برهان التحامل على معاوية بن أبي سفيان (حين لا يعمل نقدك في روايات ثلبه).

في

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

برهان التحامل على معاوية بن أبي سفيان (حين لا يعمل نقدك في روايات ثلبه).

فشا في الأزمنة المتأخرة التشيع بين جماعة من الأشعرية المتصوفة بدرجات متفاوتة، فظهر فيهم من يجتهد باستجلاب شبهات الشيعة والزيدية على معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنهما-، هذا مع زعمهم أنهم على المذاهب الأربعة ومذهب الأشعري والماتردي، وما كان المتقدمون من أهل هذه المذاهب على هذا النهج.

من أشهر من حمل هذا اللواء في زماننا عبد الله بن الصديق الغماري -شيخ علي جمعة- وتابعه عليه حسن بن علي السقاف، وتأثر بهم جماعة كأمثال مهنا المهنا الكويتي، لهذا يكثر في كلامه وصف السلفيين بـ (النواصب المجسمة) أو (الخوارج المجسمة).

الغماري والسقاف ابتدعا الطعن في حديث الجارية «أين الله» لتجهم فيهما، وتبعهما على ذلك جمع غفير من الأشاعرة لا تحقيقاً وإنما لموافقة ذلك هواهم، وهذا ضرب في الحديد البارد، لأن أخبار الصفات الدالة على العلو لا تدخل في الحصر وهي تملأ القرآن.

وقد نقدت بحث السقاف في ذلك الذي أسماه (تنقيح الفهوم العالية) الذي أخذ أصله من أستاذه الغماري في كتابه (الفوائد المقصودة)، نقدته في كتاب بعنوان (الدفاع عن حديث الجارية) نشر قبل ما يقارب ١٨ عاماً.

وشاهدُ ذكر هذا البحث عند الحديث عن معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنهما- أن منهجهم في الطعن في حديث الجارية يقتضي الطعن في بعض ما يذكرونه في شأن معاوية، وإليك بيان ذلك:

قال مسلم في صحيحه: “6299- [32-…] حدثنا قتيبة بن سعيد، ومحمد بن عباد، وتقاربا في اللفظ، قالا: حدثنا حاتم، وهو ابن إسماعيل، عن بكير بن مسمار، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه، قال: أمر معاوية بن أبي سفيان سعدا فقال: ما منعك أن تسب أبا التراب؟ فقال: أما ما ذكرت ثلاثا قالهن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فلن أسبه، لأن تكون لي واحدة منهن أحب إلي من حمر النعم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له، خلفه في بعض مغازيه، فقال له علي: يا رسول الله، خلفتني مع النساء والصبيان؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟ إلا أنه لا نبوة بعدي.
وسمعته يقول يوم خيبر لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله قال فتطاولنا لها فقال: ادعوا لي عليا فأتي به أرمد، فبصق في عينه ودفع الراية إليه، ففتح الله عليه.
ولما نزلت هذه الآية: {فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم} دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا وفاطمة وحسنا وحسينا فقال: اللهم هؤلاء أهلي”.

هذا الحديث يشرقون به ويغربون ويقولون (معاوية يأمر بسب علي) وقد وقع بينهما ما هو أشد وهو القتال، ومع ذلك اعتزل معظم الصحابة الأمر، وقال علي -رضي الله عنه-: “قتلانا وقتلاهم في الجنة”، يريد قتلى صفين.

وخبر معاوية نظير ما روى إسحاق في مسنده أنه: “قيل لسعد: إن كان والله يبغضك -يعني علياً- ويسميك الأخينس، فضحك سعد رضي الله عنه حتى استعلاه الضحك، ثم قال: أوليس الرجل قد يجد على أخيه في الأمر، يكون بينه وبينه”.

فالأمر من هذا الباب وهو اشتهار أن علياً كان يجد على سعد ومع ذلك سعد ما كان يرد عليه، فإذا ذكر هذا لسعد كان بمنزلة تهييجه على علي، وفي الخبر أن سعداً أخبر معاوية بفضل علي وما اعترض عليه بشيء.

غير أننا إذا طبقنا قواعد القوم مع حديث الجارية فإننا سنضعف هذا الخبر لا محالة.

القوم طعنوا في حديث الجارية لأجل راو اسمه هلال بن أبي ميمونة، ما ضعفه أحد وإنما قال فيه أبو حاتم: “شيخ”، واحتج به البخاري ومسلم، وروى عنه مالك ويحيى بن أبي كثير، ولا يرويان إلا عن ثقة، واحتج بحديثه أحمد والشافعي، ووثقه الدارقطني، وحديث الجارية في مسلم ومع ذلك طعنوا فيه، وما خالفه من هو أقوى منه.

وفي حديث معاوية وسعد المذكور أعلاه فيه راويان حالهما أسوأ من حال هلال، مع كونهما انفردا بزيادات من دون من هو أوثق منهما، من هذه الزيادات زيادة قول معاوية: (ما منعك أن تسب أبا تراب؟).

فقد روى هذا الحديث عن سعد بن أبي وقاص ثلاثة وهم: ابنه مصعب؛ وابنه عامر؛ وابنه إبراهيم، وليس في حديث مصعب وإبراهيم ذكر قصة معاوية، ولا عامة الفضائل المذكورة إلا خبر: «أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟».

ورواية مصعب التي فيها الزيادات في سندها رجلان ثقتان، ولكن لهما أوهام وحال هلال -راوي حديث الجارية- أحسن من حالهما.

وهما حاتم بن إسماعيل، قال أبو بكر الأثرم عن أحمد بن حنبل: “حاتم بن إسماعيل أحب إلى من الدراوردي، زعموا أن حاتما كان فيه غفلة، إلا أن كتابه صالح”. (وقول أحمد “زعموا” إنما ينقله عن علماء، ودليل ذلك أن علي ابن المديني نص على أوهام لحاتم في روايته عن جعفر)، والثاني بكير بن السمسار ذكره العقيلي في الضعفاء، وذكر إشارة البخاري إلى أن في بعض حديثه نظراً.

وقد قال مسلم في التمييز: “لا يلزم إلا عن الحفاظ الذين لم يعثر عليهم الوهم في حفظهم”، وقد يقال أن مسلماً ذكر رواية مصعب من باب العضد لرواية إخوانه في المشترك بينهما، فتكون تلك الزيادة من الزيادات التي لا تلزمه وهذا باب معروف عند أهل العلم (والكلام هنا تنزلي).

فإما قبول حديث الجارية مع الخبر المذكور عن معاوية، والذي لا يؤخذ وحده وإنما يؤخذ مع بقية الأخبار في شأن الصحابة، وإما أن يردَّ الاثنان، ولو قبل شخص حديث الجارية وردَّ الخبر المذكور عن معاوية لما كان متناقضاً، لأن حال هلال أحسن من حال بكير وحاتم، وما زاد على أحد كما زادا على من هو أوثق منهما.