الفقيه الشافعي الذي سبق ابن تيمية في فتيا الطلاق

في

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

قال ابن كثير في البداية والنهاية: “أبو النجم محمد بن القاسم بن هبة الله التكريتي: الفقيه الشافعي تفقه ببغداد على أبي القاسم بن فضلان، ثم أعاد بالنظامية، ودرس في غيرها، وكان يشتغل كل يوم عشرين درسا، وليس له دأب إلا الاشتغال وتلاوة القرآن ليلا ونهارا، وكان بارعا، كثير العلوم، قد أتقن المذهب والخلاف، وكان يفتي في مسألة الطلاق الثلاث بواحدة، فتغيظ عليه قاضي القضاة أبو القاسم عبد الله بن الحسين الدامغاني، فلم يسمع منه، ثم أخرج إلى تكريت، فأقام بها ثم استدعي إلى بغداد، فعاد إلى الاشتغال، وأعاده قاضي القضاة نصر بن عبد الرزاق إلى إعادته بالنظامية، وعاد إلى ما كان عليه من الاشتغال والفتوى والوجاهة إلى أن توفي في هذه السنة -رحمه الله تعالى-، وهذا ذكره ابن الساعي“.

أقول: محمد بن القاسم التكريتي هذا توفي عام ٦٢٤، يعني قبل ولادة ابن تيمية، وقد رماه الذهبي بالحمق مع اعترافه بإمامته في الفقه، وإن كان السبب هو فتيا الطلاق فليس ذلك مبررا لهذا النبز والله أعلم.

ووصفه الصفدي بأنه سديد الفتاوى مع رميه بالحمق!

هذا الرجل ما تعرض للدعايات التي تعرض لها ابن تيمية، وربما ذلك لمنصبه، وربما لكون ابن تيمية بينه وبين خصومه خلافيات عديدة في باب العقيدة فاتخذوا هذا الأمر ذريعة لتفريغ غيظهم.

ولعل مما يؤيد هذا التفسير قول الشيخ محمد بن الحسين الفقيه في الكشف المبدي: “والذي يظهر لي: أنه ما حمل السبكي على الرد على هذا الإمام -الذي علمت فضله بشهادة أهل العلم النبوي- إنما هو محض التعصب والحسد؛ لأنه لم يفعل ذلك مع الذين تكلموا في الدين بالكلمات الكفرية؛ بل جعلوهم أولياء لله، وأولوا كلامهم بما يوافق أهواءهم تأويلا كاسدا يخالف ما عليه المسلمون؛ فهذا الغزالي الذي قال: «ليس في الإمكان أبدع مما كان»، وهو القائل أيضا: «من لا منطق له لا ثقة بعلمه»، ومعلوم أن الأئمة الأربعة ما كانوا يعلمون المنطق؛ بل صح النهي عنه عن الشافعي ومالك؛ فهل يقول مسلم: لا ثقة بعلم مالك والشافعي؟! وهذا ابن عربي القائل: «والعبد رب والرب عبد؛ ليت شعري من المكلف؟»، وهذا ابن عطاء الله السكندري القائل في حكمه: «طلبك منه اتهام له»”.

أقول: السبكي تكلم في ابن عربي غير أنه يعظم الرازي مع أنه حُفظت عنه أمور شديدة.

وهذا الأخنائي ضرب ابن مري تلميذ ابن تيمية وعزره وأركبه على حمار واتهمه بالتعدي على رسول الله صلى الله عليه وسلم فكادت العامة أن تقتله.

قال ابن حجر في الدرر الكامنة بعد ذكر هذه الحادثة: “ومن الاتفاقيات أن شخصا يقال له ابن شاس حضر درسا فأنجز البحث إلى أن صوب ما نقل عن ابن مري في مسألة التوسل، فوثب به جماعة وحملوه إلى القاضي المالكي المذكور وشهد عليه جمع كبير، فدافع عنه القاضي فجهدوا به أن يفعل معه ما فعل بابن مري أو بعضه فلم يفعل، فنسب إلى التعنت في ذلك حتى قال فيه البرهان الرشيدي:

يا حاكما شيد أحكامه … على تقى الله وأقوى أساس

مقالة في ابن مري لفقت … تجاوزت في الحد حد القياس

ففي ابن شاس قط ما أثرت … فهل أباح الشرع كفر ابن شاس …

والذي يظهر تحامله على ابن مري لأنه تلميذ ابن تيمية، ولاحظ أنه مُسلَّم عندهم تكفير من يمنع من التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم!

ومن اللطائف أنني نشأت على أقوال ابن تيمية في الطلاق ثم ظهر لي الميل لقول الجمهور، فلما ظهرت الدعاوى للمذهبية رأيت كثيرا من المذهبيين (وليس كلهم) اذا جاء لمسائل الطلاق تحول إلى مذاهب ابن تيمية لأنها أحظى عند العامة، وهو الذي يملأ الدنيا ضجيجا في السخرية ممن يخالفون معتمد المذهب اتباعا للدليل.