فيستدل بعض المؤيدين لجماعة التبليغ أو الداعين إلى السكوت عنهم بكلام
لشيخ الإسلام ابن تيمية لم يفهموا وجهه -ومن هؤلاء الداعية محمد العريفي-
وهو قول الشيخ رحمه الله كما في
مجموع الفتاوى (13/96) :
” وقد ذهب كثير من مبتدعة المسلمين من الرافضة والجهمية وغيرهم الى
بلاد الكفار فأسلم على يديه خلق كثير وانتفعوا بذلك وصاروا مسلمين مبتدعين وهو خير
من أن يكونوا كفارا”.
فقالوا : ينبغي السكوت عن جماعة التبليغ لأنه لئن يصير الناس مبتدعة خيرٌ
من أن يكونوا كفاراً !
والجواب على هذا الاستدلال من وجوه:
الوجه الأول : أن شيخ الإسلام يحكي حال وكلامه في سياق مفاضلة ولا يعني
كلامه الإقرار وإليك كلامه كاملاً
قال الشيخ -رحمه الله-:
“وقد ذهب كثير من مبتدعة المسلمين من الرافضة والجهمية وغيرهم الى بلاد الكفار
فأسلم على يديه خلق كثير وانتفعوا بذلك وصاروا مسلمين مبتدعين
وهو خير من أن يكونوا كفارا وكذلك بعض الملوك قد يغزو غزوا يظلم فيه المسلمين
والكفار ويكون آثما بذلك ومع هذا فيحصل به نفع خلق كثير كانوا كفارا فصاروا مسلمين
وذاك كان شرا بالنسبة الى القائم بالواجب واما بالنسبة الى الكفار فهو خير
وكذلك كثير من الأحاديث الضعيفة فى الترغيب والترهيب والفضائل والاحكام
والقصص قد يسمعها أقوام فينتقلون بها الى خير مما كانوا عليه وان كانت كذبا وهذا كالرجل
يسلم رغبة فى الدنيا ورهبة من السيف ثم اذا أسلم وطال مكثه بين المسلمين دخل الايمان
فى قلبه
فنفس ذل الكفر الذى كان عليه وانقهاره
ودخوله فى حكم المسلمين خير من أن يبقى كافرا فانتقل الى خير مما كان عليه وخف الشر
الذى كان فيه ثم اذا أراد الله هدايته أدخل الايمان فى قلبه، والله تعالى بعث الرسل
بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها”.
فهل يقال أن شيخ الإسلام يقر القصاص على الأحاديث الموضوعة والمكذوبة لأنها
تتوب الناس؟!
إنما أراد الشيخ حكاية حال فقط
لا الدعوة إلى السكوت ولا الإقرار على ذلك
وإلا فإن قاعدة ارتكارب أدنى الضررين
إنما تستخدم في حال عدم وجود الحق الذي لا ضرر فيه
فعلى سبيل المثال رجل غص في لقمة
وكادت تقتله فيجوز له والحال هذه أن يشرب خمراً وإن لم يجد غيره لتسوغ اللقمة، ولكن
إن وجد بجانب الخمر ماءً لم يجز له البتة شرب الخمر.
وكذلك إذا كان لأهل السنة دعاة لم يجز البتة إقرار أهل البدع على دعوتهم
وأهل السنة باقين على الحق ظاهرين
كما أخبر بذلك النبي الأمين
ولا أدري لماذا لا يطردون قاعدة
ارتكاب أدنى الضررين فيكون الدعوة إلى جماعة لا تصوف فيها خير من الدعوة إلى جماعة
صوفية
، فيستحبون للجامية- مثلا – دعوة
الأحباب إلى مذهبهم في ارتكاب أدنى الضررين
لأن الجامية يدرسون التوحيد والعقيدة
وعندهم حث على طلب العلم والتبليغيون ضعفاء في هذا الباب بل عندهم خلل عظيم.
قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (10/ 364) :” فلا ينبغي ان
يعيب الرجل وينهى عن نور فيه ظلمة الا اذا حصل نور لا ظلمة فيه”.
وأهل السنة يرون أن مذهبهم نور لا ظلمة فيه لذا لا يثرب عليهم دعوة الناس
إلى ترك دعوة التبليغ والالتحاق بدعوتهم.
الوجه الثاني : أن كلام الشيخ في باب دعوة أهل البدع للكفار ، وليس دعوة
أهل البدع لعصاة الموحدين والتبليغيون يدعون عصاة الموحدين فلو أقررنا بكلامكم هذا
لجعلناه خاصاً في دعوتهم للكفار ، لأن البدع شر من المعاصي.
قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (20/ 103):
“أن أهل البدع شر من أهل المعاصى الشهوانية بالسنة والاجماع
فان النبى صلى الله عليه و سلم أمر بقتال الخوارج ونهى عن قتال أئمة الظلم
وقال فى الذي يشرب الخمر لا تلعنه
فانه يحب الله ورسوله
وقال فى ذى الخويصرة يخرج من ضئضىء
هذا أقوام يقرأون القرأن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين وفي رواية من الاسلام كما
يمرق السهم من الرمية يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم
اينما لقيتموهم فاقتلوهم فان فى قتلهم أجرا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة
وقد قررت هذه القاعدة بالدلائل
الكثيرة مما تقدم من القواعد”.
الوجه الثالث : سئل شيخ الإسلام عن رجل توب جماعة من قطاع الطرق الزناة
القتلة بطريقة التغبير البدعية
فقال الشيخ كما في مجموع الفتاوى
(11/624):
“إذا تبين هذا فنقول للسائل
إن الشيخ المذكور قصد أن يتوب المجتمعين على الكبائر فلم يمكنه ذلك إلا بما ذكره من
الطريق البدعى
يدل أن الشيخ جاهل بالطرق الشرعية
التى بها تتوب العصاة أو عاجز عنها
فان الرسول صلى الله عليه و سلم
والصحابة والتابعين كانوا يدعون من هو شر من هؤلاء من أهل الكفر والفسوق والعصيان بالطرق
الشرعية التى أغناهم الله بها عن الطرق البدعية
فلا يجوز أن يقال إنه ليس فى الطرق
الشرعية التى بعث الله بها نبيه ما يتوب به العصاة فانه قد علم بالاضطرار والنقل المتواتر
انه قد تاب من الكفر والفسوق والعصيان من لا يحصيه إلا الله تعالى من الأمم بالطرق
الشرعية التى ليس فيها ما ذكر من الاجتماع البدعى
بل السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم باحسان وهم
خير أولياء الله المتقين من هذه الأمة تابوا إلى الله تعالى بالطرق الشرعية لا بهذه
الطرق البدعية
وأمصار المسلمين وقراهم قديما وحديثا مملوءة ممن تاب إلى الله واتقاه وفعل
ما يحبه الله ويرضاه بالطرق الشرعية لا بهذه الطرق البدعية
فلا يمكن أن يقال إن العصاة لا
تمكن توبتهم إلا بهذه الطرق البدعية
بل قد يقال إن فى الشيوخ من يكون
جاهلا بالطرق الشرعية عاجزا عنها ليس عنده علم بالكتاب والسنة وما يخاطب به الناس ويسمعهم
إياه مما يتوب الله عليهم فيعدل هذا الشيخ عن الطرق الشرعية إلى الطرق البدعية إما
مع حسن القصد إن كان له دين
واما أن يكون غرضه الترأس عليهم وأخذ أموالهم بالباطل كما قال تعالى يا
أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون
عن سبيل الله فلا يعدل أحد عن الطرق الشرعية إلى البدعية إلا لجهل أو عجز أو غرض فاسد”.
وهذا الكلام ينطبق على جهلة جماعة التبليغ انطباقاً عظيماً.
الوجه الرابع : من أعظم تطبيقات قاعدة ارتكاب الضررين الصبر على جور الأئمة
لئلا يقع ما هو أعظم من ذلك فأين هؤلاء من هذه القاعدة
قال الخلال في السنة 89 – أَخْبَرَنِي
مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي هَارُونَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، أَنَّ أَبَا الْحَارِثِ
حَدَّثَهُمْ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ فِي أَمْرٍ كَانَ حَدَثَ بِبَغْدَادَ،
وَهَمَّ قَوْمٌ بِالْخُرُوجِ، فَقُلْتُ: ” يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، مَا تَقُولُ
فِي الْخُرُوجِ مَعَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَجَعَلَ
يَقُولُ: سُبْحَانَ اللَّهِ، الدِّمَاءَ، الدِّمَاءَ، لَا أَرَى ذَلِكَ، وَلَا آمُرُ
بِهِ، الصَّبْرُ عَلَى مَا نَحْنُ فِيهِ خَيْرٌ مِنَ الْفِتْنَةِ يُسْفَكُ فِيهَا الدِّمَاءُ،
وَيُسْتَبَاحُ فِيهَا الْأَمْوَالُ، وَيُنْتَهَكُ فِيهَا الْمَحَارِمُ، أَمَا عَلِمْتَ
مَا كَانَ النَّاسُ فِيهِ، يَعْنِي أَيَّامَ الْفِتْنَةِ
قُلْتُ: وَالنَّاسُ الْيَوْمَ،
أَلَيْسَ هُمْ فِي فِتْنَةٍ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ؟ قَالَ: وَإِنْ كَانَ، فَإِنَّمَا
هِيَ فِتْنَةٌ خَاصَّةٌ، فَإِذَا وَقَعَ السَّيْفُ عَمَّتِ الْفِتْنَةُ، وَانْقَطَعَتِ
السُّبُلُ، الصَّبْرَ عَلَى هَذَا، وَيَسْلَمُ لَكَ دِينُكَ خَيْرٌ لَكَ، وَرَأَيْتُهُ
يُنْكِرُ الْخُرُوجَ عَلَى الْأَئِمَّةِ، وَقَالَ: الدِّمَاءَ، لَا أَرَى ذَلِكَ، وَلَا
آمُرُ بِهِ”.
