الوجه الآخر ليوسف بن عمر الثقفي..
هناك شخصيات تاريخية فاضلة وربما يكون لها هنات يسيرة تُطمس في بحر حسناتها، وهناك شخصيات تاريخية مجروحة بجروح شديدة وربما يكون لها حسنات ولكن الجرح فيها قوي.
وهناك شخصيات مترددة جمعت خيرًا كبيرًا وشرًّا ليس باليسير، وهذا يكثر في الشخصيات السياسية، وهنا يكون من المهم عدم الاقتصار على بعض المراجع التاريخية المتأخرة لفهم واقع هذه الشخصية.
وهنا مثال يوضح المقصود:
قال الذهبي في سير أعلام النبلاء:
“أمير العراقين وخراسان لهشام، ثم أقره الوليد بن يزيد.
وكان شهما، كافيا، سائسا، مهيبا، جبارا، عسوفا، جوادا، معطاء.
نقل المدائني: أن سماطه بالعراق كان كل يوم خمس مائة مائدة، كلها شواء، وقد كان ولي اليمن، وضرب وهب بن منبه حتى أثخنه.
قال ابن عساكر: لما هلك الحجاج، أخذ يوسف هذا في آل الحجاج ليعذب، فقال: أخرجوني أسأل.
فدفع إلى الحارث الجهضمي، وكان مغفلا، فأتى دارا لها بابان، فقال: دعني أدخل إلى عمتي أسألها.
فدخل، وهرب من الباب الآخر، وذلك في خلافة سليمان.
قال شباب: ولي يوسف اليمن سنة ست ومائة، فما زال عليها حتى جاءه التقليد بولاية العراق، فاستخلف ابنه الصلت، وسار.
قال الليث: نزع عن العراق خالد القسري سنة عشرين ومائة بيوسف، وكان يضرب بحمقه وتيهه المثل، فكان يقال: أحمق من أحمق ثقيف.
وحجمه إنسان مرة، فهابه وأرعد، فقال يوسف: قل لهذا البائس: لا تخف، وما رضي أن يخاطبه.
وقد هم الوليد بعزله، فبادر، وقدم له أموالا عظيمة، وبذل في خالد القسري أربعين ألف ألف درهم، فأخرج، وسلم إليه العراق، فأهلكه تحت العذاب والمصادرة، وأخذ منه ومن أعوانه تسعين ألف ألف درهم.
واقتص يزيد بن خالد بن عبد الله من يوسف، وقتله نائبه، ثم قتل يزيد، إذ تملك مروان الحمار.
قال أبو الصيداء: أنا شهدت هذا الخبيث يوسف ضرب وهب بن منبه حتى قتله.
وقال أبو هاشم: بعث يزيد بن خالد مولاه أبا الأسد، فدخل السجن، فضرب عنق يوسف بن عمر سنة سبع وعشرين ومائة“.
مِن قراءة هذا الكلام تكونت عند القارئ صورة ذهنية عن الرجل، والذهبي رجل عاش في القرن الثامن الهجري.
لنذهب إلى أحمد بن يحيى بن جابر البلاذري المتوفى عام 279 في كتابه أنساب الأشراف حيث نجده يقول في (9/ 113):
“وقال المدائني: كان يُقالُ إنه كانت في يوسف خلال حسنة: طول صلاة، وحسن هدي، ووفاء ولزوم للمسجد، وضبط لحشمه وأهل بيته عن الناس وجمال وانبساط لسان، وتواضع في منزله، وحُسن ملكة، وكثرة تضرع ودعاء، وكان يصلي الغداة فلا يزالُ مستقبِلًا للقبلة يُسبّح ويدعو ولا يكلم أحدًا حتى يصلي الضحى، ولزومٌ للسنة، وحفظ للقرآن واقتصاد، وبُعْد هِمَّةٍ، وبصر بالشعر والأدب.
وقال سعيد بن سَلْم: ذكر قوم يوسف فاغتابوه فقال لَهم يوسف بن سليم مولى أبي بكرة: أنصفوا يوسف فإن خالد بن عبد الله اصطنع من اليمن ومن العجم قومًا نحو أبان بن الوليد فأخملهم يوسف وأفناهم، وأفلتَ منهم واحد وهو ابن الكرماني، فقد رأيتم ما صنع بكم فكيف لو بقي الآخرون؟
حدثني عمر بن شبه عن حيان بن بشر عن جرير عن المغيرة قال: كان الإسلام ذليلا حتى قدم يوسف، وقال ابن نوفل يَمدح يوسف في شعر يقول فيه:
أتانا وأهل الشرك أهل زكاتنا … وحكامنا فيما نُسِرُّ ونجهر
فلما أتانا يوسف الخير أشرقت … له الأرض حتى كل وادٍ مُنَوَّرُ
وحتى رأينا العدل في الناس ظاهرًا … وما كان من قبل العقيلي يظهر
في أبيات. ثم قال بعد ذلك فيه:
أرانا والخليفة إذ رمانا … مع الإخلاص بالرجل الجديد
كأهل النار حين دُعوا أغيثوا … جَميعًا بالحميم وبالصديد“.
وأخباره في السخاء كثيرة جدًّا، فمن يقرأ هذا الكلام في أنساب الأشراف يظن أنه شخص غير الذي ذكره الذهبي، والواقع أنهما شخص واحد.
والبلاذري أيضًا أورد له مثالب من أهمها انحرافه عن علي بن أبي طالب، والذهبي في العادة يعتمد ابن خلكان وابن عساكر، فأما ابن عساكر فلم يكن له معرفة بأنساب الأشراف وأما ابن خلكان فلم يذكر من كتاب أنساب الأشراف إلا ما يراه مثلبة لأن فيه تشيعًا ويوسف الثقفي قتل زيد بن علي لما خرج على هشام وقيل أن فيه انحرافًا عن علي.
فإن قيل: ربما لم تصح هذه المناقب عند من أغفلها من المتأخرين.
فيقال: أسانيد المناقب والمثالب واحدة، فالمدائني وعمر بن شبة في أخبار البصرة هما عمدة أخبار الرجل، والطبري ذكر له أمورًا يسيرة، وعامتها أخبار منقطعة على عادة الإخباريين، فإما قبولها كلها أو دفعها كلها.
بل لو قبلنا المناقب وتشككنا في المثالب لكان لذلك وجه، وذلك أن البلاذري وشيخَه المدائني ظاهِرَا التحامل على الأمويين وعمالهم.
جاء في سير أعلام النبلاء (8/ 447): “حكى المدائني: أنه أدخل على المأمون فحدثه بأحاديث في علي فلعن بني أمية“.
وأما البلاذري فيعتمده الإمامية من إفلاسهم ويعدون رواياته كلها صحيحة يحتجون به، وفي أخباره الكثير من الغرائب والمناكير، وربما تكون الجناية في غيره، ولكنه ليس معتمدًا فهو شاعر هجاء.
غير أنه إذا نقل عن شيوخه أمثال ابن سعد والمدائني فغالبًا ما ينقل من كتبهم وهذا يحتمل في الأخبار عن غير النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة.
فإذا كانوا متحاملين على الأمويين فذكرهم لمناقب عامل لبني مروان يُعتبر من شهادة الأعداء، وهذا أقرب للقبول، وأما ذكرهم لمثالبه فمحل تهمة خصوصًا وأنهم لا يسندون شيئًا (والخبر المذكور في قتله لوهب بن منبه مداره على مجهول).
ومن الأمور الملاحظة في الكُتَّاب الحداثيين والروافض أنهم يقبلون أي مثلبة تُذكَر عن الأمويين ولو بلا إسناد، ثم ينكرون أحاديث كثيرة لا تعجبهم ومناقب للصحابة والتابعين وبعض الأمراء، علمًا أن هذه المناقب في كتب صُنِّفت في زمن العباسيين، الخصوم السياسيين للأمويين، وهم عندهم ولع بفكرة تأثير السلطة والمؤامرة ولكنها تتلاشى هنا من شدة حنقهم على القرون الأولى.
وهنا لا أريد أن أقول إن الثقفي رجل صالح كما يظن بعض الناس أن القصة إما تقديس أو تدنيس، ولكنني أردت التنبيه على ضرورة الإحاطة بالمصادر التاريخية والاتساق المنهجي.