الفرق بين (القدر المشترك) و(الاشتراك اللفظي)…
هذا مبحث مهم دخل فيه بعض الناس بنفس الخصومة، ومع انتشار الأطروحات التفويضية أو ما يقترب منها هذه الأيام كان لا بد من بيان.
حين تسمع (جناح بعوضة) و(جناح طائرة) و(جناح ملك).
ستلاحظ علاقة بين (الجناح) و(الجناح) و(الجناح) أوجبت الاتفاق بالتسمية، هذه العلاقة قد تخرج منها بتعريف للجناح بأنه (شيء وجودي يُستخدم في الطيران).
هذا المعنى الموجود في هذا التعريف هو (القدر المشترك) بين الأجنحة الثلاثة، هذا المعنى لا يوجد إلا في ذهنك بصورته المطلقة (جناح)، ولكنك إن أردت أن ترى هذا المعنى في الخارج فلن ترى جناحاً لوحده، بل سترى الجناح ضمن أعضاء بعوضة (جناح بعوضة) أو ضمن أجهزة طائرة (جناح طائرة) أو ضمن أعضاء طائر (جناح طائر).
قولنا: (القدر المشترك بصورته المطلقة لا يوجد إلا في ذهنك) ليس معناه أنه لا وجود للأجنحة في الحقيقة، ولكنها لا توجد في الحقيقة إلا ضمن سياق.
العلاقة بين (الجناح) و(الجناح) و(الجناح) اسمها (اشتراك لفظي ومعنوي) فاللفظ اشترك وبينها معنى مشترك، وإن كانت الحقائق مختلفة، فليس جناح البعوضة كمثل جناح الطائرة، وإن كانت كلها تستخدم في الطيران.
من وجه آخر ما الفرق بين (جناح الفندق) و(جناح الطائرة)؟ في الواقع أن الاتفاق لفظي فحسب، وهذا اسمه (اشتراك لفظي)، هل يوجد هنا قدر مشترك نتحدث عنه؟ في الغالب لا.
العلاقة بين صفات الله عز وجل الواردة في النصوص وصفات المخلوقين فيها اشتراك معنوي وقدر مشترك، ولكن ذلك لا يقتضي التشبيه، لأن هناك قدراً فارقاً.
فالله عز وجل له سمع يليق به والمخلوق له سمع يليق به، ذهنك قد يجرد معنى كلياً للسمع، فيعرِّفه بأنه (إدراك الأصوات)، ولكن هذا المعنى الكلي لا يوجد إلا في ذهنك، وأما في الخارج فيوجد سمع الخالق وسمع المخلوق، سمع للخالق يليق به وسمع للمخلوق يليق به.
فأنت إذا قلت: (يا سميع الدعاء) ينقدح في ذهنك معنى السمع على صفة تليق بالباري سبحانه.
وإذا قلت لشخص (أرجوك اسمعني) فأنت تريد سمعاً يليق به.
ومشكلة المعطلة أنهم جردوا هذا (القدر المشترك)، فلاحظوا وجوده ولم يلاحظوا القدر الفارق بين السمع والسمع، وأن القدر المشترك لا يوجد في الخارج إلا ضمن سياق، فظنوا التشبيه ونفوا الصفات لذلك.
ولأجل ذلك هربوا إلى القول بالاشتراك اللفظي، فقالوا (اليد من المخلوق أمر يقبض به ويبسط) و(اليد من الخالق القدرة)، فاشتركت عندهم في اللفظ فقط، وأما المعنى فتباين تماماً، والحق أنه لا فرق بين السمع والبصر واليد والوجه وغيرها، كلها يتصف بها الله عز وجل على ما يليق بجلاله اتصافاً حقيقياً.
ومن الناس من ظن أن (القدر المشترك) هو نفسه (الاشتراك اللفظي)، ونفى وجود الصفات حقيقةً أو توقف أو عطل المعنى، بينما القدر المشترك إنما استفيد من وجود اشتراك معنوي لاحظه الذهن في موجودات فجرده كما تقدم، فأنت تجد قدراً مشتركاً بين بصر وبصر وسمع وسمع، ولا تجد قدراً مشتركاً بين المشتري الكوكب والمشتري بمعنى المبتاع.
وبعضهم خلط وزعم أن مذهب أرسطو وابن سينا إثبات قدر مشترك في الخارج، ومذهبهم حقيقةً إثبات جواهر عقلية تقارن الذوات، (جواهر) يعني قائمة بنفسها وليست صفات تقوم في غيرها، وقولهم: (عقلية) يعني غير محسوسة لا تُرى ولا تُسمع، وقولهم: (مقارنة للذوات) يعني غير قائمة بها، فاعجب ممن ينسب مثل هذا لإنسان سني يتكلم بالقدر المشترك والقدر الفارق في الصفات!
قال ابن تيمية في «درء تعارض العقل والنقل» [6/275]: “فإذا قيل: الكلي الطبيعي موجود في الخارج، وأريد به: أن الطبيعة التي يجردها العقل كلية توجد في الخارج ولا توجد فيه إلا معينة فهذا صحيح”.
قوله: “يجردها العقل كلية” هذا ما فعلناه في مثال الجناح.
وقوله: “ولا توجد إلا معينة في الخارج” يعني أن الجناح في الخارج لا يوجد إلا ضمن كائن له جناح، وكذلك إذا تحدثنا عن الصفات من سمع وبصر وقدرة وحياة ويد ووجه فهي لا توجد في الخارج إلا في خالق أو مخلوق، وفي الخالق كمالها مطلق تليق به ولها معنى يفهمه المخلوق، وبهذا تعظم الرغبة والرهبة، كما في حديث «الراحمون يرحمهم الرحمن»، فرحمة الله تليق به، غير أن المخلوق يحصِّل رحمة ربه بأن يرحم عباده رحمةً تليق بالمخلوق، وبينهما اشتراك معنوي وقدر مشترك وقدر فارق، مع تفاوت الحقائق.
تنبيه: حين نقول (اشتراك معنوي) لا نقصد ما تتماثل أفراده، بل ما تتفاوت، وهو ما يسميه بعضهم (المشكك) أو (التواطؤ) كما نبه عليه شيخ الإسلام في «الرد على المنطقيين» صـ133.