بحث في نجاسة الخمر

في

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

فاعلم -رحمك الله- أن جماعة من الفقهاء ادعوا الإجماع على نجاسة الخمر،
فقد جاء في المجموع:

 “الخمر نجسة عندنا… ونقل
الشيخ أبو حامد الإجماع على نجاستها…”، وأبو حامد هذا الاسفراييني.

وقال ابن قدامة في المغني (10/336): “فصل : والخمر نجسة في قول عامة
أهل العلم لأن الله تعالى حرمها لعينها فكانت نجسة كالخنزير وكل مسكر فهو حرام نجس
لما ذكرنا”.

وعامة قد يعني به أكثر، وقال علي ملا قاري في شرح مسند أبي حنيفة
(1/62) :” أجمع العلماء على نجاسة الخمر إلا ما حكي عن داود فإنه قال بطهارتها”.

وقال عياض في إكمال المعلم (5/ 133) :” وكافة السلف والخلف
على نجاسة الخمر والدليل على نجاستها مع إجماع الكافة عليها قديما وحديثأ إلا من شذ”.

والقول بنجاستها هو اختيار شيخ الإسلام بل ألحق بها الحشيشة واختيار تلميذه
ابن القيم

 وقد نقل عن ربيعة الرأي أنه يرى
طهارتها، قال ابن العربي في أحكام القرآن (2/ 287) :” الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ
: فِي قَوْله تَعَالَى : { رِجْسٌ } : وَهُوَ النَّجَسُ ، وَقَدْ رُوِيَ فِي صَحِيحِ
حَدِيثِ الِاسْتِنْجَاءِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ
بِحَجَرَيْنِ وَرَوْثَةٍ ، فَأَخَذَ الْحَجَرَيْنِ وَأَلْقَى الرَّوْثَةَ ، وَقَالَ
: إنَّهَا رِكْسٌ } أَيْ نَجَسٌ.

وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ النَّاسِ إلَّا مَا يُؤْثَرُ عَنْ رَبِيعَةَ
أَنَّهُ قَالَ : إنَّهَا مُحَرَّمَةٌ ، وَهِيَ طَاهِرَةٌ ، كَالْحَرِيرِ عِنْدَ مَالِكٍ
مُحَرَّمٌ ، مَعَ أَنَّهُ طَاهِرٌ”.

وهنا يقف طالب العلم وقفة ، وهو أن قولاً اختاره كل هؤلاء الفقهاء وادعي
عليه الإجماع لا بد أن تكون له أدلة قوية أقنعت هؤلاء الفقهاء ، وعليه أن ينقب
عنها وينظر فيها

وقد نقل بعض الناس عن ابن تيمية القول بالطهارة وهذا غلط فابن تيمية يرى طهارتها قبل التحريم فحسب وتأمل بأنه لا خلاف إلا ما يؤثر عن ربيعة
 

 فمن أشهر الاستدلالات الاستدلال
بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ
وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).

وهذا الاستدلال يجيب عليه القائلون بطهارتها لأن الخمر هنا عطف على الأنصاب
والأزلام وهي طاهرة وإنما نجاستها معنوية، غير أن هناك أدلة أخرى على نجاستها، ومنها
قوله تعالى: (وسقاهم ربهم شراباً طهوراً).

قال محمد الأمين الشنقيطي (1 /452): “قال بعض العلماء : ويدل
لهذا مفهوم المخالفة في قوله تعالى في شراب أهل الجنَّة {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً
طَهُوراً} لأن وصفه لشراب أهل الجنة بأنه طهور يفهم منه ، أن خمر الدنيا ليستْ كذلك
، ومما يؤيِّد هذا أن كل الأوصاف التي مدح بها تعالى خمر الآخرة منفية عن خمر الدنيا
، كقوله: { لاَ فِيهَا غَوْلٌ وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ}، وكقوله : { لاَّ يُصَدَّعُونَ
عَنْهَا وَلاَ يُنزِفُونَ }، بخلاف خمر الدنيا ففيها غَوْل يغتال العقُول وأهلها يصدَّعون
. أي يصيبهم الصداع الذي هو وجع الرأس بسببها ، وقوله { وَلاَ يُنزِفُونَ } على قراءة
فتح الزاي مبنياً للمفعول ، فمعناه : أنهم لا يسكرون ، والنزيف السكران ، ومنه قول
حميد بن ثور :

نزيف ترى ردع العبير بجيبها … كما ضرج الضاري النزيفُ المكلما”.

وقد عارض بعضهم هذا الاستدلال بأن الله يقول ( وأنزلنا من السماء ماء طهوراً ) فيلزم أن يكون ماء الأرض نجساً 

وهذه معارضة هشة وضعيفة وبعيدة عن الفقه فإن هذا المفهوم عارضه منطوق دال على طهارة ماء الأرض 

ومن أدلة النجاسة ما روى أبو داود في سننه 3839 – حدثنا نصر بن عاصم ثنا
محمد بن شعيب قال أخبرنا عبد الله بن العلاء بن زبر عن أبي عبيد الله مسلم بن مشكم
عن أبي ثعلبة الخشني :

 أنه سأل رسول الله صلى الله عليه
و سلم قال : إنا نجاور أهل الكتاب وهم يطبخون في قدورهم الخنزير ويشربون في آنيتهم
الخمر فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم: “إن وجدتم غيرها فكلوا فيها واشربوا
وإن لم تجدوا غيرها فارحضوها بالماء وكلوا واشربوا”.

ووجه الدلالة أن ذكروا للنبي صلى الله عليه وسلم شرب النصارى الخمر في
آنيتهم مما يدل على استقرار النجاسة في نفوسهم ، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم لهم
بغسلها يدل على هذا المعنى.

وقال الطبري في تاريخه (3/ 166) : (كتب إلي السري) عن شعيب عن سيف عن أبي
المجالد مثله قالوا وبلغ عمران خالدا الحمام فتدلك بعد النورة بثخين عصفر معجون بخمر
فكتب إليه بلغني أنك تدلكت بخمر وإن الله قد حرم ظاهر الخمر وباطنه كما حرم ظاهر الاثم
وباطنه وقد حرم مس الخمر إلا أن تغسل كما حرم شربها فلا تمسوها أجسادكم فإنها نجس وإن
فعلتم فلا تعودوا فكتب إليه خالد إنا قتلناها فعادت غسولا غير خمر فكتب إليه عمر اني
أظن آل المغيرة قد ابتلوا بالجفاء فلا أماتكم الله عليه فانتهى إليه ذلك.

وهذا من أدلة القائلين بالنجاسة غير أن في سنده سيف بن عمر التميمي كذاب

 وأما القائلون بالطهارة فغاية
ما عندهم الاحتجاج بأن الأصل بالأشياء الطهارة، وهذا يجاب عنه أن هناك أدلة أخرجت الأمر
عن أصله

 وأقوى أدلتهم استدلالهم بأن الصحابة
أراقوا الخمر في أزقة المدينة ولم يؤمروا بالاحتراز منها ولو كانت نجسة لأمروا إذ لا
يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة

 والجواب على هذا الاستدلال بأن
يقال : أن الخمر سائلة والأرض تشربها ، وإنما يباشرها الناس بنعالهم وقد أذن للمصلي
إذا رأى في نعله أذى أن يخلعها ، ثم إنها تتبخر في جو المدينة الحار

 واعتبر ذلك بالكلاب التي كانت
تبول في المسجد فيترك بولها للشمس تبخره مع الإجماع على نجاسة أبوالها وضرورة طهارة
المسجد فتأمل هذا

 والراجح بعد هذا البحث المختصر
القول بنجاسة الخمر كما هو قول الجمهور وادعى عليه بعض أهل العلم الإجماع والله أعلم.

تنبيه : استدل بعض الأخوة على طهارة الخمر بأن المسلمين في وقت حلها كانوا يصلون وعليهم أثرها ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة 

وهذا الاستدلال يبدو أنه من اجتهاده الشخصي إذ لم أجد من سبقه إليه 

والله عز وجل قال ( ولا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ) فكيف يقال أنهم يصلون وعليهم أثرها  إذا كانوا يجتنبون شربها ولو سلمنا بهذا الأمر فالأثر يسير وهو أثر وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في دم الحيض ( ولا يضرك أثره ) خصوصاً أن المضمضة أمر دارج في الوضوء 


والبحث ليس في حال الخمر عند الصحابة في حال حلها فإنهم كانوا يعدونها كالعصير وإنما البحث في حالها بعد أن سماها رب العالمين ( رجساً )


وليعلم أن ابن حزم على كثرة شذوذه قد قال بنجاسة الخمر أيضاً فأهل الرأي وأهل الحديث وأهل الظاهر على القول بالنجاسة

هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم