بحث في عدد الأحاديث الثابتة عن أبي هريرة رضي الله عنه

في

,

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

فقد كثر الكلام حول عدد مرويات أبي هريرة – رضي الله عنه – وما قاله البعض من أن أحاديثه ( 5374 ) ، أو ( 3848 ) حديثاً ، والواقع أن الأحاديث الثابتة عن أبي هريرة لا تبلغ ربع هذا ، وعموم هذه الإحصائيات تعتمد المكرر

فقد نظرت في أحاديث أبي هريرة في كتاب اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخين فوجدتها ( 374)

وقد نظرت في الجمع بين لصحيحين للحميدي ( وقد ذكر الأحاديث التي اتفقوا عليها وما انفرد به كل واحد منهما ) فوجدت العدد مقارباً

ومعلومٌ أن أصحاب الصحيحين ما استقصوا كل أحاديث الراوي غير أن من أهل العلم من يرى أنهم استقصوا السلاسل المشهورة ، والأصول التي على شرطهما

قال ابن الصلاح في صيانة صحيح مسلم ص95 :” وإذا كان الحديث الذي تركاه _ يعني البخاري ومسلماً _ أو أحدهما _ مع صحة إسناده _ أصلاً في معناه ، عمدة في بابه ، ولم يخرجا له نظيراً ، فذلك لا يكون إلا لعلة فيه ، خفيت واطلعا عليها ، أو التارك له منهما ، أو لغفلة عرضت . والله أعلم “

قال النووي في شرح صحيح مسلم (1/18) :” لكنهما اذا كان الحديث الذي تركاه أو تركه أحدهما مع صحة اسناده في الظاهر أصلا في بابه ولم يخرجا له نظيرا ولا ما يقوم مقامه فالظاهر من حالها أنهما اطلعا فيه على علة ان كانا روياه ويحتمل أنهما تركاه نسيانا أو ايثارا لترك الاطالة أو رأيا أن غيره مما ذكراه يسد مسده أولغير ذلك والله أعلم”

قال ابن عبد البر في التمهيد (10/ 278) :” ولم يخرج البخاري ولا مسلم بن الحجاج منها حديثا واحدا وحسبك بذلك ضعفا لها”

وقال الحاكم في معرفة علوم الحديث ص59 : ” إن الصحيح لا يعرف بروايته فقط ، وإنما يعرف بالفهم والحفظ وكثرة السماع ، وليس لهذا النوع من العلم عون أكثر من مذاكرة أهل الفهم والمعرفة ليظهر ما يخفى من علة الحديث . فإذا وجد مثل هذه الأحاديث بالأسانيد الصحيحة ( رواة الحديث ثقات ) غير مخرجة في كتابي الإمامين البخاري ومسلم لزم صاحب الحديث التنقير عن علته ومذاكرة أهل المعرفة به لتظهر علته “

ثم نظرت في الأحاديث الصحيحة خارج الصحيحين في كتاب  مقبل الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين فوجدت الأحاديث التي ذكرها الوادعي عن أبي هريرة فوجدتها ( 276) حديثاً فقط !

 والوادعي جمع كتابه هذا من المسند لأحمد والسنن الأربعة ومسند البزار ومستدرك الحاكم وغيرها من المصادر الأصلية ، وهذا يدلك أن معظم أحاديثه الثابتة في الصحيحين

فيصير مجموع الأحاديث لأبي هريرة في الصحيحين والصحيح المسند (650) حديثاً فقط ، ويستحيل أن يوجد خارج هذه الكتب أكثر منها ، فضلاً عن ضعفها ، ومعنى هذا أن أحاديث أبي هريرة الصحيحة يستحيل أن تزيد على ألف حديث

قال الزيلعي في نصب الراية (1/ 355) :” وَبِالْجُمْلَةِ ، فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ كُلُّهَا لَيْسَ فِيهَا صَرِيحٌ صَحِيحٌ ، بَلْ فِيهَا عَدَمُهُمَا ، أَوْ عَدَمُ أَحَدِهِمَا ، وَكَيْفَ تَكُونُ صَحِيحَةً ، وَلَيْسَتْ مُخَرَّجَةً فِي شَيْءٍ مِنْ الصَّحِيحِ ، وَلَا الْمَسَانِيدِ ، وَلَا السُّنَنِ ، الْمَشْهُورَةِ “

فاستدل على ضعف هذه الأحاديث بخروجها عن الكتب المشهورة

قال ابن رجب في فتح الباري (4/366) :” فمن اتقى وأنصف علم أن حَدِيْث أنس الصحيح الثابت لا يدفع بمثل هذه المناكير والغرائب والشواذ الَّتِيْ لَمْ يرض بتخريجها أصْحَاب الصحاح ، ولا أهل السنن مَعَ تساهل بعضهم فيما يخرجه ، ولا أهل المسانيد المشهورة مَعَ تساهلهم فيما يخرجونه “

قال ابن الجوزي في الموضوعات (1/ 151) :” فمتى رأيت حديثا خارجا عن دواوين الاسلام، كالموطأ ومسند أحمد والصحيحين وسنن أبى داود ونحوها، فانظر فيه، فإن كان كان له نظير من الصحاح والحسان قرب أمره، وإن ارتبت فيه ورأيته يباين الاصول فتأمل رجال إسناده وام تبر أحوالهم من كتابنا المسمى بالضعفاء والمتروكين، فإنك تعرف وجه القدح فيه”

قال البيهقي في مناقب الشافعي (2/ 321) :”فإنه ذكر فيما رويناه عنه توسع من توسع في السماع من بعض محدثي زمانه الذي لا يحفظون حديثهم ، ولا يحسنون قراءته من كتبهم ، ولا يعرفون ما يقرأ عليهم بعد أن تكون القراءة من أصل سماعهم .

ووجه ذلك بأن الأحاديث التي قد صحت أو وقعت بين الصحة والسقم قد دونت وكتبت في الجوامع التي جمعها أئمة الحديث ولا يجوز أن يذهب شئ منها على جمعيهم ، وإن جاز أن يذهب على بعضهم لضمان صاحب الشريعة حفظها “

قال ابن حجر في النكت على ابن الصلاح (1/448) :” وروى أبو موسى في هذا الكتاب من طريق حنبل بن إسحاق قال: “جمعنا أحمد أنا وابناه عبد الله وصالح وقال: انتقيته من أكثر من سبعمائة ألف وخمسين ألفا فما اختلف فيه المسلمون من حديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فارجعوا إليه، فإن وجدتموه، وإلا فليس بحجة””

قال أبو داود في رسالته إلى أهل مكة ص26 :” وقد ألفته نسقا على ما وقع عندي فإن ذكر لك عن النبي صلى الله عليه و سلم سنه ليس مما خرجته فاعلم أنه حديث واه إلا أن يكون في كتابي من طريق آخر فإني لم أخرج الطرق لأنه يكبر على المتعلم ولا أعرف أحدا جمع على الاستقصاء”

قال الذهبي في سير أعلام النبلاء (9/ 469) :” وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ الوَاقِدِيَّ ضَعِيْفٌ يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي الغَزَوَاتِ، وَالتَّارِيْخِ، وَنُوْرِدُ آثَارَهُ مِنْ غَيْرِ احْتِجَاجٍ أَمَّا فِي الفَرَائِضِ فَلاَ يَنْبَغِي أَنْ يُذْكَرَ فَهَذِهِ الكُتُبُ الستة ومسند أَحْمَدَ، وَعَامَّةُ مَنْ جَمَعَ فِي الأَحْكَامِ نَرَاهُم يَتَرَخَّصُوْنَ فِي إِخْرَاجِ أَحَادِيْثِ أُنَاسٍ ضُعَفَاءَ بَلْ متروكين، وَمَعَ هَذَا لاَ يُخَرِّجُوْنَ لِمُحَمَّدِ بنِ عُمَرَ شَيْئاً”

والمراد من هذه النقولات كلها ، بيان أن الكتب الستة ومسند أحمد فيها معظم الأحاديث الصحيحة ، ولا يعقل أن يوجد في غيرها من الأحاديث الصحيحة أكثر منها ، سواءً كان من مجموع أحاديث الصحابة ، أو من حديث صحابي معين

وعليه فإن أحاديث أبي هريرة الثابتة لا يمكن أن تبلغ ألف حديث

وأبو هريرة جلس مع النبي صلى الله عليه وسلم أربع سنين ، فلو كان يحفظ في كل يوم خمسة أحاديث لاتسعت هذه السنين الأربع لئن يحفظ آلاف الأحاديث وليس المئات فقط ، مع كون كثيرٍ من الأحاديث هي من السنن الفعلية التي ينقلها عما شاهد وليس عما سمع وهذه الباب فيها واسع جداً

 وحفظه _ رضي الله عنه _ للحديث دليل من دلائل النبوة

قال البخاري في صحيحه 119 : حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ أَبُو مُصْعَبٍ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ

قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَسْمَعُ مِنْكَ حَدِيثًا كَثِيرًا أَنْسَاهُ قَالَ ابْسُطْ رِدَاءَكَ فَبَسَطْتُهُ قَالَ فَغَرَفَ بِيَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ ضُمَّهُ فَضَمَمْتُهُ فَمَا نَسِيتُ شَيْئًا بَعْدَهُ

حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ بِهَذَا أَوْ قَالَ غَرَفَ بِيَدِهِ فِيهِ.

ثم إنه رضي الله عنه لم يسمع جميع الأحاديث التي رواها عن النبي صلى الله عليه وسلم بل منها ما سمعه من صحابة آخرين وكانت هذه عادة الصحابة

وأيضاً كان يحدث والصحابة متوافرون فلم ينكروا عليه ، هذه الكثرة بل كانوا يشهدون له بالحفظ ، وقد تابعوه على أكثر ما روى

قال الترمذي في جامعه 3836 – حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ قَالَ: أَخْبَرَنَا يَعْلَى بْنُ عَطَاءٍ، عَنْ الوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ قَالَ: لِأَبِي هُرَيْرَةَ:  يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَنْتَ كُنْتَ أَلْزَمَنَا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَحْفَظَنَا لِحَدِيثِهِ  ,  هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ

فهذه شهادة جليلة من ابن عمر ، وهو من المهاجرين الأول

وقال مالك في الموطأ 783 : عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله انه سمع أبا هريرة يحدث عبد الله بن عمر انه مر به قوم محرمون بالربذة فاستفتوه في لحم صيد وجدوا ناسا أحلت يأكلونه فأفتاهم بأكله قال ثم قدمت المدينة على عمر بن الخطاب فسألته عن ذلك فقال بم أفتيتهم قال فقلت أفتيتهم بأكله قال فقال عمر لو أفتيتهم بغير ذلك لأوجعتك.

أقول : أوردته هنا لأن فيه الإنكار على من أفتى مخالفاً للسنة ، وإن كان أهلاً للاجتهاد ، وفيه الرد على من زعم أن أبا هريرة لم يكن فقيهاً ولا فقه إلا بسعة حديث ، فإنه يفتي في زمن عمر ، ويقره عمر على ذلك فمن شهد له عمر بالفقه والأهلية ، لم ينظر إلى هنبثة أهل الرأي فيه ، ولو كان يتهم في الحديث لما أذن له بالإفتاء

وليس بمستغرب أن يحفظ أبا هريرة ألف حديث ، فقد كان في المحدثين بعده من يحفظ ألف ألف حديث كالإمام أحمد ، ومن يحفظ ستمائة ألف حديث كالبخاري واتفقت الأمة على سعة حفظهم وصار الأمر من المتقررات المتواترة ، وهؤلاء لا شك أن الرجل منهم كان يحفظ في اليوم الواحد 300 حديثاً و400 حديثاً وبالأسانيد ، فهل ينكر على أبي هريرة أن يحفظ عشر هذا في اليوم الواحد وبلا أسانيد ؟

ولا يقال أين بقية الصحابة عن هذا ، فقد تابعوه على كثيرٍ ممن روى وكان يلزم النبي صلى الله عليه وسلم كما نص عليه ابن عمر ونص عليه هو ، وكان قد أوتي حافظةً قوية ببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم

فكانت حاله في الحفظ مما يدخل في معنى قوله تعالى ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون )

والذكر القرآن والسنة مبينة للقرآن ، ولا يصح في الحكمة أن يحفظ المبيَن ( القرآن ) ولا يحفظ المبين (السنة) ، وحال حفاظ الحديث وسعة حفظهم وحذقهم من دلائل النبوة التي لا يرتاب فيها

وأما الخبر المذكور في أنه قال أن عبد الله بن عمرو أكثر منه حديثاً فهذا بحسب ما غلب على ظنه وبعضه وجهه بأن عبد الله بن عمرو أحفظ ولكن أبو هريرة أروى وذكروا لذلك أسباباً وعندي أن وجهه في أحاديث معينة إذا رواها عبد الله بن عمرو كان لفظه أوعب وأدق لأنه يكتب وتكون رواية أبي هريرة بالمعنى أو يفوتها بعض اللفظ وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة بالحفظ ولكن قبل الدعاء لربما نسي بعض ما سمع فلا تعارض بين هذا وذاك 

وبعضهم قال هذا استثناء منقطع وليس متصلاً  تقديره لكن الذي كان من عبد الله بن عمرو، وهو الكتابة.

هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم