يقول ابن تيمية رحمه الله : والسفسطة قد تعرض لآحاد الناس وفي بعض الأمور ولكن أمة من الأمم كلها سوفسطائية في كل شيء هذا لا يتصور , فلهذا لم يعرف عن أمة من الأمم أنهم قالوا بحدوث العالم من غير محدث [ الفرقان بين الحق والبطلان 485 ]
قال في بيان تلبيس الجهمية (1/318) :” فقطعهم _ يعني الجهم _ مع غلطه في المناظرة ومغالطتهم أيضاً ولو كانوا هم لا يقرون إلا بما أحسه أحدهم لم يكونوا قد انقطعوا بمثل هذه المناظرة لأن غايتها إثبات وجود موجود غير محسوس فيقاس الرب عليه فلو لم يكونوا يقرون بشيء من القياس العقلي لما سمعوا مثل هذا الكلام ولا أمكن مخاطبتهم به كما لا يمكن أن يحتج بقول الأنبياء على من كذبهم ولا يقال هو أقام الحجة عليهم ببيان وجود موجود غير محسوس ثم قاس عليه لأنه يقال لو كان من أصلهم أنهم لا يقبلون القياس في المحسوس لكانوا لا يقبلونه فيما لزمهم القول به من غير المحسوس وكانوا يقولون هذا يعلم وجوده كما ذكرت فمن أين يجب علينا أن نعترف بنظيره إذا كان من أصلهم أن الشيء لا يعرف حكمه من جهة النظير ، بل الذي يقال إن القوم كانوا يقولون لا يكون شيء موجودا إلا أن يمكن إحساسه فلا يصدق الإنسان بوجود مالا يمكن معرفته بشيء من الحواس لا يقولون الإنسان المعين لا يعلم إلا ما أحسه هو بل ينكر ما أخبره جميع الناس من الأمور التي تماثل ما أحسه وينكر أيضا وجود نظير ما أحسه أو لا يمكنه الاعتراف بذلك فإن هذا لا يتصور أن تقوله طائفة مدنية وقد ذكر هذا المتكلمون فقالوا إن الطائفة التي تبلغ مبلغ التواتر لا يتفقون على إنكار ما يعرف بالضرورة كما ذكر المؤسس _ يعني الرازي_ في هذا الكتاب إن الطائفة العظيمة من العقلاء لا يجتمعون على إنكار الضروريات فلا ينقلهم ذلك السلب العام عن طائفة من العقلاء ولا يبين به أن طوائف العقلاء يقعوا في شيء من هذا السلب وكلا الأمرين باطل بل التحقيق أن العقلاء لا يتفقون على إنكار العلوم الضرورية من غير تواطئ واتفاق كما لا يتفقون على الكذب من غير تواطئ ولا اتفاق وذلك أن الله تعالى خلق الإنسان يعلم الأمور الضرورية بغير اختياره كما يجهل بعضها وخلقه بفطرته يخبر بما يعلمه إلا لمعارض يغيره عن فطرته وكذلك خلقه بفطرته يريد العدل والمصلحة إلا لمعارض فهو وإن كان ظلوما جهولا فذاك في كثير من الأمور أما أن تكون أمة من الأمم تجهل كل شيء أو تكذب في كل شيء أو تظلم في كل شيء فهذا لا يتفق أبدا فإن اجتماع بني آدم في الدنيا وهو الاجتماع الفطري الطبيعي الذي لا يعيشون بدونه لا يتصور مع هذا الإنكار وذلك أنهم لا بد أن يقروا بأن لأحدهم أبا وأخا ونحو ذلك ومن المعلوم أنه لم يعرف بحسه إحبال أبيه لأمه ولا ولادة أمه له وكذلك لم يحس ولادة أهله وأهل مدينته مع أنه لا بد لهم من اعتراف أن هذه أم فلان وهذا ابنها وإنما يشهد الولادة في العادة بعض النساء وكذلك لا بد أن يعرف أن آباءهم وأمهاتهم مولودون وأن أجدادهم ماتوا وأن الناس يموتون في الجملة ولم يحس كل منهم موت من غاب عنه ولا أن أحدهم يستعين بالآخر لجلب منفعة ودفع مضرة مباينة فيصلح له طعاما وشرابا أو لباسا ويحصل ذلك بأنواع الصناعات والمعاوضات الذي لم يشهد بحسه تفاصيل ذلك بل يستفيده من إخبار المباشرين له وكذلك ما يكون في قريته ومدينته من أحوال أهلها وصناعتهم وأحوالهم التي تتعلق مصلحته بها لا يعرف كل منهم كل شيء في ذلك بالمشاهدة بل بعضهم يشهد ذلك ويخبر غيره حتى يخبر بعضهم بعضا بالمدائن القريبة منهم وأحوالها ولا يخفى على سليم العقل أن الطعام الذي يأكله واللباس الذي يلبسه قد أوتي به إليه من مكان لم يشهده وصنع بأسباب متنوعة لم يشهد عامتها وكذلك لا بد لكل أمة من رئيس مطاع وكبير منهم لا يشهدونه وأكثرهم لا يشهدون تفاصيل أحواله التي تتعلق مصالحهم بها وإنما يتسامعون بها ولهذا جاءت الشريعة بقبول شهادة الاستفاضة في هذا وأمثاله كالموت والنسب باتفاق الفقهاء وإن كان لهم فيما يقبل فيه غير ذلك أقوال مختلفة ففي الجملة قبول الأخبار المستفيضة والمتواترة ونحو ذلك فيما يحس جنسه هو من الأمور الفطرية الضرورية لبني آدم كما أن الأكل والشرب والنكاح لهم كذلك فمن قال إن أمة من الأمم عاشت بدون هذه العلوم والأقوال كمن قال إنها عاشت بدون هذه الحياة “