الوسواس في أمر الرزق

في

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

الوسواس في أمر الرزق

قال أبو نعيم في الحلية: “حدثنا أحمد بن إسحاق، ثنا أحمد بن عمرو بن أبي عاصم قال: سمعت أبا تراب يقول: سمعت حاتما يقول: «لي أربعة نسوة وتسعة من الأولاد ما طمع الشيطان أن يوسوس إلي في شيء من أرزاقهم»“.

أقول: كلام حاتم الأصم هذا يحتاج إلى تدبر عظيم خصوصًا في هذا الزمان.

من أكثر أسباب القلق والاكتئاب والهم عند الشباب أمر الرزق، وذلك أنهم مطالَبون بالإنفاق على الأسرة الأصلية والزوجة والأولاد.

وقد كان الناس قديمًا يتعلمون صنعةً في سن صغير ويكسبون منها، والزواج عندهم ميسر وكذلك أمر السكن.

وأما في زماننا فصار المرء لا يكتسب إلا في سن متأخر بسبب (التمدرس النظامي) وطوال هذه المدة ينفق عليه والداه، وأيضًا الزواج يتأخر.

وهذا يشكِّل ضغطًا نفسيًّا بسبب شعوره بالحياء من أهله، وأيضًا شعور الحاجة للزواج، مع ما يأتي لاحقًا في أمر المسكن إن لم يكن متوفرًا وهمّ الإيجار.

هذه الأمور جعلت مدخل الشيطان في أمر الرزق قويًّا على الشباب، خصوصًا مع كثرة الأعمال التي فيها شبهة شرعية أو هي محرمة، وهذا يزيد الصراع النفسي والخوف من الفقر أو التعيير أو الإثم أو فوات حظ معين من الدنيا.

وحاتم الأصم رجل زاهد، غير أن أزهد الناس لا يتسامح في رزق أولاده وزوجته لأن هذه داخلة في حقوقهم عليه لهذا لفظ الأثر دقيق.

والسؤال هنا: كيف وصل حاتم الأصم إلى هذه المرحلة؟

فالجواب: إن مجرد الهم أو التفكر في أمر الرزق أمر لا يكاد يسلم منه كبير أحد، ولكن البلاء في أن يتحول هذا إلى تسخط أو شيء ملازم لك لا ينفك عنك ويجعلك لا تبصر نعم الله عليك.

وقد قال عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم: “«الطيرة شرك»، وما منا إلا، ولكن الله يذهبه بالتوكل“.

قوله: “وما منا إلا ولكن الله يذهبه بالتوكل” هو قول ابن مسعود رضي الله عنه، وهذا يقال في أمر الوسواس في الرزق (ما منا إلا -يعني من وقع له ذلك- ولكن الله يذهبه بالتوكل).

وقد قال تعالى: {ومن يتق الله يجعل له مخرجًا ويرزقه من حيث لا يحتسب} [الطلاق]

هذه الآية هي أول العلاج، الأسباب يفعلها المرء وهي مؤثرة غير أن المرء عليه أن يدرك أن هذه الأسباب بيد الله، إن شاء أثرت وإن شاء لم تؤثر، وإن شاء سبحانه رزقك من غير الأسباب التي بذلتها، وهذه فائدة (من حيث لا يحتسب)، وهذا من أدق معاني الإيمان باسم الله الرزاق.

والله سبحانه جعل التقوى سببًا لتحصيل الرزق الذي لا يضبط العبد أسبابه، ففي الحديث “من أراد أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه”.

ثم إن أمر الرزق يتعلق بالداخل إلى جيبك ويتعلق بما ستنفقه، وما تنفقه يتعلق بالحقوق والنوائب التي تلحق بك، وهذه لا يضبطها المرء إلا أن يعلم الغيب، وكم من أمر يحفظك الله منه وأنت لا تدري.

غير أن العلم النافع رزق، وسلامة القلب رزق، وكم من إنسان رأيناه عنده مال كثير وينفقه في سبيل راحته على معاصٍ أو علاج نفسي أو غيره وقد يحصِّل شيئًا مما أراد وقد لا يحصِّل.

هذا الأمر الأول.

والأمر الثاني أن تعلم أن أمر الرزق هو مجرد وسيلة لغاية أعظم وهي الوصول لله عز وجل، وما جعل أمر الرزق إلا لتدعوه وتتوكل عليه وتشعر بافتقارك له سبحانه، وهذا يعينك في فهم حقيقة عبوديتك وحقيقة غناه سبحانه.

فمن وصل لهذا المحل وفهم الغاية هان عنده أمر الوسائل وأغناه مولاه.

وأما من ضعف عن إدراك هذا استولى عليه الشيطان ووعده بالفقر وجعل فقره بين عينيه ثم زين له المعاصي في سبيل زوال هذا الفقر، ولو زال الفقر فأنت قد ضيعت الغاية، ففقرك على الحقيقة قد زاد إذ أن غنى قلبك بخالقه قد نقص إن لم يكن انعدم.

وكذلك مبالغة المرء في النظر إلى مسئولياته وحقوق الناس عليه حتى ينسى أن الله هو من يرزقه وإياهم وأنه مجرد سبب.

هذه المبالغة دَخَل الشيطان من خلالها على المشركين وزيَّن لهم قتل أولادهم خوفًا من ألا يقوموا بحقوقهم {نحن نرزقكم وإياهم}.