الرد على عصام موسى هادي في حكمه على أثر ابن عباس بالبطلان وجزمه بأنه إسرائيلية

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

قال الآجري في الشريعة 179 : وحدثنا ابن شاهين قال : حدثنا أبو هشام الرفاعي
قال : حدثنا محمد بن الفضيل قال : حدثنا عطاء ، عن أبي الضحى ، عن ابن عباس قال :

 أول ما خلق الله تعالى : القلم
، فقال : اكتب قال : وما أكتب ؟ قال : اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة ، ثم خلق النون
فكبس على ظهره الأرض ، فذلك قوله : ن والقلم وما يسطرون .

فعلق عصام موسى هادي في ص84 من طبعته:” صح موقوفاً إلا قوله : فذلك
قوله ( ن والقلم وما يسطرون ) ، فمنكر . والأثر ثابت عن ابن عباس وهو مما تلقاه عن
أهل الكتاب وفيما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم غنية عن أباطيل أهل الكتاب

أقول : التعليق على هذا الكلام في مقامين

المقام الأول : جزمه أن الأثر من الإسرائيليات

الثاني : جزمه بأن معناه باطل مع تصحيحه له عن ابن عباس

والكلام على المقام الأول من وجوه

الأول : من أين له أنه أخذه عن بني إسرائيل فقد يكون أخذه عن غيره من الصحابة
، أو عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وخصوصاً وأن ابن عباس روايته عن النبي صلى الله
عليه وسلم وغيره من الصحابة أكثر بكثير من روايته عن كعب الأحبار فإنها قليلة جداً

فإن قيل : لو كان عن النبي صلى الله عليه وسلم لسماه

فيقال : هذا الإيراد يسقط وجود المرفوع حكماً ، وقد حكى العديد من الصحابة
أخباراً غيبية ولا يعرفون بالأخذ عن بني إسرائيل فاعتبر ذلك العلماء مرفوعاً حكماً

فعلى سبيل المثال لا الحصر قال ابن المبارك في الزهد [ 425 ] :

قال أنا سفيان عن منصور عن أبي الضحى عن مسروق عن ابن مسعود قال : جنات
عدن بطنان الجنة , يعني سرة الجنة.

فهذا له حكم الرفع من صحابي لا يعرف بالأخذ عن علماء أهل الكتاب ممن أسلم
، ولم يرفعه وله حكم الرفع

وهذا حذيفة يحكي قصة إهلاك قوم لوط كما في الكتاب العقوبات لابن أبي الدنيا

وهذا عثمان يحكي قصة ذاك الرجل الذي شرب الخمر فزنا وقتل كما في المصنف
17060

وغيرهم كثير ولا يعرفون بالأخذ عن بني إسرائيل ولا يشك أحد أنهم أخذوا
ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم

ثم يقال أننا لو عكسنا الكلام فقلنا أن هذا الأثر لو كان عن كعب الأحبار
لأسنده ابن عباس إبراءً لعهدته

الثاني : قال عبد الرزاق في تفسيره 2596 : عَنْ إِسْرَائِيلُ , عَنْ فُرَاتٍ
الْقَزَّازِ , عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ , عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ , قَالَ:

 أَرْبَعُ آيَاتٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ
لَمْ أَدْرِ مَا هُنَّ حَتَّى سَأَلْتُ عَنْهُنَّ كَعْبَ الْأَحْبَارِ:

 قَوْمُ تُبَّعٍ فِي الْقُرْآنِ
وَلَمْ يُذْكَرْ تُبَّعٌ , قَالَ: إِنَّ تُبَّعًا كَانَ مَلِكًا وَكَانَ قَوْمُهُ كُهَّانًا
, وَكَانَ فِي قَوْمِهِ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَكَانَ الْكُهَّانُ يَبْغُونَ
عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ , وَيَقْتُلُونَ تَابِعَتَهُمْ

 فَقَالَ أَصْحَابُ الْكِتَابِ
لِتُبَّعٍ: إِنَّهُمْ يَكْذِبُونَ عَلَيْنَا , قَالَ: فَإِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَقَرِّبُوا
قُرْبَانًا فَأَيُّكُمْ كَانَ أَفْضَلَ أَكَلَتِ النَّارُ قُرْبَانَهُ

 قَالَ: فَقَرَّبَ أَهْلُ الْكِتَابِ
وَالْكُهَّانُ , فَنَزَلَتْ نَارٌ مِنَ السَّمَاءِ فَأَكَلَتْ قُرْبَانَ أَهْلِ الْكِتَابِ
, قَالَ: فَتَبِعَهُمْ تُبَّعٌ فَأَسْلَمَ , فَلِهَذَا ذَكَرَ اللَّهُ قَوْمَهُ فِي
الْقُرْآنِ وَلَمْ يَذْكُرْهُ

 وَسَأَلْتُهُ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ
{وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ} قَالَ:  شَيْطَانٌ أَخَذَ خَاتَمَ سُلَيْمَانَ الَّذِي فِيهِ
مُلْكُهُ فَقَذَفَ بِهِ فِي الْبَحْرِ فَوَقَعَ فِي بَطْنِ سَمَكَةٍ , فَانْطَلَقَ
سُلَيْمَانُ يَطُوفُ إِذْ تُصُدِّقَ عَلَيْهِ بِتِلْكَ السَّمَكَةِ , فَاشْتَرَاهَا
فَأَكَلَهَا , فَإِذَا فِيهَا خَاتَمُهُ فَرَجَعَ إِلَيْهِ مُلْكُهُ .

أقول : ظاهر هذا أن ابن عباس لم يتعلم من كعب إلا هذه الأمور الأربعة ،
وأما بقية الآيات فكان عنده علمٌ من قبل كعب الأحبار فتنبه لهذا فإنه مهم ، ولم يذكر
الآيتين الباقتين

وقد جاءت في خبر عكرمة

قال ابن أبي شيبة في المصنف 35253- حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ ،
عَنْ زَائِدَةَ ، عَنْ مَيْسَرَةَ الأَشْجَعِيِّ ، عَنْ عِكْرِمَةَ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
، قَالَ : سَأَلْتُ كَعْبًا : مَا سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى ؟

 فَقَالَ : سِدْرَةٌ يَنْتَهِي
إِلَيْهَا عِلْمُ الْمَلاَئِكَةِ ، وَعِنْدَهَا يَجِدُونَ أَمْرَ اللهِ لاَ يُجَاوِزُهَا
عِلْمُهُمْ

 وَسَأَلْتُهُ عَنْ جَنَّةِ الْمَأْوَى
؟ فَقَالَ : جَنَّةٌ فِيهَا طَيْرٌ خُضْرٌ ، تَرْتَقِي فِيهَا أَرْوَاحُ الشُّهَدَاءِ.

وقال أيضاً  32544: حَدَّثَنَا
حُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ ، عَنْ زَائِدَةَ ، عَنْ مَيْسَرَةَ الأَشْجَعِيِّ ، عَنْ عِكْرِمَةَ
، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : سَأَلْتُ كَعْبًا عَنْ رَفْعِ إدْرِيسَ مَكَانًا عَلِيًّا
؟ وذكر خبراً

فهذا يدل على أن بقية القرآن كله علمه ابن عباس من الصحابة من أمثال عمر
بن الخطاب الذي ذكر كما في صحيح البخاري أنه أخبره بشأن المرأتين اللتين تظاهرتا ،
وأبي بن كعب الذي روى عنه قصة موسى والخضر في الصحيح ، وزيد بن ثابت الذي تتلمذ عليه
طويلاً وغيرهم من الصحابة

فإذا تأرجح بين كونه مأخوذاً عن كعب أو غيره ، كان الأصل أنه أخذه من غيره
من الصحابة لأن هذا هو الأكثر الغالب ، وإذا كان متعلقاً بأمر القرآن فالمتعين أنه
أخذه عن النبي صلى الله عليه وسلم أو الصحابة لأن مسائله عن كعب عدها لك عداً

فلو قال عصام :” لعله من الإسرائليات ” لكان أليق ، وأما هذا
الجزم فلا وجه

 وهذه لوثة تجدها عند كثير المعلقين
على الكتب يأتي للأخبار الغيبية التي لا تروقه ، فيجزم مباشرةً بأنها إسرائيلية ولو
كان المتكلم بالخبر من أكابر الصحابة وأفقههم ، وهذا تجده كثيراً في تعليقات عبد الرزاق
المهدي على تفسير القرطبي ، وهي تضاهي في الوقاحة تعليقات عصام موسى هادي ، وتزيد عليها

وابن عباس كان من أشد الناس احترازاً من أباطيل أهل الكتاب

قال البخاري في صحيحه 7363 – حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا
إِبْرَاهِيمُ أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ

 كَيْفَ تَسْأَلُونَ أَهْلَ الْكِتَابِ
عَنْ شَيْءٍ وَكِتَابُكُمْ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْدَثُ تَقْرَءُونَهُ مَحْضًا لَمْ يُشَبْ

 وَقَدْ حَدَّثَكُمْ أَنَّ أَهْلَ
الْكِتَابِ بَدَّلُوا كِتَابَ اللَّهِ وَغَيَّرُوهُ وَكَتَبُوا بِأَيْدِيهِمْ الْكِتَابَ
وَقَالُوا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا

أَلَا يَنْهَاكُمْ مَا جَاءَكُمْ مِنْ الْعِلْمِ عَنْ مَسْأَلَتِهِمْ لَا
وَاللَّهِ مَا رَأَيْنَا مِنْهُمْ رَجُلًا يَسْأَلُكُمْ عَنْ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْكُمْ

فيقال كيف يسأل كعباً بعد هذا ؟

فالجواب : أنه يتحدث عن أهل الكتاب الذين بقوا على كفرهم ، وأما كعب فقد
أسلم وعرف صدقه وأمانته ، ومع ذلك كان رواياته خاضعة لنقد الصحابة ، فلا تظن أنهم يحدثون
عنه بشيء قد علموا بطلانه ، أو لا يجزمون بصحته ، وسؤال ابن عباس لا تقريراً بالضرورة

وأما الجزم ببطلانها فالكلام عليه من وجوه كثيرة

أولها : أننا لو سلمنا أنها إسرائيلية فلا يجوز الجزم بكذب الإسرائيلية
إلا بدليل وإلا فالأصل أنك لا تصدق ولا تكذب

قال البخاري في صحيحه 4485 : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا
عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي
كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ :

 كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يَقْرَءُونَ
التَّوْرَاةَ بِالْعِبْرَانِيَّةِ وَيُفَسِّرُونَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تُصَدِّقُوا أَهْلَ
الْكِتَابِ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ وَقُولُوا { آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا
} الْآيَةَ

فالجزم ببطلان الإسرائيلية مخالفٌ لهذا الحديث لأنه تكذيب ، والخبر الوارد الذي فيه ذكر كعب للحوت إسناده منقطع بين سعيد بن أبي هلال وكعب ومن زعم أنه جيد فلم يعِ الأمر على وجهه

ثانيها : أننا لو سلمنا أنها إسرائيلية فرواية ابن عباس لها ، على وجه
التقرير يدل على أنه لا يعتقد بطلانها ، ولا شك أنه أعلم من كل المتأخرين

قال البخاري 3756 : حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ
عَنْ خَالِدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ ضَمَّنِي النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى صَدْرِهِ وَقَالَ اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْحِكْمَةَ
حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ وَقَالَ عَلِّمْهُ الْكِتَابَ
حَدَّثَنَا مُوسَى حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ خَالِدٍ مِثْلَهُ وَالْحِكْمَةُ الْإِصَابَةُ
فِي غَيْرِ النُّبُوَّةِ

أفيصح بعد هذا الدعاء النبوي ، أن يجزم ببطلان خبرٍ يذكره على وجه التقرير
، وخصوصاً وأن الصحابة حوله والتابعون ولا أحد منهم ينكر عليه ، وقد حصلت بينهم منازعات
معلومة في أمور الأحكام كما هو معلوم في مسألة متعة الحج ، ومتعة النساء ، وربا الفضل
وغيرها من المسائل ، فهل يخالفونه في أمور الأحكام ويتركونه يتكلم في الغيبيات بالأباطيل

وقد كان رضي الله عنه على درجة عظيمة من الورع

قال أبو عبيد في فضائل القرآن 689 : حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ، عن أيوب
، عن ابن أبي مليكة ، قال : سأل رجل ابن عباس عن يوم كان مقداره ألف سنة ؟

 فقال ابن عباس : فما يوم كان مقداره
خمسين ألف سنة ؟ قال الرجل : إنما سألتك لتحدثني .

 فقال ابن عباس :   هما يومان
ذكرهما الله في كتابه ، الله أعلم بهما   . فكره أن يقول في كتاب الله ما لا يعلم

وقال أيضاً في فضائل القرآن 690 – حدثنا محمد بن جعفر ، عن شعبة ، عن عمرو
بن مرة ، قال : قال رجل لسعيد بن جبير : أما رأيت ابن عباس حين سئل عن هذه الآية والمحصنات
من النساء إلا ما ملكت أيمانكم فلم يقل فيها شيئا ، فقال سعيد : كان لا يعلمها

أقول : وهذا التفسير ، وهو علمه الذي لا يدانى فيه ، فكيف بالغيبيات

وهنا إشكال معضل ، وهو أن أثر ابن عباس ( الكرسي موضع القدمين ) ، الذي
يذكر في كتب العقيدة بهذا المنهج الذي يسير عليه عصام وغيره يمكن دفعه بأنه قد يكون
إسرائيلية

ثالثها : أننا لو نسبنا إلى عالم معاصر أنه قرأ في كتب أهل الكتاب ، ثم
صار يحدث الناس بها على وجه التقرير دون أن يخبرهم أن هذا عن أهل الكتاب ، أفلا يكون
ذلك سبةً في ذلك العالم المعاصر ؟

 فيجب أن يكون أدبنا مع الصحابة
أعظم بكثير من الأدب مع المعاصرين ، والأمر اليوم معكوس والله المستعان ، فما أصعب
أن تقول ( أخطأ العالم الفلاني ) ، وما أيسر أن تقول ( هذا أخذه الصحابي من أهل الكتاب
وهو باطل )!

فكيف ننسب للصحابة ما ننزه عنه علماءنا المعاصرين والله المستعان ، وليس
الأستاذ عصام وحده من يقع في هذا الأمر بل هي لوثة عند كثيرٍ من المعاصرين إذا لم يرق
له متن ، بادر مباشرةً إلى إلصاق ذلك ببني إسرائيل ، ثم يهجم عليه بالإنكار والتسفيه

 وهذه عقلانية فجة فالأصل في أمور
الغيب التوقيف فإن لم تؤمن بهذا الأثر فاسكت وتوقف لا تجزم بالبطلان ، فإن الجزم بالبطلان
أسوأ من الجزم بأن الخبر إسرائيلية ، مع سعة علم ابن عباس

وقد أحسن  محمد بازمول حين قال في شرحه على مقدمة التفسير ص65:”
وَمَا نُقِلَ فِي ذَلِكَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ نَقْلًا صَحِيحًا فَالنَّفْسُ إلَيْهِ
أَسْكَنُ مِمَّا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ؛

لِأَنَّ احْتِمَالَ أَنْ يَكُونَ سَمِعَهُ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه
وسلم أَوْ مِنْ بَعْضِ مَنْ سَمِعَهُ مِنْهُ أَقْوَى.

وَلِأَنَّ نَقْلَ الصَّحَابَةِ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَقَلُّ مِنْ نَقْلِ
التَّابِعِينَ.

وَمَعَ جَزْمِ الصَّاحِبِ فِيمَا يَقُولُهُ فَكَيْفَ يُقَالُ إنَّهُ أَخَذَهُ
عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَقَدْ نُهُوا عَنْ تَصْدِيقِهِمْ؟”

ثم علق في الحاشية بقوله :” لدى بعض الناس جرأة غريبة، إذا ما جاء
نص عن الصحابي، في قضية مما لا يجدها في القرآن العظيم والسنة النبوية، فإنه يهجم على
القول بأنها مما تلقاه ذلك الصحابي عن بني إسرائيل!

والحقيقة أن الأمر يحتاج إلى وقفة متأنية؛ فأقول: لا شك أن الصحابي الذي
جاء في كلامه ما هو من قبيل كشف المبهم، لن يورد شيئاً عن أهل الكتاب يخالف ما في شرعنا،
نجزم بذلك. إذا ما أورده الصحابي – على فرض أنه مما تلقاه عن أهل الكتاب – إمّا أن
يكون مما يوافق شرعنا، وإما أن يكون مما لا يوافق و لا يخالف، ويدخل تحت عموم قوله
– صلى الله عليه وسلم -: “حدثوا عن بني إسرائيل ولاحرج” [أحمد وأبو داود]،
“وإذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم و لا تكذبوهم” [أحمد وأبو داود].

فالجرأة على رد ما جاء عن الصحابي بدعوى أنه من أخبار أهل الكتاب، لا يناسب
علمهم وفضلهم رضي الله عنه، ويوضح هذا: أن الصحابي إذا جزم بشيء من هذه الأمور في تفسير
آية فإنه يغلب على الظن أنه مما تلقاه عن الرسول – صلى الله عليه وسلم -، أو مما قام
على ثبوته الدليل، وإلا كيف يجزم به في تفسير الآية، وهو يعلم أن غاية هذا الخبر أنه
مما لا نصدقه أو نكذبه؟!

من ذلك ما جاء عن ابن عباس – رضي الله عنهما – أنه قال: (فُصِل القرآن
الكريم من اللوح المحفوظ وأُنزِل في بيت العزة في السماء الدنيا، ثم نَزَل على محمد
صلى الله عليه وسلم مُنَجَّمَاً في ثلاث وعشرين سنة) [الطبراني في الكبير: (12243)،والحاكم
في المستدرك: (2932)،والبزارفي مسنده: (210/ 2)].

رأيتُ بعض المتأخرين يجزم بأن هذا من الإسرائيليات، وبأن هذا مما تلقاه
ابن عباس عنهم، مع أن هناك قرائن في نفس الخبر تمنع هذا؛ منها:

أولاً: جَزْم ابن عباس به.

ثانياً: لا علاقة له بالتوراة والإنجيل لأنه يتكلم عن القرآن.

ثالثاً: هو يتكلم عن نزول القرآن على الرسول صلى الله عليه وسلم.

رابعاً: لا مخالف لابن عباس في هذا.

فهذا مما يجعل سند ابن عباس هذا – وإن كان موقوفاً سنداً – فهو مرفوع حكماً
ومعنى، يعني أن له حكم الرفع.

وجاء عن ابن عباس نفسه أنه كان ينهى عن الأخذ عن أهل الكتاب، كما روى البخاري
في صحيحه، فكيف نقول: إن هذا من الإسرائيليات”

وهذا كلامٌ في غاية في التحرير جزى الله الشيخ خيراً عليه

 ولهذا تجد أن السلف أوردوا مثل
هذه الآثار في كتب العقيدة ، والشيخ محمد يركز في كلامه على التفسير لأنه يشرح مقدمةً
في التفسير ، وإلا فمن باب أولى أن يقال أنه لا يليق بالصحابة أنهم يتكلمون في أمور
العقيدة بأباطيل الإسرائيليات

وحتى التابعون لا ينبغي التسرع والجزم بأنهم أخذوا هذا عن بني إسرائيل
، وإن كان قدر الصحابة أجل والخطب فيهم أعظم

 ولكن لا شك أن أئمة التابعين يتحرون
في أمر التفسير والغيبيات ولا يجزمون بما يرون بطلان متنه خصوصاً إذا تتابعوا على تفسير
معين ، أو قال أحدهم تفسيراً ولم يستنكره أحدٌ من السلف على شهرته بين الناس

 فمثل هذا لا يصلح أن يأتي متأخر
ويقول هذا متن باطل

وقد قال الذهبي في الميزان :” وقال أبو بكر بن عياش: قلت للاعمش:
ما بال تفسير مجاهد مخالف – أو شئ نحوه ؟ قال: أخذها من أهل الكتاب”

ثم قال :” ومن أنكر ما جاء عن مجاهد في التفسير في قوله: عسى أن يبعثك
ربك مقاما محمودا – قال: يجلسه معه على العرش”

أقول : وكلام الذهبي غير مسلمٍ أبداً ، فالأثر الذي أورده عن أبي بكر بن
عياش لم أقف له على إسناد ، وفي متنه غرابة وذلك لأمور

أولها : عامة ما يأخذه الناس عن أهل الكتاب أخبار الأنبياء لذا تجد عامة
أسئلة ابن عباس لكعب الأحبار عن أخبار الأنبياء ، ومجاهد لا يعرف عنه ما يستنكر في
هذا الباب عند أئمة السلف

وأكثر ما خولف فيه تفسيره لقوله تعالى ( وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة
) ، والبحث فيها لغوي لا علاقة له بأخبار أهل الكتاب

ثانيها : أن مجاهداً لازم ابن عباس وأخذ عنه التفسير فمثله مستغنٍ عن أهل
الكتاب

قال ابن أبي شيبة في المصنف 30917- حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ
، عَن شِبْلٍ ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ ، عَن مُجَاهِدٍ ، قَالَ : عَرَضْت الْقُرْآنَ
عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ ثَلاثَ عَرْضَاتٍ.

وقال الطبري في تفسيره 109- وحدثني عبيد الله بن يوسف الجُبَيْريّ، عن
أبي بكر الحنفي، قال: سمعت سفيان الثوري يقول: إذا جاءك التفسير عن مجاهدٍ فحسبُكَ
به.

ولو كان معروفاً بالأخذ عن أهل الكتاب لما قال فيه سفيان هذه الكلمة ،
وهو إمام نقاد

وأما ما قاله من استنكاره لتفسير مجاهد للمقام المحمود فإمام المفسرين
ابن جرير الطبري يقول أن تفسير مجاهد لهذه الآية غير مدفوع الصحة فكيف يجزم الذهبي
بنكارته

قال الطبري في تفسيره (15/51) :” لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الرِّوَايَةِ
عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ وَالتَّابِعِينَ،
فَإِنَّ مَا قَالَهُ مُجَاهِدٌ مِنْ أَنَّ اللَّهَ يُقْعِدُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عَرْشِهِ، قَوْلٌ غَيْرُ مَدْفُوعٍ صِحَّتُهُ، لَا مِنْ جِهَةِ
خَبَرٍ وَلَا نَظَرٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا خَبَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَلَا عَنِ التَّابِعِينَ
بِإِحَالَةِ ذَلِكَ”

حتى قال الطبري :” فَقَدْ تَبَيَّنَ إِذًا بِمَا قُلْنَا أَنَّهُ
غَيْرُ مُحَالٍ فِي قَوْلِ أَحَدٍ مِمَّنْ يَنْتَحِلُ الْإِسْلَامَ مَا قَالَهُ مُجَاهِدٌ
مِنْ أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يُقْعِدُ مُحَمَّدًا عَلَى عَرْشِهِ”

أقول : فسواءً أخذت بقول مجاهد أو لم تأخذ فالجزم بنكارته مردود ، وخصوصاً
أن جمعاً من المحدثين نقلوا تلقي الخبر بالقبول عن جماهير الأئمة ( بل نقل الإجماع عليه أكثر من عشرين نفساً )

قال الخلال في السنة 254: وَسَمِعْتُ أَبَا بَكْرِ بْنَ صَدَقَةَ , يَقُولُ
: قَالَ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ يَوْمًا , وَذَكَرَ حَدِيثَ لَيْثٍ عَنْ مُجَاهِدٍ

 فَجَعَلَ يَقُولُ : هَذَا حَدَّثَ
بِهِ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي الْمَجْلِسِ عَلَى رُؤُوسِ النَّاسِ فَكَمْ
تَرَى كَانَ فِي الْمَجْلِسِ , عِشْرِينَ أَلْفًا

 فَتَرَى لَوْ أَنَّ إِنْسَانًا
قَامَ إِلَى عُثْمَانَ , فَقَالَ : لاَ تُحَدِّثْ بِهَذَا الْحَدِيثِ , أَوْ أَظْهَرَ
إِنْكَارَهُ , تَرَاهُ كَانَ يَخْرُجُ مِنْ ثَمَّ إِلاَّ وَقَدْ قُتِلَ

 قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ صَدَقَةَ
, وَصَدَقَ , مَا حُكْمُهُ عِنْدِي إِلاَّ الْقَتْلُ.

وقال أيضاً 244: وَأَخْبَرَنَا أَبُو دَاوُدَ السِّجِسْتَانِيُّ , قَالَ
: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى الرَّازِيُّ , قَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ
بْنُ فُضَيْلٍ , عَنْ لَيْثٍ , عَنْ مُجَاهِدٍ , فِي قَوْلِهِ : {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ
رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} قَالَ : يُجْلِسُهُ عَلَى عَرْشِهِ , وَسَمِعْتُ أَبَا
دَاوُدَ يَقُولُ : مَنْ أَنْكَرَ هَذَا فَهُوَ عِنْدَنَا مُتَّهَمٌ

 وَقَالَ : مَا زَالَ النَّاسُ
يُحَدِّثُونَ بِهَذَا , يُرِيدُونَ مُغَايَظَةَ الْجَهْمِيَّةِ , وَذَلِكَ أَنَّ الْجَهْمِيَّةَ
يُنْكِرُونَ أَنَّ عَلَى الْعَرْشِ شَيْء.

وقال أيضاً 271: وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ السِّجِسْتَانِيُّ : أَرَى أَنْ
يُجَانَبَ كُلُّ مَنْ رَدَّ حَدِيثَ لَيْثٍ , عَنْ مُجَاهِدٍ : يُقْعِدُهُ عَلَى الْعَرْشِ
, وَيُحَذَّرُ عَنْهُ , حَتَّى يُرَاجِعَ الْحَقَّ , مَا ظَنَنْتُ أَنَّ أَحَدًا يُذَكِّرُ
بِالسُّنَّةِ يَتَكَلَّمُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ إِلاَّ إِنَّا عَلِمْنَا أَنَّ الْجَهْمِيَّةَ
تُنْكِرُهُ مِنْ جِهَةِ إِثْبَاتِ الْعَرْشِ

وقال أيضاً 267: وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ إِسْحَاقَ الصَّاغَانِيُّ
: لاَ أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مِمَّنْ تَقَدَّمَ , وَلاَ فِي عَصْرِنَا
هَذَا إِلاَّ وَهُوَ مُنْكِرٌ لِمَا أَحْدَثَ التِّرْمِذِيُّ مِنْ رَدِّ حَدِيثِ مُحَمَّدِ
بْنِ فُضَيْلٍ , عَنْ لَيْثٍ , عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ
رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} قَالَ : يُقْعِدُهُ عَلَى الْعَرْشِ

وقال أيضاً 282: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ , قَالَ : كَتَبَ إِلَيَّ أَبُو
جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ فِي ذَلِكَ : حَدَّثَنَا أَبِي
وَعَمِّي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ , وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ
, وَوَاصِلُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى , وَعُبَيْدُ بْنُ يَعِيشَ , وَجَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ
الْحَدَّادُ , وَيَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ , وَضِرَارُ بْنُ صُرَدَ , قَالُوا
: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ , عَنْ لَيْثٍ , عَنْ مُجَاهِدٍ , {عَسَى أَنْ
يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} قَالَ : يُجْلِسُهُ عَلَى الْعَرْشِ . إِلاَّ
أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ قَالَ : يُجْلِسُهُ مَعَهُ عَلَى
الْعَرْشِ . قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ : وَبَلَغَنِي عَنْ بَعْضِ الْجُهَّالِ
دَفْعُ الْحَدِيثِ بَقِلَّةِ مَعْرِفَتِهِ فِي رَدِّهِ مِمَّا أَجَازَهُ الْعُلَمَاءُ
مِمَّنْ قَبْلَهُ مِمَّنْ ذَكَرْنَا , وَلاَ أَعْلَمُ أَحَدًا مِمَّنْ ذَكَرْتُ عَنْهُ
هَذَا الْحَدِيثَ , إِلاَّ وَقَدْ سَلَّمَ الْحَدِيثَ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ الْخَبَرُ
, وَكَانُوا أَعْلَمَ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ وَسُنَّةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّنْ رَدَّ هَذَا الْحَدِيثَ مِنَ الْجُهَّالِ , وَزَعَمَ أَنَّ
الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ هُوَ الشَّفَاعَةُ لاَ مَقَامَ غَيْرُهُ

وقال الحكيم الترمذي في نوادر الأصول (6/144) :” فإن الأنبياء في
الموقف، لهم مراتب على نحو مقاومهم بقلوبهم في دار الدنيا، فمن كان أقرب منزلة بقلبه
في دار الدنيا، فهو أقرب منه مرتبة هناك، فالندي هم: السابقون المقربون الذين يبدأ
بهم، فسأل أن يكون في أعلاهم مرتبة أقربهم إليه، فكان هذا دعاؤه حتى بشر بالمقام المحمود،
وهو أقرب المقام، ولذلك قال مجاهد في قوله تعالى: {عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً}،
قال: يجلسه على عرشه”

ولم يؤخذ على الحكيم شيء في باب الصفات

وقال ابن أبي يعلى في طبقات الحنابلة (2/10) :” قَالَ النَّجَّادُ:
وَحَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ الْمُثَنَّي حَدَّثَنَا خَلادُ بْنُ أَسْلَمَ قَالَ حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ فَضْلٍ عَنْ لَيْثٍ عَنْ مُجَاهِدٍ كُلُّهُمْ قَالَ فِي قَوْلِ اللَّهِ
عَزَّ وَجَلَّ ” عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مقاماً محموداً ” قَالَ:
” يُجْلِسُهُ مَعَهُ عَلَى الْعَرْشِ “.

قَالَ النجاد: وسألت أبا يحيي الناقد ويعقوب المطوعي وعبد اللَّه بْن أَحْمَد
بْن حنبل وجماعة من شيوخنا فحدثوني بحديث مُحَمَّد بْن فضيل عن ليث عن مجاهد وسألت
أبا الحسن العطار عن ذَلِكَ؟ فحدثني بحديث مجاهد ثُمَّ قَالَ: سمعت مُحَمَّد بْن مصعب
العابد يقول هَذَا حتى ترى الخلائق منزلته – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – عند
ربه تبارك وتعالى وكرامته لديه ثُمَّ ينصرف محمد – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
– إلى غرفه وجناته وأزواجه ثُمَّ ينفرد عز وجل بربوبيته.

قَالَ النجاد: ثُمَّ نظرت فِي كتاب أَحْمَد بْن الحجاج المروزي وهو إمامنا
وقدوتنا والحجة لنا فِي ذَلِكَ فوجدت فِيهِ ما قد ذكره من رد حديث عبد اللَّه بْن سلام
ومجاهد وذكر أسماء الشيوخ الَّذِينَ أنكروا عَلَى من رد ذَلِكَ أو عارضه.

قَالَ النجاد: فالذي ندين اللَّه تعالى به ونعتقده: ما قد رسمناه وبيناه
من معاني الأحاديث المسندة عن رسول اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ –
وما قاله عبد اللَّه بْن العباس ومن بعده من أهل العلم وأخذوا به كابرا عن كابر وجيلا
عن جيل إلى وقت شيوخنا فِي تفسير قوله تعالى عسى أن يبعثك مقاماً محموداً أن المقام
المحمود: هُوَ قعوده – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – مَعَ ربه عَلَى العرش وَكَانَ
من جحد ذَلِكَ وتكلم فِيهِ بالمعارضة: إنما يريد بكلامه فِي ذَلِكَ: كلام الجهمية يجانب
ويباين ويحذر عَنْهُ وكذلك أَخْبَرَنِي أَبُو بكر الكاتب عن أَبِي داود السجستاني أنه
قَالَ: من رد حديث مجاهد فهو جهمي.

وَحَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن صهيب وجماعة من شيوخنا عن مُحَمَّد بْن عبد
الملك الدقيقي قَالَ: سمعت هَذَا الحديث منذ خمسين سنة ما سمعت أحدا ينكره”

وقال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (4/374) :” إذَا تَبَيَّنَ
هَذَا فَقَدْ حَدَثَ الْعُلَمَاءُ الْمَرْضِيُّونَ وَأَوْلِيَاؤُهُ الْمَقْبُولُونَ
: أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُجْلِسُهُ
رَبُّهُ عَلَى الْعَرْشِ مَعَهُ . رَوَى ذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ فَضِيلٍ عَنْ لَيْثٍ
عَنْ مُجَاهِدٍ ؛ فِي تَفْسِيرِ : { عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا
} وَذَكَرَ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ أُخْرَى مَرْفُوعَةٍ وَغَيْرِ مَرْفُوعَةٍ قَالَ ابْنُ
جَرِيرٍ : وَهَذَا لَيْسَ مُنَاقِضًا لِمَا اسْتَفَاضَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ مِنْ أَنَّ
الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ هُوَ الشَّفَاعَةُ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ مِنْ جَمِيعِ
مَنْ يَنْتَحِلُ الْإِسْلَامَ وَيَدَّعِيه لَا يَقُولُ إنَّ إجْلَاسَهُ عَلَى الْعَرْشِ
مُنْكَر- وَإِنَّمَا أَنْكَرَهُ بَعْضُ الْجَهْمِيَّة وَلَا ذَكَرَهُ فِي تَفْسِيرِ
الْآيَةِ مُنْكَرٌ”

وليس المراد ها هنا تحرير المسألة وبيان الراجح في المقام المحمود، ففي
الصحيح أنه الشفاعة ويمكن الجمع بينه وبين الوارد عن مجاهد وتلقاه عامة أهل الحديث
بالقبول ، وإنما المراد بيان أن هذا التفسير غير مستنكر عند العلماء بل على العكس ، فعامتهم استنكروا مخالفته فكيف يعتبر الذهبي ذلك من أنكر ما روي عن مجاهد في التفسير

وهو نفسه القائل في كتاب العلو ص194 :” قد ذكرنَا احتفال الإِمَام
أبي بكر الْمَرْوذِيّ فِي هَذَا الْعَصْر لقَوْل مُجَاهِد أَن الله تَعَالَى يقْعد
مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الْعَرْش

وَغَضب الْعلمَاء لإنكار هَذِه المنقبة الْعَظِيمَة الَّتِي انْفَرد بهَا
سيد الْبشر وَيبعد أَن يَقُول مُجَاهِد ذَلِك إِلَّا بتوقيف فَإِنَّهُ قَالَ قَرَأت
الْقُرْآن من أَوله إِلَى آخِره ثَلَاث مَرَّات على ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا
أقفه عِنْد كل آيَة أسأله فمجاهد أجل الْمُفَسّرين فِي زَمَانه وَأجل المقرئين تَلا
عَلَيْهِ ابْن كثير وَأَبُو عَمْرو وَابْن مُحَيْصِن

فَمِمَّنْ قَالَ أَن خبر مُجَاهِد يسلم لَهُ وَلَا يُعَارض عَبَّاس بن
مُحَمَّد الدوري الْحَافِظ وَيحيى بن أبي طَالب الْمُحدث وَمُحَمّد بن إِسْمَاعِيل
السّلمِيّ التِّرْمِذِيّ الْحَافِظ وَأَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بن عبد الْملك الدقيقي
وَأَبُو دَاوُد سُلَيْمَان بن الْأَشْعَث السجسْتانِي صَاحب السّنَن وَإِمَام وقته
إِبْرَاهِيم بن إِسْحَاق الْحَرْبِيّ والحافظ أَبُو قلَابَة عبد الْملك بن مُحَمَّد
الرقاشِي وحمدان بن عَليّ الْوراق الْحَافِظ وَخلق سواهُم من عُلَمَاء السّنة مِمَّن
أعرفهم وَمِمَّنْ لَا أعرفهم وَلَكِن ثَبت فِي الصِّحَاح أَن الْمقَام الْمَحْمُود
هُوَ الشَّفَاعَة الْعَامَّة الْخَاصَّة بنبينا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم”

وقريب من قول الذهبي في الميزان قول ابن عبد البر في التمهيد (7/157)
:” وليس من العلماء أحد إلا وهو يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه
وسلم ومجاهد وإن كان أحد المقدمين في العلم بتأويل القرآن فإن له قولين في تأويل اثنين
هما مهجوران عند العلماء مرغوب عنهما أحدهما هذا والآخر قوله في قول الله عز وجل {عَسَى
أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً}”

قد تبين لك أن العلماء لم يهجروا قول مجاهد هذا بل قال به جماعةٌ منهم
، ومعارضة ابن عبد البر لخبر الشفاعة بخبر مجاهد يرد عليه ما قاله ابن حجر في الفتح
(2/ 416) :

” قَالَ اِبْن الْجَوْزِيّ : وَالْأَكْثَر عَلَى أَنَّ الْمُرَاد
بِالْمَقَامِ الْمَحْمُود الشَّفَاعَة ، وَقِيلَ إِجْلَاسه عَلَى الْعَرْش ، وَقِيلَ
عَلَى الْكُرْسِيّ ، وَحَكَى كُلًّا مِنْ الْقَوْلَيْنِ عَنْ جَمَاعَة ، وَعَلَى تَقْدِير
الصِّحَّة لَا يُنَافِي الْأَوَّل لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُون الْإِجْلَاس عَلَامَة الْإِذْن
فِي الشَّفَاعَة ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُون الْمُرَاد بِالْمَقَامِ الْمَحْمُود الشَّفَاعَة
كَمَا هُوَ مَشْهُور وَأَنْ يَكُون الْإِجْلَاس هِيَ الْمَنْزِلَة الْمُعَبَّرُ عَنْهَا
بِالْوَسِيلَةِ أَوْ الْفَضِيلَة”

وقال الذهبي في العرش (1/133) وهو يتحدث عن حديث الجلوس :” فإذا كان
هؤلاء الأئمة: أبو إسحاق السبيعي، والثوري، والأعمش، وإسرائيل، وعبد الرحمن بن مهدي،
وأبو أحمد الزبيري، ووكيع، وأحمد بن حنبل، وغيرهم ممن يطول ذكرهم وعددهم الذين هم سُرُج
الهدى ومصابيح الدجى قد تلقوا هذا الحديث بالقبول وحدثوا به، ولم ينكروه، ولم يطعنوا
في إسناده، فمن نحن حتى ننكره ونتحذلق عليهم؟

 بل نؤمن به ونكل علمه إلى الله
عز وجل.

قال الإمام أحمد: لا نزيل عن ربنا صفة من صفاته لشناعة شنِّعت وإن نَبَت
عن الأسماع”

أقول : فليته  استحضر هذا المعنى
لما كتب ما كتب عن مجاهد في الميزان

وهنا لطيفة وهي أن شيخ الطريقة الدرقاوية الشاذلية عبد العزيز الغماري
قال في مقال له في الرد على الشيخ أبي بكر الجزائري في الكمالات المحمدية :”فات
السيد محمد علوي أن يذكر الكرامة الكبرى ، والخصوصية المحمدية العظمى التي لم ينلها
مخلوق لا نبي مرسل ولا ملك مقرب وهو ما ورد عن الصحابة والتابعين في قوله تعالى 🙁
عسى أن يبعثك ربك مقام محمودا ) أنه يجلسه أو يقعده على العرش .

وقد ورد مثل هذا عن ابن مسعود مرفوعا ولكن في سنده انقطاع . أما عن التابعين
فورد عنهم من طرق كما يعلم ذلك من خلال اطلاع ومعرفة .

بل قال عبد الله بن سلام رضي الله تعالى عنه : إذ كان يوم القيامة جيء
بنبيكم صلى الله عليه وآله سلم فأقعد بين يدي الله تعالى عل كرسيه . قال الذي روى الحديث
عن سعيد الجريري قلت له : إذا كان على كرسيه أليس هو معه ؟ قال : ويلكم هذا أقر حديث
في الدنيا لعيني .

وانظـر كيـف جعـل الجريـري هذا الحـديث أقـر حديث في الدنيـا لعينه .

وهكذا كان حال السلف الأبرار في كل ما يسمعونه من خصائص النبي صلى الله
عليه آله وسلم ، لا يردونها بعقلهم ولا يلمسون لها المهرب ، بل يؤمنون بها ولو كان
ظاهرها غير مراد لأن مقام نبينا صلوات الله عليه وآله فوق ذلك وأعلى من كل ما يسمعه
السامع ، ويرويه الراوي فلا يسعنا مع ذلك إلا التسليم والإيمان بذلك وإلا كان الإنسان
بعيدا عن العلم الصحيح والعقل السليم .

ومسألة قعوده صلى الله عليه وآله وسلم على العرش ذكرها كثير من الحفاظ
الذين أجمعوا ما ورد في عقيدة السلف في كتبهم .ولم ـ يعترضوا عليها ويتعقبوها بشيء،
بل ذكروها في التفسير المأثور كابن جرير وغيره .

فهل يقال في هؤلاء السادة الأعلام من أئمة الهدى والسنة من الصحابة والتابعين
كفار ضالين مضلون يشركون بالله الواحد الأحد سبحانه وتعالى ـ بذكرهم هذه الخصوصية العظيمة
التي خص بها الله تعالى نبينا الشفيع المشفع ، وفضله على جميع من خلق في الأرض والسماء
؟ .

ومثل هذا لا يقال بالرأي ولا يدخله الفهم كما هو معلوم ، فلا يقال إلا
بتوقيف من الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم .

وقد ذكرت أن ذلك ورد مرفوعا أيضا وإن كان سنده فيه ضعف لكن هذه الموقوفات
تشهد له كما لا يخفى على طالب الحديث “

أقول : فما عسى أن يقول الجهمي السقاف والحميري ومحمود سعيد ممدوح في تجسيم
شيخهم الغماري !

والسقاف لما علق على كتاب العلو طعن في عقيدة الصحابي المبشر بالجنة عبد
الله بن سلام من أجل هذا الأثر الذي يحتفي به شيخه

ومحمد علوي المالكي لم يغفل عن هذا الأثر ، ولكن جهميته تمنعه من ذكره
، مع ذكره لما أوهى منه بكثير

وعوداً على مسألتنا ، أقول : قول من يقول أن هذا مأخوذ عن بني إسرائيل
ما يريد به

إن أراد الأخذ عن كفار أهل الكتاب مشافهةً ، فهذا نادر ولا يكاد يقع ،
خصوصاً في مكة عند عبيد بن عمير ومجاهد حيث يندر بل يكاد ينعدم وجود أهل الكتاب

وإن قيل : أراد الأخذ عمن أسلم من أهل الكتاب فهؤلاء على صنفين

الأول : الصحابة مثل سلمان الفارسي وعبد الله بن سلام وهؤلاء أوثق من ينقل
عن الكتب القديمة من البشر بعد الأنبياء ، وهما من كبار فقهاء الصحابة والصحابة حولهم
متوافرون فمثل هؤلاء آثارهم داخلةٌ في حيز القبول غير أن عامة المتكلمين في التفسير
من التابعين ، نقلهم عن هؤلاء نادر

الثاني : التابعون فأما كعب الأحبار فقد كان مخضرماً وعامة ما تكلم قاله
والصحابة حوله متوافرون ، فلو تكلم بباطل لصاح به الصحابة ، وعامة المتكلمين في التفسير
من مثل مجاهد والحسن وسعيد بن جبير وعكرمة ، لم يسمعوا كعباً وروايتهم عنه نادرة ،
وروايتهم عن الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وعن الصحابة أقوالهم أكثر بكثير

قال ابن القيم كما في مختصر الصواعق (3/ 1074) : ” وهب أن المعطل
يكذب كعباً ويرميه بالتجسيم ، فكيف حدث عنه هؤلاء الأعلام مثبتين له غير منكرين

وكلمة ابن القيم هنا جامعة ، فهي تقال من باب أولى فيما تكلم به الصحابي
من أمر الغيب ، أو رواه عن كعب مقراً له وهذا نادر

وأما أمثال وهب بن منبه فيبعد أخذ هؤلاء التابعين عنهم ، لأنهم من طبقة
واحدة

وإن قيل : المراد الأخذ عن كتب أهل الكتاب

فيقال : أن الذين يعرفون بهذا الأمر نصوا عليهم في تراجمهم مثل وهب بن
منبه وأبي الجلد ومالك بن دينار فلا ينسب ذلك لأحد إلا ببينة

قال الخطيب البغدادي في الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع 1498 – أنا
الحسن بن شهاب ، نا عبيد الله بن محمد بن حمدان ، قال : حدثني أبو بكر محمد بن أيوب
نا إسماعيل بن إسحاق الأزدي ، نا ابن أبي أويس ، قال : سمعت خالي مالك بن أنس وسأله
رجل عن زبور داود

 فقال له مالك :   ما أجهلك
ما أفرغك أما لنا في نافع عن ابن عمر عن نبينا ما شغلنا بصحيحه عما بيننا وبين داود
عليه السلام ؟  

هذا وإن كان في إسناده ابن أبي أويس إلى أن معناه صحيح ، ومتبادر للذهن

 وإذا كان مالك يروى عنه مثل هذا
فما عسانا نقول فيمن عرض المصحف على ابن عباس ثلاث مرات

 وأخذ عن غيره من الصحابة ، وما
عسانا نقول في غيره من كبار علماء التابعين

فإن قيل : أننا نرى في تفسير التابعين في الأمور الغيبية بعض الاختلاف

فيقال : هذا قد يكون راجعاً إلى وهم الرواة ، كما هو شأن في أحاديثهم في
مسائل الأحكام ، وليس من شرط وقوع الاختلاف أن يكون منشأ ذاك الأخذ عن بني إسرائيل،
وأثر الاسرائيليات في التفسير أضعف بكثير مما يصوره بعض الباحثين

والخلاصة أنه لا ينبغي التسرع في نسبة الأخبار إلى بني إسرائيل ، ولا ينبغي
التسرع في الحكم ببطلانها حتى لو ثبت أنها إسرائيلية

هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم