثل هذا التأويل من الأئمة المتبوعين أهل العلم والإيمان صار من أسباب المحن والفتنة فإن الذين يعظمونهم قد يقتدون بهم في ذلك وقد لا يقفون عند الحد الذي انتهى إليه أولئك بل يتعدون ذلك ويزيدون زيادات لم تصدر من أولئك الأئمة السادة والذين يعلمون تحريم جنس ذلك الفعل قد يعتدون على المتأولين بنوع من الذم فيما هو مغفور لهم ويتبعهم آخرون فيزيدون في الذم ما يستحلون به من أعراض إخوانهم وغير أعراضهم ما حرمه الله ورسوله فهذا واقع كثير في موارد النزاع الذي وقع فيه خطأ من بعض الكبار
واعتبر ذلك بمسألة السماع التي تكلمنا فيها فإن الله سبحانه شرع للأمة ما أغناهم به عما لم يشرعه حيث أكمل الدين وأتم عليهم النعمة ورضى لهم الإسلام دينا وهو سماع القرآن الذي شرعه لهم في الصلاة التي هي عماد دينهم وفي غير الصلاة مجتمعين ومنفردين حتى كان أصحاب محمد إذا اجتمعوا أمروا واحدا منهم ان يقرأ والباقون يسمعون وكان عمر بن الخطاب يقول لأبي موسى يا أبا موسى ذكرنا ربنا فيقرأ وهم يستمعون وقد بسطنا القول في ذلك في غير هذا الموضع وإنما ذكرنا هنا نكتا تتعلق بالسماع.

هذا ما نقله الباحث قاصا له عن سباقه

وقبل النقل المذكور ابن تيمية يقول : فأما الاحتجاج بفعل طائفة من الصديقين في مسألة نازعهم فيها أعدائهم فباطل بل لو كان المنازع لهم أقل منهم عددا وأدنى منزلة لم تكن الحجة مع أحدهما إلا بكتاب الله وسنة رسوله فإنه بذلك أمرت الامة
كما قال تعالى يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر [سورة النساء 59] فإذا تنازعت الأمة وولاه الأمور من الصديقين وغيرهم فعليهم جميعهم أن يردوا ما تنازعوا فيه إلى الله ورسوله
ومن المعلوم أن الصديقين الذين أباحوا بعض المسكر كانوا أسبق من هؤلاء وأكثر وأكبر وكذلك الذين استحلوا المتعة والصرف وبعض المطاعم الخبيثة والحشوش والذين استحلوا القتال في الفتنة متأولين معتقدين أنهم على الحق وغير ذلك هم أسبق من هؤلاء وأكثر وأكبر
فإذا نهى عما نهى الله عنه ورسوله لم يكن لأحد أن يقول هذا إنكار على كذا وكذا رجلا من السابقين والتابعين فإن هذا الإنكار كان من نظرائهم ومن هو فوقهم أو قريبا منهم وعند التنازع فالمرد إلى الله ورسوله.

أقول : فكلام الشيخ في توكيد الإنكار على من ذهب لهذا وإن كان له سلف متأول فإن هذا التأويل لا يشمله بعد البيان

وتلخيص كلام الشيخ أنه أطنب في إنكار السماع الصوفي البدعي ونقد استدلالات القشيري له ونقل كلام السلف في ذلك

وعلى عادته في التوسع والتعامل مع الإيرادات وقف مع الاحتجاج ببعض مشايخ الطريق المعظمين ممن نسبوا لهم هذا الفعل فيدافع المرء عنه ويهون من شأنه بل وينتحله لأن هؤلاء عظماء في نفسه

فعالج ابن تيمية هذه النزعة بأقصر طريق فبدلا من الكلام الطويل في ثبوت هذه الأمور عنهم أو عدمه أو الكلام عن كونهم صديقين وصالحين أم لا

اختار طريقا جامعا مختصرا وهو أن يقال لهم أننا كلنا متفقون على أن هناك من الفضلاء من قالوا بمقالات لا يجوز لأحد الأخذ بها بعد انتشار الحجة في أزمنتنا مثل جواز المتعة المنسوب لبعض السلف ومثل القول بجواز ربا الفضل ( الصرف ) المروي عن ابن عباس وتلاميذه ( وروي عنه الرجوع ) والنَّاس مع تعظيمهم لابن عباس ينكرون هذا القول أشد الإنكار مع اعتذارهم لابن عباس ولكن لا يجوزون لأحد اتباعه بعد ظهور الأدلة لهذا انقرض هذا القول

وكذلك ما حصل بين الصحابة من قتال فاليوم ننكر على كل من ينكر خلافة علي فضلا عمن يرى قتاله بعد ظهور الأدلة وانعقاد إجماع أهل الحديث

فابن تيمية جعل مسألة السماع من جنس هذه المسائل مسألة استبانت الأدلة على حرمتها وصار لا يقول بها إلا متتبع للرخص يستمسك بزلة عالم خالفه من هو أجل منه والحجة مع المخالف.

=
فهل تنكر على من ينكر خلافة علي أو يرى الصرف أو يرى جواز المتعة ؟

وإن صنف معاصر تصنيفا في هذا هل سيتسامح معه فما بالك وعامة من يكتب في إباحة المعازف في عصرنا ممن عرف بتتبع الرخص أو الضعف أمام سلطة الثقافة الغالبة مع سقطات أصولية وحديثية عظيمة تدل على أن النتيجة المرادة وضعت قبل البحث وتم تطويع الأدلة والقواعد لخدمة هذه النتيجة

وهذه الطريقة التي استخدمها ابن تيمية سبقه إليها ابن المبارك

قال ابن المبارك في مناظرته لأهل الكوفة في النبيذ : دعوا عند المناظرة تسميه الرجال، فرب رجل في الإسلام مناقبه كذا وكذا، وعسى أن تكون منه زلة، أفيجوز لأحد أن يحتج بها؟ فإن أبيتم فما قولكم في عطاء وطاوس وجابر بن زيد وسعيد بن جبير وعكرمة؟ قالوا: كانوا خيارا، قلت: فما قولكم في الدرهم بالدرهمين يدا بيد؟ قالوا: حرام، فقلت: إن هؤلاء رأوه حلالا، أفماتوا وهم ياكلون الحرام؟ فبهتوا وانقطعت حجتهم .

واستخدم ابن تيمية هذه الحجة وتلميذه ابن القيم وذكروا هذه المناظرة فسياق كلام الشيخ في الإنكار على المخالف وعدم الاعتداد بزلة العالم والخلاف الضعيف فيؤخذ كلامه ويوضع لعكس مقصوده هذا اختلال عظيم في الأمانة العلمية ورقة دين ظاهرة

وعلى ذكر النبيذ هو أفضل مثال لنقض قاعدة الاعتداد بالخلاف مهما كان ضعيفا فقد كان مذهب أحمد والشافعي الجلد بالنبيذ المختلف فيه لضعف الخلاف وقيام البراهين وانتشارها على حرمته مع أثره السوء على الناس فهو يسكر كثيره دون قليله فكان بوابة عودة الخمر للأمة وسلما يتخذه الفساق

قال ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى :

وحينئذ فلا يجوز تقليد من يفتي بها ويجب نقض حكمه، ولا يجوز الدلالة لأحد من المقلدين على من يفتي بها مع جواز ذلك في مسائل الاجتهاد، وقد نص أحمد على هذه المسائل في مثل هذا.
وإن كنا نعذر من اجتهد من المتقدمين في بعضها، وهذا كما أن أعيان المكيين والكوفيين لا يجوز تقليدهم في مسألة المتعة والصرف والنبيذ ونحوها بل عند فقهاء الحديث أن من شرب النبيذ المختلف فيه حد، وإن كان متأولا واختلفوا في رد شهادته فردها مالك دون الشافعي وعن الإمام أحمد روايتان، مع أن الذين قالوا بالمتعة والصرف معهم فيهما سنة صحيحة، لكن سنة المتعة منسوخة، وحديث الصرف يفسره سائر الأحاديث، فكيف بالحيل التي ليس لها أصل من سنة ولا أثر أصلا بل السنن والآثار تخالفها.

وهذا عمل بقوله تعالى : ( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول )

وكثير من المتأخرين عكس الأمر فجعل البينات الشرعية محكومة بالخلاف فإذا وجد خلافا لم ينظر في هذه البينات ودرجتها

وقد يقع من العالم الفاضل القول على جهة عدم العلم بالدليل المخالف لقوله فيكون مجتهدا مأجورا فيأتي متأخر يأخذ بقوله مع علمه بالأدلة المخالفة تعصبا أو تتبعا للرخص أو مناكفة للخصوم فيكون مأزورا لا مأجورا وأكثر خطأ المتقدمين على التأويل وأكثر خطأ المتأخرين على قلة الإنصاف وهذا سر من أسرار الأفضلية في القرون مع كوّن كثير من المتأخرين تحصلت عنده من مجاميع الحديث ما كان يتمناه الكثير من الأوائل

ووجود بعض الناس ممن يرفع بعض المسائل الاجتهادية التي فعلا لا إنكار فيها إلى مستوى المسائل التي يسوق فيها الإنكار لا يبيح لنا أن نجعل مسائل الدين كلها اجتهادية فنأتي لمسألة أقل ما يقال فيها أنها بها شبهة إجماع ونجعلها مثل مسألة أيهما أفضل الهوي للسجود على اليدين أو على الركبتين فإننا إن فعلنا ذلك كنّا مثل وال رأى شخصا حبس ظلما فأخرج كل من المحابيس من سجنهم حتى من تحققت إدانته

وكان الأئمة قديما يعظمون الشرع على الأشخاص وأما الْيَوْم فالشرع يحرف والنَّاس يتقحمون البلايا وقوم لا هم لهم إلا الحديث عن أدب الخلاف وتلمس العذر لكل مخالف.