الرد على كلام « عبد الحليم توميات » في مسألة الجرح والتعديل

في

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

جاء في موقع نبراس الحق التابع لعبد الحليم توميات الجزائري ما يلي:
“نصّ السّؤال: السّلام عليكم … ما معنى الجرح والتّعديل ؟ وهل الكلام في الدّعاة
والعلماء – على نحو ما نراه اليوم – يُعَدّ من باب الجرح والتّعديل ؟ بارك الله فيكم..

نصّ الجواب: الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه
ومن والاه، أمّا بعد: فالجرح والتّعديل يُطلقان بالمعنى العامّ، وبراد بهما: الذّم
والمدح، أمّا في الاصطلاح الخاصّ، فهو العلم الّذي يُعنَى برواة الحديث والآثار، وذلك
احتياطا للحديث الشّريف؛ لأنّه تُبنَى عليه أصول الدّين وفروعه، ويُفسّر به القرآن،
وتضبط به الأحكام، وغير ذلك ممّا لا يُحصى من علوم الشّريعة، أمّا الحكم بالتّبديع
– وكذا التّكفير والتّفسيق -، فإنّه لا يدخل في مسائل الجرح والتّعديل، وإنّما هو من
مسائل الأحكام، أي: مسائل الوعد والوعيد.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:

” فاعلم أنّ مسائل التّكفير والتّفسيق هي من مسائل” الأسماء
والأحكام “الّتي يتعلّق بها الوعد والوعيد في الدّار الآخرة، وتتعلّق بهاالموالاة
والمعاداة، والقتل والعصمة، وغير ذلك في الدّار الدنيا …” [” مجموع الفتاوى
” (12/464)].

فكم من عالم هو من الأئمّة الأفاضل كأبي حنيفة وحمّاد بن أبي سليمان رحمهما
الله، وغيرهم ممّن لا يُحصَى كثرةً، هو ضعيف في الحديث لا يؤخذ منه.

فهو بميزان مسائل الأحكام: إمام يؤخذ عنه العلم.

وبميزان الجرح والتّعديل هو ضعيف أو متروك.

وكلّ يؤخذ منه ما يُحسنُه.

أمّا ما انتشر بين كثيرٍ من إخواننا من تطبيقهم قواعد الجرح والتّعديل
على الدّعاة إلى الله تعالى من أهل السنّة، فهو ممّا لم يقل به أحدٌ من أهل العلم.

فإن قيل: إنّ السّماع للمخالف قد ينتشر بسببه الخطأ بين النّاس !

فالجواب يُؤخذ من استحضار نقاط ثلاث مهمّة:

أوّلا: لا يسلم مخلوق من الزّلل:

فالخطأ إن ظهر لسامعه أو قارئه فهو سالم، وإن لم يظهر له فهو معذور غير
آثم، ومن غير المعقول أن يُعذر العالم المخطئ – بل يُؤجر لاجتهاده – ثمّ يأثم من يقلّده
!

ثانيا: ميزان الجرح والتّعديل ليس كميزان مسائل الأسماء والأحكام، فكان
لزاما على أئمّة الإسلام من أهل الحديث التشدّد في هذا الباب؛ لأنّ الحديث دليلٌ بنفسه
تُبنَى عليه الشّريعة، فلو تسرّب الخطأ والخطل إلى السنّة النّبويّة، لحرّفت الشّريعة،
وضاعت معالم الحقّ.

بخلاف من يدرّس العلوم الشّرعيّة على اختلافها، فإنّ ما ينقله أو يسطّره
ليس دليلا في نفسه، بل يُعرض قوله على الدّليل، فتسلم الشّريعة من التّحريف أو التّبديل.

ثالثا: خلّوا بين النّاس والعلم:

فإنّ المرء ما دام يتعلّم فهو على خير، ومع مرور الأيّام والأعوام، يمكنه
أن يميّز بين الصّواب والأوهام، فإن بلّغه الله تعالى مقصده فذاك من الله فضل وفرج،
وإلاّ فما على المحسنين من حرج.

هذا جوابي باختصار، والله تعالى أعلى وأعلم، وهو الهادي للّتي هي أقوم”.

أقول : في هذا الجواب المختصر بلايا والله المستعان بيان بعضها في وقفات:

أولها : تفريقه بين مسائل الجرح والتعديل ومسائل الأسماء والأحكام تفريق
حادث ينقضه البرهان بل إن علم الجرح والتعديل ظهر أول ما ظهر بشكله المعروف في باب
السنة والبدعة.

قال الإمام مسلم في مقدمة صحيحه 28: حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ
بْنُ الصَّبَّاحِ ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ زَكَرِيَّا ، عَنْ عَاصِمٍ الأَحْوَلِ
، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ ، قَالَ : لَمْ يَكُونُوا يَسْأَلُونَ عَنِ الإِسْنَادِ ، فَلَمَّا
وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ ، قَالُوا : سَمُّوا لَنَا رِجَالَكُمْ ، فَيُنْظَرُ إِلَى أَهْلِ
السُّنَّةِ فَيُؤْخَذُ حَدِيثُهُمْ ، وَيُنْظَرُ إِلَى أَهْلِ الْبِدَعِ فَلاَ يُؤْخَذُ
حَدِيثُهُمْ.

فتأمل قوله: (فَيُنْظَرُ إِلَى أَهْلِ السُّنَّةِ فَيُؤْخَذُ حَدِيثُهُمْ
، وَيُنْظَرُ إِلَى أَهْلِ الْبِدَعِ فَلاَ يُؤْخَذُ حَدِيثُهُمْ) وما فيه من الدلالة
على أن الجرح والتعديل ظهر أول ما ظهر للتفريق بين أهل البدع وأهل السنة.

 ترجم البخاري في كتابه الضعفاء
لأيوب بن عائذ وهو مستقيم الحديث ولكن ترجم له لأنه مرجيء، وعلى هذا درج كل المصنفين
في كتب الضعفاء والمجروحين أنهم يذكرون الضعفاء والكذابين ويذكرون أهل البدع وإن كانوا
ثقات.

وتأمل اسم كتاب الضعفاء للعقيلي : (كتاب الضعفاء ، ومن نُسب الى الكذب
ووضع الحديث ، ومن غلب على حديثه الوهم ، ومن يُتهم في بعض حديثه ، ومجهول روى ما لايتابع
عليه ، وصاحب بدعة يغلو فيها ويدعو اليها ، وإن كانت حاله في الحديث مستقيمة مؤلف على
حروف المعجم).

فتأمل قول (وصاحب بدعة يغلو فيها ويدعو اليها ، وإن كانت حاله في الحديث
مستقيمة) ولهذا تراهم تراهم يترجمون في هذه الكتب لأمثال طلق بن حبيب وعدي بن ثابت
وعبد الرزاق الصنعاني وإبراهيم التيمي وثور بن يزيد وغيرهم ممن رمي ببدعة وحاله في
الحديث مستقيمة.

ثانيها : تمثيله بأمثلة تنقض عليه مقاله مما يدل على أنه لم يحرر الأمر.

 فمثل بحماد بن أبي سليمان وإطلاقه
القول بضعف حماد بن أبي سليمان ليس سديداً بل قال في التقريب :” فقيه صدوق له
أوهام و رمى بالإرجاء”.

ومن حذر منه إنما حذر للإرجاء فدل على انطباق قواعد الجرح والتعديل على
مسائل الأسماء والأحكام.

 فمما أورد العقيلي في ترجمته في
الضعفاء 1487: حَدثنا أَحمد بن عَلي الأَبارُ، قال: حَدثنا مُحمد بن حُمَيد، قال: حَدثنا
جَرير، قال: كان حَماد بن أَبي سُليمان رَأسًا في المُرجِئَةِ.

1488: حَدثنا مُحمد بن إِسماعيل، قال: حَدثنا هَديَّة بن عَبد الوهاب،
قال: حَدثنا الفَضل بن مُوسَى، قال: حَدثنا شَريك، عن أَبي حَمزة, مَيمون، قال: قال
لَنا إِبراهيم:

 لا تَدَعُوا هَذا المَلعُون يَدخُل
عَلَي، يَعني: حَماد بن أَبي سُليمان، حين تَكَلَّم في الإِرجاءِ.

1490: حَدثنا أَحمد بن مَحمود الهَرَوي، قال: حَدثنا سَلَمة بن شَبيب،
قال: حَدثنا الفِريابي، قال: سمعتُ سُفيان الثَّوري يقول: كُنا نَأتي حَماد خُفيَةً
مِن أَصحابِنا.

وهذا يدل على أنهم كانوا يحذرون من مجالسته ولم يقولوا ( إمام يؤخذ عنه
العلم ) كما قال توميات ، وسبب ذلك الإرجاء وإلا فهو في الحديث مستقيم في الجملة وله
أوهام لا تسقط حديثه.

فهذا المثال الذي ذكره عبد الحليم يرد عليه.

 وكذلك المثال الآخر وهو مثال أبي
حنيفة النعمان بن ثابت .

 وأكتفي بما قاله في البخاري في
التاريخ الكبير، قال البخاري :”2253- نُعمان بْن ثابت، أَبو حَنِيفَة، الكُوفيُّ.

مَولًى لِبَنِي تَيم اللهِ بْن ثَعلَبَة.

رَوَى عَنه عَبّاد بْن العَوّام، وابْن المُبارك، وهُشَيم، ووَكِيع، ومُسلم
بن خالد، وأبو مُعاوية، والمُقرِئُ.

كَانَ مُرجِئًا، سَكَتُوا عنه، وعَنْ رَأيِهِ، وعَنْ حديثه”.

فتأمل قوله (سكتوا عنه وعن رأيه وعن حديثه) فجرح البخاري عقيدته وفقهه
وحديثه

فلو كانت كتب الجرح والتعديل خاصة بأمر الرواية فقط لما تكلم البخاري في
الأمور الأخرى.

ومن راجع ترجمة حماد بن أبي سليمان وأبي حنيفة في الكامل لابن عدي والمجروحين
لابن حبان والضعفاء للعقيلي وجد مصداق ما أقول.

 بل إن بدعة الراوي تؤثر على قبول
روايته

 قال مسلم في مقدمة صحيحه 36- وَقَالَ
مُحَمَّدٌ : سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ شَقِيقٍ ، يَقُولُ : سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهُ بْنَ
الْمُبَارَكِ ، يَقُولُ عَلَى رُؤُوسِ النَّاسِ : دَعُوا حَدِيثَ عَمْرِو بْنِ ثَابِتٍ
فَإِنَّهُ كَانَ يَسُبَّ السَّلَفَ.

 والأمثلة على ذلك كثيرة والمراد
هنا الإشارة.

ثالثها: قوله ( ومن غير المعقول أن يُعذر العالم المخطئ – بل يُؤجر لاجتهاده
– ثمّ يأثم من يقلّده).

 بل هذا معقول وواقع فإن المقلد
قد يقف على دليل لم يقف عليه العالم المجتهد.

 فنحن نجزم بأن من أباح المتعة
والصرف من السلف أهل للاجتهاد وأنهم لم يفعلوا ذلك عن هوى، وكذلك من باع الخمر على
المشركين منهم ، وكذلك من أنكر قراءة ( بل عجبتُ ) بضم التاء.

 ونجزم بأنه لا يجوز لمسلم أن يقلدهم
على زللهم.

وقال شيخ الإسلام في اقتضاء الصراط المستقيم (2/37) :” قد يكون متأولا
في هذا الشرع فيغفر له لأجل تأويله ، إذا كان مجتهدا الاجتهاد الذي يعفى فيه عن المخطئ
ويثاب أيضا على اجتهاده ، لكن لا يجوز اتباعه في ذلك كما لا يجوز اتباع سائر من قال
أو عمل قولا أو عملا قد علم الصواب في خلافه ، وإن كان القائل أو الفاعل مأجورا أو
معذورا ، وقد قال سبحانه ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ
دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا
وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾”.

قال ابن حزم في كتابه “الصادع” (ص458): (وفي “صحيح مسلم”
عن ابن عباس قال: بلغ عمر بن الخطاب أن جابر بن سمرة باع خمرا، فقال: قاتل الله سمرة،
ألم يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قاتل الله اليهود، حُرمت عليهم الشحوم
فجملوها وباعوها.

وسمرة مأجور في اجتهاده، ولو أن امرءاً مسلما باع اليوم خمرا والحجة قد
قامت عليه بنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعها؛ لكان عاصيا.انتهى

فهذا ومثله كثير جدا، فرق بين ما أرادوا خلطه من حكم الصحابة ومن بعدهم
من الأئمة المجتهدين المأجورين غير المصرين ولا المقلدين، مع حكم المقلدين المصرين
بعد قيام الحجة عليهم، فهذه هي الضلالة لا تلك).

 وقوله ( لا يسلم أحد من زلل )
فهذا لا شك فيه ولكن هناك من يسلم من البدعة وهم الفرقة الناجية والطائفة المنصورة.

الوقفة الرابعة : دعوته إلى التساهل في أمر الرأي دون الرواية فيه نظر.

 فإن المتكلم بالرأي قد يكذب ويبتر
النصوص ويجتزيء ليؤيد هواه فيبقى الجرح والتعديل لأمثال هؤلاء مستمراً فيحمد الصادق
الأمين ويذم الكذاب الفاجر.

 والكل موقعون عن رب العالمين والذي
يقول ( هذا حلال ) و ( هذا حرام ) قد أعطى نتيجة الدليل وليس الدليل نفسه فقط كما هو
في أمر الرواية.

 وعبد الحليم كأنه يدعو إلى أخذ
العلم عن أهل البدع

والحق أن هذا لا يجوز ومن أجازه بضوابط هذه الضوابط لا تكاد تقع

وقوله ( خلوا بين الناس والعلم ) فهذا حتى نعلم أولاً أن هذا علم وليس
جهلاً مركباً !

والذي أحسبه أن عامة الأخوة يعلمون ما في كلام هذا الرجل من الخلل وإنما
أردت التنبيه لأنني بلغني أنه قد اغتر به عدد كبير من الأخوة والله المستعان.

هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم