المغيَّب من منهج شيخ الإسلام ابن تيمية في التعامل مع المبتدعة (عقوبة الداعية المعذور عند الله).

في

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

يحاول بعض الناس إظهار شيخ الإسلام ابن تيمية على أنه أقرب ما يكون للطريقة العصرية الأكاديمية، يكتب الردود على المخالفين ويناقش ولكن هذه الردود والمخالفات لا تفسد للود قضية، ومن ينسب الشيخ لهذا إما شخص تشبع بهذه الثقافة الحالمة وحاول أن يجد لها مصداقاً في التراث، فوجد بعض الكلمات للشيخ فحملها على هذا المعنى في نفسه وأكمل الفراغات من ذهنه، وإما شخص أرهبه اتهام الشيخ بالغلو والتنطع والتشدد وأراد الدفاع عن الشيخ، فجمع أموراً يظنها تكسر الصورة النمطية عنه، ولكن بعد زمن تكونت صورة نمطية أخرى تخالف الواقع وتظلم الرجل أيضاً، وتجرده من واقعيته واتِّباعه، والمقصود هنا تحرير مذهبه وبيان الانتقاء الذي يمارسه البعض لا بيان الصواب مطلقاً.

قال ابن تيمية كما في «مجموع الفتاوى» [10/375] : “وكذلك يعاقب من دعا إلى بدعة تضر الناس في دينهم؛ وإن كان قد يكون معذورا فيها في نفس الأمر لاجتهاد أو تقليد”.

هنا ينص على عقوبة المعذور لأنه يشاهد حماية الناس منه، وليس مصلحته الشخصية فقط، مع أن من مصلحته تقليل أتباعه ليسهل عليه الرجوع، ولأن حقيقة عذره لا يوقف عليها، لأنه أمر باطن، فقد يكون غير معذور عند الله فهنا نخفف آثامه.

وهنا يتكلم عن مطلق البدع، فالبدعة في باب الصفات التي وقع فيها الأشاعرة داخلة في ذلك ولا شك، لأنها تضر الناس (في دينهم)، أما اليوم فكثير من الناس لا يرون البدعةً بدعة إلا التي تضر الناس (في دنياهم)، ومخالف الإجماعات والنصوص والأدلة في باب الصفات دائماً معذور، وأما من يبدِّع أشعرياً أو يكفر جهمياً فهذا ليس بمعذور، إذ أن عذر الجهمي عندهم أظهر من البيِّنات على صفات الله عز وجل!

وما هي العقوبة؟

يقول الشيخ كما في «مجموع الفتاوى» [13/125] : “ولهذا يقبلون شهادة أهل الأهواء ويصلون خلفهم ومن ردها -كمالك وأحمد- فليس ذلك مستلزما لإثمهما؛ لكن المقصود إنكار المنكر وهجر من أظهر البدعة فإذا هجر ولم يصل خلفه ولم تقبل شهادته كان ذلك منعا له من إظهار البدعة؛ ولهذا فرق أحمد وغيره بين الداعية للبدعة المظهر لها وغيره”.

فمن عقوبة الداعية الذي قد يكون معذوراً ترك الصلاة خلفه وترك قبول شهادته، وإن كان في نفسه عدلاً، إلا أن يُضطر إليها. 

وقال مكرِّراً المعنى كما في «مجموع الفتاوى» [23/342] : “لكن أوسط الأقوال في هؤلاء أن تقديم الواحد من هؤلاء في الإمامة لا يجوز مع القدرة على غيره. فإن من كان مظهرا للفجور أو البدع يجب الإنكار عليه ونهيه عن ذلك وأقل مراتب الإنكار هجره لينتهي عن فجوره وبدعته؛ ولهذا فرق جمهور الأئمة بين الداعية وغير الداعية فإن الداعية أظهر المنكر فاستحق الإنكار عليه بخلاف الساكت فإنه بمنزلة من أسر بالذنب فهذا لا ينكر عليه في الظاهر فإن الخطيئة إذا خفيت لم تضر إلا صاحبها ولكن إذا أعلنت فلم تنكر ضرت العامة”.

وقال أيضاً كما في «مجموع الفتاوى» [7/385] : “وأما هؤلاء فهم مبتدعون ضالون لكنهم ليسوا بمنزلة أولئك؛ وفي هؤلاء خلق كثير من العلماء والعباد كتب عنهم العلم. وأخرج البخاري ومسلم لجماعة منهم لكن من كان داعية إليه لم يخرجوا له وهذا مذهب فقهاء أهل الحديث كأحمد وغيره: أن من كان داعية إلى بدعة فإنه يستحق العقوبة لدفع ضرره عن الناس وإن كان في الباطن مجتهدا وأقل عقوبته أن يهجر فلا يكون له مرتبة في الدين”.

تأمَّل وصفهم بالابتداع مع أنهم عبَّاد وعلماء، بخلاف المنهج الموجود اليوم، يجعلون هذا طعناً في العلماء.

ونصَّ على عقوبة داعية البدعة وإن كان في (الباطن مجتهداً)، يعني معذوراً، وكلامه هنا عن البدع المفسقة، فما بالك بالمكفرة؟

ويقول: “فلا يكون له مرتبة في الدين” يعني لا يُجعل إماماً، فضلاً عن محنة يُمتحن به الخلق.

وقال ابن تيمية كما في «مجموع الفتاوى» [10/376] : “وعلى هذا فما أمر به آخر أهل السنة من أن داعية أهل البدع يهجر فلا يستشهد ولا يروى عنه ولا يستفتى ولا يصلى خلفه قد يكون من هذا الباب؛ فإن هجره تعزير له وعقوبة له جزاء لمنع الناس من ذلك الذنب الذي هو بدعة أو غيرها وإن كان في نفس الأمر تائبا أو معذورا”.

هذا ثالث نص في تأكيد العقوبة على المعذور من دعاة البدعة، وأما ذكره للتائب فيقصد الذي تاب وما بيَّن فبقيت الضلالة فاشية في الناس.

ومع تكرار ابن تيمية لهذا المعنى لا ترى كثيراً ممن يكثر من الحديث عن موقف الشيخ من المخالف يذكره، لأنها قراءات إما انتقائية أو دفاعية، وغالب من يستنكر هذا الكلام ستراه لا إرادياً يُطبِّقه مع من يراهم غلاةً، بل يفعل ما هو أشد بكثير مما اقترحه الشيخ.