جاء في كتاب «تاريخ الدولة العلية» لمحمد فريد بك صـ411: “ثورة اليونان وطلبها الاستقلال: قد علم المطالع من سياق هذا الكتاب أن الدولة العلية كانت كلما فتحت إقليما اكتفت من أهله بالخراج غير متعرضة لهم في دينهم أو لغتهم أو عوائدهم وأظهرنا مضار هذه الطريقة التي تحفظ بها كل أمة لغتها ورابطها وعصبيتها حتى إذا ساعدتها الظروف نشطت من عقالها وقامت من رقدتها طالبة نصيبها من شمس الاستقلال المنعشة”.
أقول: هنا محمد فريد بك -وهو أحد مؤرخي الدولة العثمانية- يقول: إن أحد أهم أسباب خسارة الدولة العثمانية لكثير من الأراضي التي سيطرت عليها (هو ذكر اليونان هنا مثلاً ويقاس عليها غيرها) أن الدولة العثمانية كانت تتركهم على دينهم وعوائدهم ولغتهم، وتكتفي منهم بالجزية فحسب.
فيبقون على ما هم عليه من الدين والعوائد ثم يطالبون بالاستقلال والانشقاق في أقرب فرصة، ويضاف إلى ما قال: أن ولاءهم يكون مدخولاً.
وحديثه عن الدولة بصورتها المتأخرة.
فإن قيل: فهل يقترح إجبار الناس على تغيير دينهم أو لغتهم؟
الجواب: لا؛ ولكن يقترح دعوتهم للدين الصحيح كما فعلوا في الصدر الأول، وهذا الأمر تكون له نتائج إيجابية عظيمة؛ ولكن شرط ذلك أن يوجد العلم الصحيح، وكلما كان علم المرء أكبر وأقرب إلى الوحي كان أثره في الناس أحسن.
ولذلك ما يتوهمه الناس أن التمكين هو نهاية المطاف، وأن السلطة السياسية القوية قد تستغني عن جهود الدعوة، ذلك وهْم.
لهذا ما كان يفعله عبد الله بن مسعود ونظراؤه بعد الفتح لا يقل أهمية عما كان يفعله خالد بن الوليد ونظراؤه قبل الفتح، بل المقصد الأساسي من الفتوحات الأخذ بأيدي الناس إلى توحيد الله تبارك وتعالى.
وإلا فالانتصارات السياسية إن لم تكن مبنية على هذا الأساس فإنها مبدأ مصائب كبيرة، لأن الناس تُجبى إليهم أموال كثيرة ويُمكَّنون مع رقة الدين فينشأون في الترف، ويكون ذلك مبدأ الانحدار، مع تشوف الخصوم الذين هُزموا للانتقام، مع المكائد الداخلية.
واعتبر ذلك بحديث جبريل لما سأله النبي ﷺ عن أشراط الساعة قال: «أن تلد الأمةُ ربّتَها».
معظم الشراح فسروا الحديث بانتشار الفتوحات والسبي حتى تلد الأمة من سيدها سيدةً عليها أو سيداً.
والفتوحات من علامات الخير، فكيف جُعل ذلك في أشراط الساعة وآخر الزمان محل ذم؟
الذي يبدو والله أعلم أن المقصود بذلك الفتوحات التي يكون المقصد الأساسي فيها النصر السياسي دون نشر الدين، فيترتب عليها الترف مع رقة الدين، كما حصل في فترات من حقبة الدولة العثمانية، ويؤيد ذلك ربطها بتطاول الحفاة العراة بالبنيان، وذلك حال مذموم يدل على الركون إلى الدنيا، مع أن أصله قد يكون جاء من أسباب مشروعة، كتجارة أو غنائم.
وأشد ما يُخشى على أهل زماننا ممن جعلوا الوسيلة غاية والغاية وسيلة الدخول في هذا الأمر، خصوصاً من يجعل الدين أسمى غاياته تحقيق فردوس أرضي أو بعض مظاهره.