وتأمل قوله: (الصَّبْرُ عَلَى مَا نَحْنُ فِيهِ خَيْرٌ مِنَ الْفِتْنَةِ
يُسْفَكُ فِيهَا الدِّمَاءُ، وَيُسْتَبَاحُ فِيهَا الْأَمْوَالُ، وَيُنْتَهَكُ فِيهَا
الْمَحَارِمُ)، وما فيه من الفقه العظيم.
وقال ابن القيم في إعلام الموقعين (3/152): “وَسَمِعْت شَيْخَ الْإِسْلَامِ
ابْنَ تَيْمِيَّةَ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ وَنَوَّرَ ضَرِيحَهُ يَقُولُ : مَرَرْت
أَنَا وَبَعْضُ أَصْحَابِي فِي زَمَنِ التَّتَارِ بِقَوْمٍ مِنْهُمْ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ
، فَأَنْكَرَ عَلَيْهِمْ مَنْ كَانَ مَعِي ، فَأَنْكَرْت عَلَيْهِ ، وَقُلْت لَهُ
: إنَّمَا حَرَّمَ اللَّهُ الْخَمْرَ لِأَنَّهَا تَصُدُّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ
الصَّلَاةِ ، وَهَؤُلَاءِ يَصُدُّهُمْ الْخَمْرُ عَنْ قَتْلِ النُّفُوسِ وَسَبْيِ الذُّرِّيَّةِ
وَأَخْذِ الْأَمْوَالِ فَدَعْهُمْ”.
وهذا من فقه ارتكاب أدنى الضررين ، وكثير من هؤلاء إنما يكون عنده هذا
الفقه في تسويغ السكوت عن أهل البدع، بل إن من ارتكاب أدنى الضررين أمر الجاهل بأن
يترك الدعوة ، فإن الدعوة تحتاج إلى علم وصبر وحلم والذي لا يتحلى بهذه يفسد أكثر مما
يصلح وربما كان سكوته عن الأمر والنهي خيرٌ من دخوله فيه على وجه غير شرعي.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الاستقامة (2/233) :” فلا بد من هذه
الثلاثة
العلم والرفق والصبر العلم قبل الأمر والنهي والرفق معه والصبر بعده وان
كان كل من الثلاثة لا بد ان يكون مستصحبا في هذه الاحوال
وهذا كما جاء في الاثر عن بعض
السلف ورووه مرفوعا ذكره القاضي ابو يعلى في المعتمد لا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر
الا من كان فقيها فيما يأمر به فقيها فما ينهي عنه رفيقا فيما يأمر به رفيقا فيما ينهى
عنه حليما فيما يأمر به حليما فيما ينهى عنه.
وليعلم ان اشتراط هذه الخصال في الامر بالمعروف والنهي عن المنكر مما يوجب
صعوبته على كثير من النفوس فيظن انه بذلك يسقط عنه فيدعه
وذلك قد يضره اكثر مما يضره الامر بدون هذه الخصال او اقل
فإن ترك الامر الواجب معصية وفعل ما نهى عنه في الامر معصية فالمنتقل من
معصية الى معصية اكبر منها كالمستجير من الرمضاء بالنار
والمنتقل من معصية الى معصية كالمتنقل من دين باطل الى دين باطل قد يكون
الثاني شرا من الاول
وقد يكون دونه وقد يكونان سواء فهكذا تجد المقصر في الامر والنهي والمعتدي
فيه قد يكون ذنب هذا اعظم
وقد يكون ذنب ذاك اعظم وقد يكونان
سواء”.
هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم