باب ما جاء في تقويم العلم بالمال

في

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

قال ابن حبان في «المجروحين»[٢/٨٩]: “سمعت محمد بن علي القاروري بنسا، يقول: سمعت محمد بن إبراهيم الجنيد، يقول: سمعت علي بن عاصم، يقول: لما أردت الخروج في طلب العلم دفع إلى أبي مائة ألف درهم، واشترى لي ثقلا بألف، فخرجت وأردفت هشيم بن بشير ثم رجعت إلى أبي بمائة ألف حديث“.

ورواه الخطيب البغدادي في تاريخه بلفظ: “دفع إلى أبي مائة ألف درهم، وقال: اذهب فلا أرى لك وجها إلا بمائة ألف“.

ظاهر الخبر أن والده أو هو احتسب كل درهم بحديث، يعني أنه قوَّم العلم بالمال.

وقد أعجبتني الفكرة، وتذكرت قولَ الإمام مسلم في حديث أعجبه: “هذا حديث يساوي بدنة” (لأن فيه الرد على الشيعة)، والواردَ في الحديث: «أفلا يغدو أحدكم إلى المسجد فيَعلَم أو يقرأ آيتين من كتاب الله خير من ناقتين، وثلاث خير له من ثلاث، وأربع خير له من أربع، ومن أعدادهن من الإبل»، وتعليمَ النبي ﷺ لعلي وفاطمة ذكراً خير لهما من خادم.

ولنحاول أن نقوِّم العلم بالمال بما يفهمه أهل زماننا، خصوصاً مع كثرة الحديث عن المال والاقتصاد هذه الأيام.

صلاة الفريضة خمس في العدد خمسون في الأجر، فالحسنة في صلاة الفريضة ليست بعشر أمثالها بل بمائة؛ فكل سنة يتعلمها المرء في الصلاة بمائة حسنة كلما فعلها، وإن كان في بلد فيه ضعف في السنة فيتهاونون في ركن الطمأنينة وقراءة الفاتحة، وتعلَّم السنة وعلَّمها؛ فيا عظيم أجره، هذا غير التضعيف في أجر صلاة الجماعة.

ولهذا من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله؛ لعظيم أجرها الذي يفوت، وهي الصلاة الوسطى.

وأما في أمر الزكاة والصدقة فورد في الحديث: «إن العبد إذا تصدق بطيِّب تقبلها الله منه، وأخذها بيمينه ورباها كما يربي أحدكم مهره، أو فصيله، وإن الرجل ليتصدق باللقمة، فتربو في يد الله -أو قال: في كف الله- حتى تكون مثل الجبل، فتصدقوا».

وهذا من معنى قوله تعالى: {يمحق الله الربا ويربي الصدقات}، فهذا استثمار عظيم؛ الدينار والدرهم يعود عليه بأضعاف أضعافه.

غير أن الفقيه إذا تعلم فقه الزكاة وفقه البيوع تم له ذلك، فأما فقه الزكاة فلأن الله لا يقبل النافلة إلا إذا أديت الفريضة والفريضة أعظم أجراً، وأما فقه البيوع فلأن الله عز وجل لا يقبل من حرام.

والناس يدفعون الأموال العظيمة لأداء فريضة الحج أو أدائه في غير الفرض لتحصيل الأجر العظيم، وتجد الرجل من أهل العلم يعلِّم الناس الحج الصحيح وهو في بيته؛ فينال معهم الأجر لأنه دل على الهدى فكان له مثل أجرهم.

وأعظم من هذا كله العلم الذي يقيك شر الشرك؛ لأنه بمنزلة الآفة التي تأكل المحصول فيذهب جهد الزراع كله، فلو أن رجلاً زرع أرضاً وجاءت آفة تأكله، وقلت له أنا أنقذك من هذه الآفة بنصف المحصول فإنه سيوافق؛ فأخْذ النصف خير من هلاك الجميع، وكذا آفة البدعة وآفات السيئات التي تأكل الحسنات كآفات الحقوق، غير أن الشرك أعظمها.

وكل علم يعلمك الاحتساب كنز.

قال البخاري في صحيحه: “2517- حدثنا أحمد ابن يونس، حدثنا عاصم بن محمد، قال: حدثني واقد بن محمد، قال: حدثني سعيد بن مرجانة -صاحب علي بن حسين- قال: قال لي أبو هريرة رضي الله عنه: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أيما رجل أعتق امرأ مسلما، استنقذ الله بكل عضو منه عضوا منه من النار» قال سعيد بن مرجانة: «فانطلقت به إلى علي بن حسين، فعمد علي بن حسين رضي الله عنهما إلى عبد له قد أعطاه به عبد الله بن جعفر عشرة آلاف درهم أو ألف دينار، فأعتقه»”.

فعلي بن الحسين رأى أن عتق الله عز وجل له أربح من عشرة آلاف دينار لا تدري في ماذا تذهب؛ فهذا الحديث كان أثمن عنده من عشرة آلاف دينار لأنه دله على ما هو أثمن من عشرة آلاف دينار.