قال عبد الله السعد في شرحه على نواقض الإسلام ص20 :
” أن أهل الجاهلية قد دلت الأدلة من الكتاب والسنة وقد اتفق أهل
العلم على ذلك بأنهم مرتدين وأنهم من أهل النار .
أهل الجاهلية الذين سبقوا البعثة
، ووجه الاستدلال بذلك أن هؤلاء كانوا أهل جاهلية وأنهم جهال ، ومع ذلك الله عز وجل
قد حكم بكفرهم كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد حكم أيضا بكفرهم ، وأجمع على ذلك
أهل العلم .
وأما من أتى من المتأخرين فقال أن الناس الذين سبقوا البعثة أنهم من
أهل الفترة فهذا القول قول باطل وهو قول محدث ، وقد نقل الإجماع على خلافه .
وإنما قال بعض المتأخرين كالسبكي
أو بعض شيوخ السيوطي والسيوطي ومن أتى بعده هم الذين قالوا بهذا القول ، ولا شك أن
هذا القول باطل .
بل ذهبوا إلى أكثر من ذلك وهو
أن السيوطي قال : إن الله عز وجل قد أحيى والدي الرسول فآمنوا به . مع أن الرسول صلى
الله عليه وسلم أخبر أنهم من أهل النار .
فأقول إن أهل الجاهلية قد حكم
الله عز وجل بكفرهم وكانوا أهل جاهلية ، وكانوا مؤمنين بالله عز وجل ربا ، إلا أنهم
كانوا يشركون بالألوهية ،وذلك لأن الحجة قد قامت عليهم وهم في صلب أبيهم آدم كما قال
تعالى : ( وإذ أخذ ربكمن بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا
بلى شهدنا ) .
ولذلك في الحديث الصحيح أن الله عز وجل يقول في الحديث القدسي يقول
للمشرك : ( أردتمنك أهون من ذلك ، أردت منك ألا تشرك بي شيئا وأنت في صلب أبيك آدم
) فالله عز وجل خلق عباده حنفاء أي : مؤمنين به سبحانه وتعالى ، فمن أشرك به الشرك
الأكبر فهذا الحجة قائمة عليه وهو في صلب أبيه آدم فهو من أهل النار عافانا الله وإياكم
من ذلك , فهذا هو الحكم الأول”
هنا عبد الله السعد يرى أن الجاهلية محكومٌ عليهم بالنار ، وإن لم يبعث
إليهم رسول وإن كانوا من أهل الفترة المعذورين ، وهذا موافق لقول المعتزلة في أن الشرك قبيحٌ عقلاً فلا حاجة لإرسال الرسل
لاستحقاق الناس العذاب ، وأنهم سيعذبون وإن لم يرسل لهم الرسل ، وهذا القول يخالف ظاهر
القرآن
فالله عز وجل قال ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا )
وهذا يناقض قول عبد الله السعد أن المشركين سيدخلون النار بموجب الميثاق
المأخوذ عليهم وهم في ظهر آدم ، وإن لم يروا الرسول أو يسمعوه أو يبلغهم عنه الخبر
الثابت
قال الشنقيطي (2/143) :” فاعلم أن الوجه الآخر في معنى الآية
: أن الله أخرج جميع ذرية آدم من ظهور الآباء في صورة الذر ، وأشهدهم على أنفسهم بلسان
المقال : { أَلَسْت بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى } ثم أرسل بعد ذلك الرسل مذكرة بذلك الميثاق
الذي نسيه الكل ولم يولد أحد منهم وهو ذاكر له وإخبار الرسل به يحصل به اليقين بوجوده
.
قال مقيده – عفا الله عنه – هذا الوجه الأخير يدل له الكتاب والسنة
.
أما وجه دلالة القرآن عليه ، فهو أن مقتضى القول الأول أن ما أقام الله
لهم من البراهين القطعية كخلق السماوات والأرض ، وما فيهما من غرائب صنع الله . الدالة
على أنه الرب المعبود وحده ، وما ركز فيهم من القطرة التي فطرهم عليها تقوم عليهم به
الحجة ، ولو لم يأتيهم نذير والآيات القرآنية مصرحة بكثرة ، بأن الله تعالى لا يعذب
أحداً حتى يقيم عليه الحجة بإنذار الرسل ، وهو دليل على عدم الاكتفاء بما نصب من الأدلة
، وما ركز من الفطرة ، فمن ذلك قوله تعالى :{ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ
حتى نَبْعَثَ رَسُولاً } فإنه قال فيها : حتى نبعث رسولاً ، ولم يقل حتى نخلق عقولاً ، وننصب
أدلة ، ونركز فطرة .
ومن ذلك قوله تعالى : { رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى
الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرسل } الآية ، فصرح بأن الذي تقوم به الحجة على الناس ، وينقطع به عذرهم
: هو إنذار الرسل لا نصب الأدلة والخلق على الفطرة .
وهذه الحجة التي بعث الرسل لقطعها بينها في « طه » بقوله : { وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَاهُمْ
بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لولا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ
آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ ونخزى } ، وأشار لها في « القصص
» بقوله : { ولولا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُواْ
رَبَّنَا لولا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتِّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ
المؤمنين } ، ومن ذلك أنه تعالى صرح بأن جميع أهل النار قطع عذرهم في الدنيا بإنذار
الرسل ، ولم يكتف في ذلك بنصب الأدلة كقوله تعالى : { كُلَّمَا أُلْقِيَ
فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُواْ بلى قَدْ
جَآءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ الله مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ
إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ كَبِيرٍ } وقوله تعالى : { وَسِيقَ الذين كفروا
إلى جَهَنَّمَ زُمَراً حتى إِذَا جَآءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَآ
أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ
لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هذا قَالُواْ بلى ولكن حَقَّتْ كَلِمَةُ العذاب عَلَى الكافرين
} ومعلوم أن لفظة كلما في قوله : { كُلَّمَا أُلْقِيَ
فِيهَا فَوْجٌ } صيغة عموم ، وأن لفظة الذين في قوله : { وَسِيقَ الذين كفروا } صيغة عموم أيضاً ،
لأن الموصول يعم كلما تشمله صلته “
قال ابن القيم في مدارج السالكين (1/222) :” قد دل القرآن أنه
لا تلازم بين الأمرين وأنه لا يعاقب إلا بإرسال الرسل وأن الفعل نفسه حسن وقبيح ونحن
نبين دلالته على الأمرين:
أما الأول ففي قوله تعالى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا وفي قوله رسلا
مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وفي قوله كلما ألقي فيها فوج
سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من
شيء فلم يسألوهم عن مخالفتهم للعقل بل للنذر وبذلك دخلوا النار وقال تعالى يا معشر
الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليك آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا
على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين وفي الزمر ألم
يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا ثم قال في الأنعام
بعدها ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون وعلى أحد القولين وهو أن يكون
المعنى لم يهلكهم بظلمهم قبل إرسال الرسل فتكون الآية دالة على الأصلين أن أفعالهم
وشركهم ظلم قبيح قبل البعثة وأنه لا يعاقبهم عليه إلا بعد الإرسال وتكون هذه الآية
في دلالتها على الأمرين نظير الآية التي في القصص ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم
فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين فهذا يدل على أن
ما قدمت أيديهم سبب لنزول المصيبة بهم ولولا قبحه لم يكن سببا لكن امتنع إصابة المصيبة
لانتفاء شرطها وهو عدم مجيء الرسول إليهم فمذ جاء الرسول انعقد السبب ووجد الشرط فأصابهم
سيئات ما عملوا وعوقبوا بالأول والآخر “
وقال شيخ الإسلام في درء التعارض (4/ 332) :” وقوله تعالى : { وما كنا معذبين حتى
نبعث رسولا } حجة على الطائفتين وإن كان نفاة التحسين والتقبيح العقلي يحتجون بهذه
الآية على منازعيهم فهي حجة عليهم أيضا فإنهم يجوزون على الله أن يعذب من لا ذنب له
ومن لم يأته رسول ويجوزون تعذيب الأطفال والمجانين الذي لم يأتهم رسول بل يقولون :
إن عذابهم واقع
وهذه الآية حجة عليهم كما أنها حجة على من جعلهم معذبين بمجرد العقول
من غير إرسال رسول
والقرآن دل على ثبوت حسن وقبح قد يعلم بالعقول ويعلم أن هذا الفعل محمود
ومذموم ودل على أنه لا يعذب أحدا بعد إرسال رسول والله سبحانه أعلم”
وقال عبد الله بن أحمد في زوائد المسند 16301 : حَدَّثَنَا عَلِيُّ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ
قَتَادَةَ، عَنِ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ، عَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ سَرِيعٍ، أَنَّ نَبِيَّ
اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ” أَرْبَعَةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ:
رَجُلٌ أَصَمُّ لَا يَسْمَعُ شَيْئًا، وَرَجُلٌ أَحْمَقُ، وَرَجُلٌ هَرَمٌ، وَرَجُلٌ
مَاتَ فِي فَتْرَةٍ، فَأَمَّا الْأَصَمُّ فَيَقُولُ: رَبِّ، لَقَدْ جَاءَ الْإِسْلَامُ
وَمَا أَسْمَعُ شَيْئًا، وَأَمَّا الْأَحْمَقُ فَيَقُولُ: رَبِّ، لَقَدْ جَاءَ الْإِسْلَامُ
وَالصِّبْيَانُ يَحْذِفُونِي بِالْبَعْرِ، وَأَمَّا الْهَرَمُ فَيَقُولُ: رَبِّ، لَقَدْ
جَاءَ الْإِسْلَامُ وَمَا أَعْقِلُ شَيْئًا، وَأَمَّا الَّذِي مَاتَ فِي الْفَتْرَةِ
فَيَقُولُ: رَبِّ، مَا أَتَانِي لَكَ رَسُولٌ، فَيَأْخُذُ مَوَاثِيقَهُمْ لَيُطِيعُنَّهُ،
فَيُرْسِلُ إِلَيْهِمْ أَنْ ادْخُلُوا النَّارَ، قَالَ: فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ
بِيَدِهِ، لَوْ دَخَلُوهَا لَكَانَتْ عَلَيْهِمْ بَرْدًا وَسَلَامًا “
وهذا الحديث ضعفه عمرو عبد المنعم سليم في كتابه صون الشرع الحنيف
(2/ 179- 181) وتضعيفه يسلم من جهة السند غير أنه زعم أنه متنه مستنكر ! ، فالآخرة
دار حساب لا دار عمل
وهذا جهل منه فقد صح الخبر موقوفاً على أبي هريرة وله حكم الرفع
قال عبد الرزاق في تفسيره 1541 : عَنْ مَعْمَرٍ , عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ
, عَنْ أَبِيهِ , عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ , قَالَ: «إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ
جَمَعَ اللَّهُ أَهْلَ الْفَتْرَةِ وَالْمَعْتُوهَ , وَالْأَصَمَّ , وَالْأَبْكَمَ
, وَالشِّيُوخَ الَّذِينَ لَمْ يُدْرِكُوا الْإِسْلَامَ , ثُمَّ يُرْسِلُ رَسُولًا
إِلَيْهِمْ أَنْ يَدْخُلُوا النَّارَ.
قَالَ: ” فَيَقُولُونَ:
كَيْفَ وَلَمْ يَأْتِنَا رَسُولٌ؟ , قَالَ: وَايْمِ اللَّهِ لَوْ دَخَلُوهَا لَكَانَتْ عَلَيْهِمْ
بَرْدًا وَسَلَامًا , ثُمَّ يُرْسِلُ إِلَيْهِمْ فَيُطِيعُهُ مَنْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ
يُطِيعَهُ
قَالَ: ثُمَّ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ:
فَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}
وهذا الخبر يبطل مذهب السعد ، لأن هؤلاء داخلون في الميثاق الذي أخذ
على آدم ، ومع ذلك كان لهم الحجة بعدم ادراك الرسل ، وعلى مذهب السعد والمعتزلة لا
حجة لهم
ويبقى هنا أمر وهو أن ابن القيم نقل الإجماع في طريق الهجرتين على أهل الفترة لا يحكم بإسلامهم بل هم مشركون في الدنيا
ولا يلزم من إعذارهم في الآخرة إزالة اسم الشرك عنهم فكل من دان بدين غير الإسلام فهو كافر هكذا نعامله في الدنيا وكل من عبد غير الله فهو مشرك ولا يكون المشرك مسلماً البتة
وإطلاق القول بأن المشركين لا يشهد لهم بالنار غلط عظيم فقد شهد الصديق على أهل الردة بالنار والبحث هنا في المعذورين من أهل الفترة
هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم