المسألة الأولى : مسألة الحكم بغير ما أنزل الله
قال عبد الرحمن دمشقية في موسوعة أهل السنة (2/ 1275) :” لقد شهد
الله لمن لا يتحاكمون إلى شرعه أنهم غير مؤمنين فقال (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ
يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ
يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا
بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا ) ، فلم يقل ( ألم
ترَ إلى الذين آمنوا )
وأقسم بأنهم لا يكونون مؤمنين حتى يحكموا شرع الله فقال (فَلَا وَرَبِّكَ
لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا
فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا )
فالله يقسم بأنه لا إيمان لهم وينفي إيمان “
ثم قال :” وما من شك أن تحكيم غير دين الله عبادة لغير الله ،
إذ الطاعة من أنواع العبادة .
ولذلك اعتبرت طاعة الأحبار
والرهبان في معصية عبادة لهم . قال الله تعالى ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من
دون الله ) “
وقال في ( 2/1290) :” ومن كان لا يتحاكم إلى الله ، بل يتحاكم
إلى الطاغوت فليس مؤمناً “
أقول : هذا الكلام كلام الخوارج حذو القذة بالقذة
ليعلم القاريء أن الناس في هذه المسألة على قولين فريق يكفر بالتشريع العام ، وفريق يشترط الاستحلال أو الاستكبار حتى في حالة التشريع العام
وأما عبد الرحمن دمشقية فخالف الجميع ، وكفر بمسألة واحدة وجعل من حكم
بغير ما أنزل الله كمن عبد غير الله .
والتعليق على كلامه من وجوه
الأول : أنه قد دلت الأدلة الصحيحة الصريحة أن من حكم بغير ما أنزل
الله لا يكفر وعلى هذا أهل السنة ولم يخالف إلا الخوارج
1 – عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
[عليك السّمعُ والطّاعةُ في عُسْرِك، ويُسرِك، ومَنشطك ومَكرهك، وأثرةٍ عليكَ] رواه
مسلم.
قلت: ووجه الشاهد قوله: [وأثرة عليك] ويعني الاستئثار بأمور الدنيا
عنك , ولا يخفى بأن هذا الاستئثار من الوالي بالدنيا عن الرعية ليس من الحكم بما أنزل
الله ..
2 – عن حذيفة رضي الله عنه يرفعه: [يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي
ولا يستنون بسنتي، وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس , قال قلت:
كيف أصنع يا رسول الله إن أدركتُ ذلك؟ قال: تسمعُ وتطيع للأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك
فاسمع وأطع] رواه مسلم.
قلت: قوله: [لا يهتدون بهداي] صريحٌ في أنهم لا يحكمون الشريعة وهذا
يشمل التقنين وغيره.
3 – سأل سلمةُ بنُ يزيد الجُعفي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال
[يا نبي الله أرأيتَ إن قامت علينا أمراءُ يسألونا حقهم ويمنعونا حقنا فما تأمرنا؟
فأعرض عنه، ثم سأله فأعرض عنه، ثم سأله في الثانية أو في الثالثة فجذبه الأشعث بن قيس
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: اسمعوا وأطيعوا، فإنما عليهم ما حُمِّلُوا وعليكم
ما حملتم] رواه مسلم.
قلت: لا شك بأن منع الناس حقوقهم ليس من الحكم بما أنزل الله
4 – عن أبي أُمامة الباهلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم:
لتنقضن عرى الإسلام عروة , عروة فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي
تليها فأولهن نقضا الحكم و آخرهن الصلاة.
[رواه أحمد وابن حبان ]
قلت: وجه الدلالة من الحديث أن انتقاض عروة [الحكم] لم تكن انتقاضاً
للإسلام كله بل بقي الإسلام يذهب شيئاً فشيئاً.
5 – قال ابن حجر في المطالب العالية: [2209] وقال مسدد: حدثنا جعفر
بن سليمان، عن المعلى، عن أبي غالب عن أبي أُمامة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم:
صنفان من أمتي لا تنالهما شفاعتي ولن تنالهما شفاعتي أو لن أشفع لهما:
أمير ظلوم غشوم عسوف، وكل غال مارق.
قلت: وجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الإمام الغشوم من
الأمة وقوله [ظلوم , غشوم] صيغة مبالغة تدل على التصاق هذا الفعل به وهذا يشمل المقنن
وغيره بل إن هذه الصورة للمُقنّن أقرب فتأمل.
فإن قيل: إن الأمة أمتان أمة إجابة وأمة دعوة فمن أين لك أن المقصود
بالأمة هنا أمة الإجابة [المسلمة]؟
قلت: أمة الدعوة فيها المسلم والكافر والكفار جميعاً لا تنالهم الشفاعة
فلا وجه لتخصيص هذين الصنفين بالذكر لو كانوا هم المقصودين من هذا الحديث.
الثاني : أن هذا القول الذي ذهب إليه هو قول الخوارج
قال أبو المظفر السمعاني في تفسيره [2/ 42]: اعلم أن الخوارج يستدلون
بهذه الآية ويقولون من لم يحكم بما أنزل الله فهو كافر وأهل السنة لا يكفرون بترك الحكم.
اهـ
قال ابن عبد البر في التمهيد [17/ 16]: وقد ضلت جماعة من أهل البدع
من الخوارج والمعتزلة في هذا الباب واحتجوا بآيات ليست على ظاهرها مثل قوله عز وجل:
{ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون}.اهـ
قال الشاطبي في الإعتصام [2/ 183 – 184] والآجري في الشريعة [1/
31] واللفظ له: مما يتبع الحرورية من المتشابه قول الله تعالى: {ومن لم يحكم بما أنزل
الله فأولئك هم الكافرون} ويقرؤون معها {ثم الذين كفروا بربهم يعدلون} فإذا رأوا الإمام
حكم بغير الحق قالوا كفر. اهـ
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة [5/ 131]: {فلا وربك لا
يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم …. } وهذه الآية مما يحتج به الخوارج على تكفير
الولاة الذين يحكمون بغير ما أنزل الله. اهـ
وقد احتج عبد الرحمن دمشقية بهذه الآية التي نص شيخ الإسلام أن الخوارج
يستدلون بها ، فالدمشقية موافق للخوارج بشهادة شيخ الإسلام الذي دافع عنه الدمشقية
في موسوعته دفاعاً مجيداً ، وليته انتفع بعلمه وتحريراته في هذه المسألة
الثالث : استدلاله بقوله تعالى (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما
شجر بينهم ) ، تقدم أنه استدلال الخوارج كما نص عليه شيخ الإسلام
قال الإمام البخاري – رحمه الله تعالى -:
[5670]: حدثنا عاصم بن علي: حدثنا ابن أبي ذئب، عن سعيد، عن أبي شريح:
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن.
قيل: ومن يا رسول الله؟
قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه.
قلت: فانظر كيف أنه صلى الله عليه وسلم أقسم بالله على أن من لا يأمن
جاره بوائقه فهو: [لايؤمن] وهو ليس كافراً بإجماع أهل السنة.
وأما استدلاله بقوله تعالى (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ
أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ
أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ
الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا ) فلا يتم له أيضاً
فغاية ما في الآية أن التحاكم لغير شرع الله من صفات المنافقين ، وليس
كل من اتصف بصفة من صفات المنافقين ، صار منافقاً فمن صفاتهم الكذب في الحديث وخيانة
الأمانة والفجور في الخصومة
ومن صفاتهم ترك الجهاد قال الله تعالى (رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ
الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ ) ، ومع ذلك وقع هذا
من بعض أهل الإيمان كالثلاثة الذين خلفوا من جهة نقص الإيمان لا من جهة النفاق
الرابع : قوله (إذ الطاعة من أنواع العبادة ) ، إذا أطلقناه كفرنا من
أطاع زوجته أو صديقه أو ابنه في معصية الله ولو في صغيرة من الصغائر ، وهذا لا يكفر
به حتى الخوارج
وأما طاعة الأحبار والرهبان ، فقد كانت استحلالاً يحرمون ما أحل الله
عز وجل ، فيتابعهم العامة معتقدين تحريم ما الحلال ، ويحلون ما حرم الله فيتابعهم العامة
معتقدين حل ما حرمه الله ، أما من تابعهم شهوةً وهو يعلم أنهم عاصون لله ويعتقد ذلك
، ولا يظهر بلسانه خلاف هذا الاعتقاد ، فيقول مثلاً ( أنا اعتقد أنه حلال لأن الشيخ
أحله ، مع اعتقاده في الباطن أنه حرام ) فهذا ليس كافراً بل فاسق حتى يقع منه الاستحلال
القلبي أو الجحود أو يستكبر فيقول ( حكم الشيخ خيرٌ من حكم الله عز وجل )
أقول : هذا ما قلته قديماً وهو غلط محض بل من قال ( أنا أعتقد أنه حلال ) مع علمه بحرمته في الباطن فهو كافر معاند سواءً فعل ذلك تقليداً للشيوخ أو هوى نفس ، قال الله تعالى : ( وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) فهذا له حظ من هذه الآية ، وإنما لا يكفر من يقول أن أعتقد حرمته ولكنني أفعله استغلالاً لإباحة الحاكم له وعدم عقوبته عليه فهذا الفاسق وما سوى هذا القول إرجاء
قال عبد العزيز ابن باز كما في مجموع مقالاته وفتاويه (5/18)
رداً على المودودي :” فأرجو من فضيلتكم [ المودودي لا يستحق هذا ] الإفادة المفصلة عما ترونه في هذه المسألة
ومما يزيد الأمر وضوحا أن من أطاع الله في بعض الأمور وهو متلبس بالشرك يستحق أن تنفي
عنه العبادة. كما قال الله سبحانه في حق المشركين {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ}
فنفى عنهم العبادة من أجل شركهم، ومعلوم أنهم يعبدون الله في الشدة بالتوحيد وبالحج
والعمرة وبالصدقات في بعض الأحيان ونحو ذلك.
ولكن لما كانت هذه العبادة مشوبة بالشرك في الرخاء وعدم الإيمان بالآخرة
إلى غير ذلك من أنواع الكفر جاز أن تنفى عن أصحابها. ومما يزيد الأمر بيانا أيضا أن
من أطاع الأمراء وغيرهم في معاصي الله لا يسمى عابدا لهم إذا لم يعتقد جواز طاعتهم
فيما يخالف شرع الله وإنما أطاعهم خوفا من شرهم أو اتباعا للهوى، وهو يعلم أنه عاص
لله في ذلك فإن مثل هذا يعتبر عاصيا بهذه الطاعة ولا يعتبر مشركا إذا كانت الطاعة في
غير الأمور الشركية، كما لو أطاعهم في ضرب أحد بغير حق أو قتل أحد بغير حق أو أخذ مال
بغير حق ونحو ذلك، والأمثلة في هذا الباب كثيرة، وما أظن هذا الأمر يخفى على من دونكم
من أهل العلم، لكن لما كان هذا الأمر قد أشاعه عنكم من أشاعه، وجب علي أن أسألكم عنه
وأطلب من فضيلتكم تفصيل القول فيه حتى ننفي عنكم ما يجب نفيه”
الخامس : نختم بنصوص شيخ الإسلام ابن تيمية ي في هذه
المسألة لأن الدمشقية دافع عنه وشهد لهه بالسلفية
قال شيخ الإسلام في منهاج السنة [5/ 130]:
لا ريب أن من لم يعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله على رسوله فهو كافر
فمن استحل أن يحكم بين الناس بما يراه هو عدلا من غير إتباع لما أنزل الله فهو كافر.
كسوالف البادية وكأوامر المطاعين فيهم ويرون أن هذا هو الذي ينبغي الحكم
به دون الكتاب والسنة
وهذا هو الكفر فإن كثيرا من الناس أسلموا ولكن مع هذا لا يحكمون إلا
بالعادات الجارية لهم التي يأمر بها المطاعون فهؤلاء إذا عرفوا أنه لا يجوز الحكم إلا
بما أنزل الله فلم يلتزموا ذلك بل استحلوا أن يحكموا بخلاف ما أنزل الله فهم كفار وإلا
كانوا جهالاً كمن تقدم أمرهم. اهـ
قلت: فانظر كيف لم يستثن إلا المستحل- ومثله الجاحد والمستكبر- وجعل
الاستحلال مقابلاً للالتزام
– وهو إلزام النفس بالفعل سواءً عمل أم لم يعمل – وسوالف البادية في
حقيقتها قوانين متبعة.
وقال شيخ الإسلام كما في الفتاوى [3/ 267]:
والإنسان متى حلل الحرام المجمع عليه أو حرم الحلال المجمع عليه أو
بدل الشرع المجمع عليه كان كافرا مرتدا باتفاق الفقهاء وفي مثل هذا نزل قوله على أحد
القولين {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} أي هو المستحل للحكم بغير
ما أنزل الله. اهـ
فانظر كيف أرجع الأمر إلى الاستحلال , ومعنى التبديل هو الحكم بغير
ما أنزل الله على أنه من عند الله
قال شيخ الإسلام كما في الفتاوى [3/ 268]:
والثاني: الشرع المؤول وهو آراء العلماء المجتهدين فيها كمذهب مالك
ونحوه فهذا يسوغ إتباعه ولا يجب ولا يحرم وليس لأحد أن يلزم عموم الناس به ولا يمنع
عموم الناس منه.
والثالث: الشرع المبدل وهو الكذب على الله ورسوله أو على الناس بشهادات
الزور ونحوها والظلم البين فمن قال إن هذا من شرع الله فقد كفر بلا نزاع كمن قال إن
الدم والميتة حلال ولو قال هذا مذهبي ونحو ذلك. اهـ
وقال شيخ الإسلام [35/ 388]: الحاكم إذا كان دينا لكنه حكم بغير علم
كان من أهل النار وإن كان عالما لكنه حكم بخلاف الحق الذي يعلمه كان من أهل النار وإذا
حكم بلا عدل ولا علم كان أولى أن يكون من أهل النار وهذا إذا حكم في قضية معينة لشخص
وأما إذا حكم حكما عاما في دين المسلمين فجعل الحق باطلا والباطل حقا والسنة بدعة والبدعة
سنة والمعروف منكرا والمنكر معروفا ونهى عما أمر الله به ورسوله وأمر بما نهى الله
عنه ورسوله فهذا لون آخر يحكم فيه رب العالمين. اهـ
وقال في منهاج السنة [5/ 130]:
قال تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ
فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ
وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} فمن لم يلتزم تحكيم الله ورسوله فيما شجر بينهم؛ فقد أقسم
الله بنفسه أنه لا يؤمن.
وأما من كان ملتزماً لحكم الله ورسوله باطناً وظاهراً، لكن عصى واتبع
هواه؛ فهذا بمنزلة أمثاله من العصاة. وهذه الآية مما يحتج بها الخوارج على تكفير ولاة
الأمر الذين لا يحكمون بما أنزل الله، ثم يزعمون أن اعتقادهم هو حكم الله. وقد تكلم
الناس بما يطول ذكره هنا، وما ذكرته يدل عليه سياق الآية. اهـ
قلت: فانظر كيف نسب القول بكفر الحاكم بغير ما انزل الله من الولاة
إلى الخوارج.
وهؤلاء الولاة في معظم أحوالهم لا يحكمون إلا بتقنينات عامة.
ويدخل في كلام شيخ الإسلام دخولاً أولياً من يحكم بغير ما أنزل في مسألة
أو اثنين.
وهذا الكلام كله في إذا لم يكن التحاكم إلى قانون يحتوي على مواد كفرية أصلاً أو يكون هذا القانون في نظر أصحابه هو العدل وما سواه ظلم ولو كان شرع الله أو تصدر كلمات من الحاكم تدل على استهزائه بالشرع أو تعظيمه للكفر
المسألة الثانية : مسألة الكفر العملي
قال عبد الرحمن دمشقية في موسوعة أهل السنة (2/1172) :” القاعدة
الأولى : أن كل من أعمال الكفر صاحبه به إلا إن كان وراءه كفر اعتقادي ، وإلا فهو كفر
عملي لا يخرج صاحبه من الملة ” ثم أورد قصة حاطب
أقول : الذي يرى كلامه هنا ، لا يرى كلامه في الحكم بغير ما أنزل الله
!
والكلام هنا فيه اطلاق لا ينبغي لا بد من تفصيل
فيقال أولاً : الكفر الأكبر عند أهل السنة يكون في العمل والقول والاعتقاد
فالكفر الاعتقادي كاعتقاد شريك مع الله عز وجل في الربوبية أو الألوهية
والكفر القولي كسب الله عز وجل أو رسوله
والكفر العملي الأكبر كالسجود للصنم ، أو إهانة المصحف
والكفر العملي نوعان أصغر لا يخرج من الملة ولا يضاد الإيمان من كل
وجه كالحكم بغير ما أنزل الله
وأكبر يضاد الإيمان من كل وجه كإهانة المصحف
وليعلم أن الكفر العملي الأكبر ، لا يوجد في حال الاختيار والعلم إلا
مع كفر قلبي أكبر ، وهذا تطبيق لمذهب أهل السنة في التلازم بين الظاهر والباطن
ومرجئة الجهمية يرون أن المرء يقع في هذه المكفرات ، مع وجود الإيمان
القلبي ، فإذا ذكرت لهم النصوص الدالة على كفره وخروجه من الملة ، قالوا ( هذا لأن
هذه الأفعال تدل على التكذيب ) والكفر القلبي محصور عندهم في التكذيب ، لأن الإيمان
محصور بالتصديق أو المعرفة
وأهل السنة لا يوافقون على هذا بل يرون أن الكفر القلبي الأكبر يكون
تكذيباً ويكون استكباراً ويكون شكاً ويكون إعراضاً وغيرها
فلا يجوز أن يقال أن أهل السنة يتفقون مع الجهمية في هذه النقطة فإن
هذا كلام من لم يفهم مذهب أهل السنة
وهذا الذي ذكرته هو تخليص لكلام شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم في هذه
المسألة
قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (7/ 557): ” فهؤلاء القائلون
بقول جهم والصالحي قد صرحوا بأن سب الله ورسوله والتكلم بالتثليب وكل كلمة من كلام
الكفر ليس هو كفرا فى الباطن ولكنه دليل فى الظاهر على الكفر ويجوز مع هذا أن يكون
هذا الساب الشاتم فى الباطن عارفا بالله موحدا له مؤمنا به فاذا أقيمت عليهم حجة بنص
أو إجماع أن هذا كافر باطنا وظاهرا قالوا هذا يقتضي أن ذلك مستلزم للتكذيب الباطن وأن
الإيمان يستلزم عدم ذلك “
قلت: فتأمل كيف أن الجهمية يجوزون أن يوجد هذا الفعل الكفري مع الإيمان
الباطن!!!
وقال شيخ الإسلام (7/ 557):” وأما الثاني فالقلب إذا كان معتقدا
صدق الرسول وأنه رسول الله وكان محبا لرسول الله معظما له امتنع مع هذا أن يلعنه ويسبه
فلا يتصور ذلك منه إلا مع نوع من الإستخفاف به وبحرمته فعلم بذلك أن مجرد إعتقاد أنه
صادق لا يكون إيمانا إلا مع محبته وتعظيمه بالقلب “
قلت: فتأمل كيف أن شيخ الإسلام جعل القول باجتماع الكفر العملي الكبر
مع الإيمان القلبي الواجب من الممتنعات فلا بد من وجود تكذيب أو بغض أو استخفاف معها
فتأمل!
وقال في (7/ 644):” حتى آل الأمر بغلاتهم – كجهم وأتباعه – إلى
أن قالوا: يمكن أن يصدق بقلبه ولا يظهر بلسانه إلا كلمة كلمة الكفر وقالوا حيث حكم
الشارع بكفر أحد بعمل أو قول: فلكونه دليلاً على انتفاء ما في القلب وقولهم متناقض
فإنه إذا كان ذلك دليلاً مستلزماً لانتفاء الذي في القلب امتنع أن يكون الإيمان ثابتاً
في القلب “
قلت: تأمل هذا النص جيداً، الإيمان القلبي عند غلاة المرجئة محصور التصديق
فإذا كان العمل عندهم دالاً على انتفاء ما في القلب فهو دال على التكذيب لانحصار الكفر
في التكذيب عندهم لذلك التزم بعضهم أن إبليس واليهود كانوا مكذبين بقلوبهم وهذا القول
مكابرة للنصوص بخلاف أهل السنة الذي يرون أن هذه الكفر قد يقع عن كبر أو بغض أو استخفاف
ويرون أنه كفرٌ ظاهراً وباطناً لأن الكفر الأكبر الظاهر يقع مع تحصل
الشروط وانتفاء الموانع مع وجود الإيمان القلبي الواجب من تصديق ومحبة وتعظيم
وقال شيخ الإسلام في (7/ 582):” وبهذا يتبين فساد قول جهم والصالحي
ومن اتبعهما في الإيمان كالأشعري في أشهر قوليه وأكثر أصحابه وطائفة من متأخري أصحاب
أبي حنيفة كالماتردي ونحوه حيث جعلوه مجرد تصديق في القلب يتساوى فيه العباد، وأنه
إما أن يعدم وإما أن يوجد لا يتبعض وأنه يمكن وجود الإيمان تاماً في القلب مع وجود
التكلم بالكفر والسب لله ورسوله طوعاً من غير إكراه وأن ماعلم من الأقوال الظاهره أن
صاحبه كافر فلأن ذلك مستلزم عدم التصديق في الباطن “
قلت: فانظر كيف أنهم يحصرون الكفر القلبي في عدم التصديق – وهو التكذيب
– بخلاف أهل السنة الذين يجعلونه أنواع فيدخلون الإستخفاف والإستكبار وغيرها
وقال ابن القيم في الصلاة وحكم تاركها ص72 :” وأما كفر العمل فينقسم
إلى ما يضاد الإيمان وإلى ما لا يضاده فالسجود للضم والاستهانة بالمصحف وقتل النبي
وسبه يضاد الإيمان وأما الحكم بغير ما أنزل الله وترك الصلاة فهو من الكفر العملي قطعا
ولا يمكن أن ينفي عنه اسم الكفر بعد أن اطلقه الله ورسوله عليه فالحاكم بغير ما انزل
الله كافر وتارك الصلاة كافر بنص رسول الله ولكن هو كفر عمل لا كفر اعتقاد ومن الممتنع
أن يسمي الله سبحانه الحاكم بغير ما انزل الله كافرا ويسمى رسول الله تارك الصلاة كافرا
ولا يطلق عليهما اسم كافر وقد نفى رسول الله الإيمان عن الزاني والسارق وشارب الخمر
وعمن لا يأمن جاره بوائقه وإذا نفي عنه اسم الإيمان فهو كافر من جهة العمل وانتفى عنه
كفر الجحود والاعتقاد
وكذلك قوله لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض فهذا كفر عمل
وكذلك قوله من أتى كاهنا فصدقه أو امرأة في دبرها فقد كفر بما أنزل
على محمد وقوله إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد باء بها احدهما”
وقال عبد الرحمن دمشقية ( 2/ 1173) :” القاعدة الثانية : أنه لا
يكفي أن يقول الرجل كفراً حتى نسارع إلى تكفيره ، فقد يكون جاهلاً أو مخطئاً أو متأولاً
فلا يقال له لأول وهلة ( كفرت ) ، وإنما يقال له ( أخطأت “
أقول : بل يجوز أن يقال له ذلك على وجه الترهيب وبيان الحكم الشرعي
العام
قال أحمد في مسنده 21897 : حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ
يَعْنِي ابْنَ سَعْدٍ، حَدَّثَنِي عُقَيْلُ بْنُ خَالِدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ
سِنَانِ بْنِ أَبِي سِنَانٍ الدُّؤَلِيِّ ثُمَّ الْجُنْدَعِيِّ، عَنْ أَبِي وَاقِدٍ
اللَّيْثِيِّ: أَنَّهُمْ خَرَجُوا عَنْ مَكَّةَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى حُنَيْنٍ، قَالَ: وَكَانَ لِلْكُفَّارِ سِدْرَةٌ يَعْكُفُونَ
عِنْدَهَا، وَيُعَلِّقُونَ بِهَا أَسْلِحَتَهُمْ، يُقَالُ لَهَا: ذَاتُ أَنْوَاطٍ،
قَالَ: فَمَرَرْنَا بِسِدْرَةٍ خَضْرَاءَ عَظِيمَةٍ، قَالَ: فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ
اللَّهِ، اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: ” قُلْتُمْ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى:
{اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةً قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ}
إِنَّهَا السُّنَنُ، لَتَرْكَبُنَّ سُنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ سُنَّةً سُنَّةً
“
وقال البخاري في الأدب المفرد 783: حَدثنا أَبُو نُعَيْمٍ، قَالَ: حَدثنا
سُفْيَانُ، عَنِ الأَجْلَحِ، عَنْ يَزِيدَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: قَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ
صَلى الله عَلَيهِ وسَلم: مَا شَاءَ اللهُ وَشِئْتَ، قَالَ: جَعَلْتَ لِلَّهِ نِدًّا،
مَا شَاءَ اللهُ وَحْدَهُ.
وقال شيخ الإسلام كما مجموع الفتاوى (23/ 349) :” كَذَلِكَ الشَّافِعِيُّ
لَمَّا قَالَ لِحَفْصِ الْفَرْدِ حِينَ قَالَ: الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ: كَفَرْت بِاَللَّهِ
الْعَظِيمِ. بَيَّنَ لَهُ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ كُفْرٌ وَلَمْ يَحْكُمْ بِرِدَّةِ
حَفْصٍ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ الْحُجَّةُ الَّتِي يَكْفُرُ
بِهَا وَلَوْ اعْتَقَدَ أَنَّهُ مُرْتَدٌّ لَسَعَى فِي قَتْلِهِ وَقَدْ صَرَّحَ فِي
كُتُبِهِ بِقَبُولِ شَهَادَةِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالصَّلَاةِ خَلْفَهُمْ”
على أن الصواب أن الشافعي كفر فرداً حقاً وهو ما جنح إليه ابن تيمية في مكان آخر وهو الصواب الذي لا محيد عنه
وقبل أن أختم لا بد من بيان أمر ، وهو أن بعض الناس يشتغل بالرد على
فئة معينة من أهل الأهواء ، ويحمله ذلك على دراسة كتب هذه الفئة دراسة دقيقة ومتمعنة
، مع ما يجد في نفسه من الغيظ عليهم لما يجده فيما يكتبون من الظلم والجهل ، ولم يكن
قد أنفق من الوقت في دراسة كتب أهل السنة ما أنفق في دراسة كتب هؤلاء المبتدعة ، فينشأ
عن مجموع هذا ، أنه يتطلب معاكستهم فيما لا مدخل له فيه عليهم ، ويرد عليهم في غير
موطن الرد ، وربما إذا رآهم جفوا في باب غلا هو فيه ، وإذا رآهم غلوا في باب جفى هو
فيه ، وقوام الأمر بلزوم الكتاب والسنة على فهم سلف الأمة وعرض أقوال الناس وأفعالهم
وعقائدهم على هذا الميزان العدل
هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم