قال الدكتور محمود الرضواني في كتابه البدعة الكبرى ص22 :” فهل مسألة
الحكم بالحسن والقبح على الأشياء في الإسلام مرده إلى النص المنقول دون اعتبار للنظر
المعقول؟
الجواب هنا يتعلق بفهمنا للأحكام الشرعية التكليفية ، فالواجب والمستحب
والمكروه والمحرم ، تلك الأربعة السيادة فيها للنقل أو القرآن والسنة، النقل هنا هو
الذي يحكم بحسن الأشياء وقبحها ، والعقل للنقل فيها يؤيده ويعضده ، ولن يجد عاقل في
فطرته ما يخالف الأحكام التكليفية أو يعارض الشريعة الإسلامية .
أما إذا قدم العقل على النقل في الواجب والمستحب والمحرم والمكروه من الأحكام
فسوف تظهر البدعة في الإسلام ، وسوف تتغير ملامح الشريعة وتصبح ألعوبة في يد المبتدع”
إلى أن قال : “أما عن دور
العقل في الإسلام ومجاله في الحكم على الأشياء بالحسن والقبح والخير والشر فهذا مقصور
على المباح فقط من الأحكام الشرعية ، فالقيادة والسيادة هنا للعقل ، والنقل يؤيده ويعضده
ويعاونه ويساعده
فقد روى مسلم في صحيحه في حديث
رافع بن خديج :” قَدِمَ نَبِيُّ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ
، وَهُمْ يَأْبُرُونَ النَّخْلَ ، يَقُولُونَ يُلَقِّحُونَ النَّخْلَ ، فَقَالَ : مَا
تَصْنَعُونَ ؟ قَالُوا : كُنَّا نَصْنَعُهُ ، قَالَ : لَعَلَّكُمْ لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا
كَانَ خَيْرًا فَتَرَكُوهُ ، فَنَفَضَتْ ، أَوْ فَنَقَصَتْ ، قَالَ فَذَكَرُوا ذَلِكَ
لَهُ فَقَالَ : إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ ، إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ دِينِكُمْ
فَخُذُوا بِهِ ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ رَأْيِي ، فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ.
وهنا جعل الرسول صلى الله عليه وسلم المرجعية في الحكم بالحسن والقبح إلى
عقولهم واجتهادهم وخبرتهم في الحياة أو خبرتهم في الحياة ، فآرائهم مقبولة في المباحات
من أمور الدنيا دون بقية الأحكام”.
أقول : هذا الكلام فيه فلسفة وخبط وتخليط وبيان ذلك من وجوه:
أولها: قوله أن المباح يرجع إلى اجتهادات الناس دون المكروه والمحرم يرد
بأن يقال خبرة الناس وعقولهم إما أن تحكم لهذا الشيء بأنه نافع أو ضار فإذا حكمت لهذا
الشيء بأنه نافع فساعتئذٍ يكون مباحاً عند الدكتور الرضواني، فماذا إذا حكمت خبرة الناس
بأن هذا الشيء ضار، وفيه إتلاف للمال أو النفس أو غيرها من المفاسد، فما حكمه يا دكتور
رضواني ؟ فلا مناص إلا أن يقول (مكروه) أو (محرم)، وساعتئذٍ يبطل تفريقه بين (المباح)
و (المكروه) و (المحرم).
ثانيها: أن المذهب الذي اخترعه الرضواني مذهب حادث وفيه تلفيق بين مذهب
الأشاعرة ومذهب المعتزلة، فمذاهب الناس في التحسين والتقبيح كالآتي:
الأول : أن حسن الأشياء وقبحها
إنما يثبت بالعقل وهذا مذهب المعتزلة ، دون تفريق بين الأحكام التكليفية
الثاني : أن حسن الأشياء وقبحها
لا يثبت إلا بالشرع ، وأن الأحكام الشرعية غير معللة بعلل تثبت حسنها عند الأمر ، أو
قبحها عند النهي عنها ، وهذا مذهب الأشاعرة بدون تفريق بين الأحكام التكليفية
الثالث : أن حسن الأشياء وقبحها
يثبت بالعقل والشرع معاً ، إذ لا تعارض بين العقل والنقل ، ولكن الثواب والعقاب متعلق
بورود الشرع واستدلوا لذلك بذكر الحكم في عدد من الأوامر الشرعية كذكر العلة في تحريم
الخمر والميسر
قال ابن القيم في مفتاح دار السعادة (2/42) وهو يعدد مقتضيات هذا القول
القبيح :
” واستلزامه التسوية بين التثليث والتوحيد في العقل وأنه قبل ورود
النبوة لا يقبح التثليث ولا عبادة الأصنام ولا مسبة المعبود ولا شيء من أنواع الكفر
ولا السعي في الأرض بالفساد ولا تقبيح شيء من القبائح أصلا
وقد التزم النفاة ذلك وقالوا أن هذه الأشياء لم تقبح عقلا وإنما جهة قبحها
السمع فقط
وانه لا فرق قبل السمع بين ذكر الله والثناء عليه وحمده وبين ضد ذلك
ولا بين شكره بما يقدر عليه العبد وبين ضده ولا بين الصدق والكذب والعفة
والفجور والإحسان إلى العالم والإساءة إليهم بوجه ما وإنما التفريق بالشرع بين متماثلين
من كل وجه
وقد كان تصور هذا المذهب على حقيقته كافيا في العلم ببطلانه وأن لا يتكلف
رده ولهذا رغب عنه فحول الفقهاء والنظار من الطوائف كلهم
فأطبق أصحاب أبي حنيفة على خلافه وحكوه عن أبي حنيفة نصا
واختاره من أصحاب أحمد أبو الخطاب وابن عقيل وأبو يعلى الصغير ولم يقل
أحد من متقدميهم بخلافه
ولا يمكن أن ينقل عنهم حرف واحد موافق للنفاة
واختاره من أئمة الشافعية الإمام أبو بكر محمد بن على بن إسماعيل القفال
الكبير وبالغ في إثباته وبنى كتابه محاسن الشريعة عليه وأحسن فيه ما شاء
وكذلك الإمام سعيد بن على الزنجانى
بالغ في إنكاره على أبي الحسن الأشعرى القول بنفي التحسين والتقبيح وأنه لم يسبقه إليه
أحد
وكذلك أبو القاسم الراغب وكذلك أبو عبد الله الحليمى وخلائق لا يحصون
وكل من تكلم في علل الشرع ومحاسنه وما تضمنه من المصالح ودرء المفاسد فلا
يمكنه ذلك إلا بتقرير الحسن والقبح العقليين
إذ لو كان حسنه وقبحه بمجرد الأمر والنهى لم يتعرض في إثبات ذلك لغير الأمر
والنهي فقط وعلى تصحيح ذلك فالكلام في القياس وتعليق الأحكام بالأوصاف المناسبة المقتضية
لها دون الأوصاف الطردية التي لا مناسبة فيها
فيجعل الأول ضابطا للحكم دون الثاني لا يمكن إلا على إثبات هذا الأصل فلو
تساوت الأوصاف في نفسها لانسد باب القياس والمناسبات والتعليل بالحكم والمصالح ومراعات
الأوصاف المؤثرة دون الأوصاف التي لا تأثير لها”.
وقال شيخ الإسلام في درء التعارض (4/ 332) :” وقوله تعالى : {وما
كنا معذبين حتى نبعث رسولا} حجة على الطائفتين
وإن كان نفاة التحسين والتقبيح العقلي يحتجون بهذه الآية على منازعيهم
فهي حجة عليهم أيضا فإنهم يجوزون على الله أن يعذب من لا ذنب له ومن لم يأته رسول
ويجوزون تعذيب الأطفال والمجانين
الذي لم يأتهم رسول بل يقولون : إن عذابهم واقع، وهذه الآية حجة عليهم كما أنها حجة
على من جعلهم معذبين بمجرد العقول من غير إرسال رسول، والقرآن دل على ثبوت حسن وقبح
قد يعلم بالعقول ويعلم أن هذا الفعل محمود ومذموم ودل على أنه لا يعذب أحدا بعد إرسال
رسول والله سبحانه أعلم”.
وهناك نقولات أخرى في المسألة بسطتها في الرد على عبد الله رمضان موسى.
الوجه الثالث : قوله بأن المباح إنما يعرف بالعقل والشرع إنما تابع للعقل
في الإباحة ينقضه أن علماء الأصول قسموا الإباحة إلى نوعين:
النوع الأول : إباحة شرعية ، وهي المستفادة من الأدلة الشرعية بخصوصها
كإباحة لبس الحلي للنساء ، وإباحة الصيد لغير المحرم ، وغيرها
النوع الثاني : إباحة أصلية وهي المستفادة من قاعدة ( الأصل في الأشياء
الإباحة ) ولم يرد نص بخصوصها، وهذا النوع التحقيق أنه يرجع إلى النوع الأول ، لأنه
إنما استفيد من قوله تعالى (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأْرْضِ جَمِيعًا).
وماذا يقول الدكتور الرضواني في النصوص الواردة في إباحة بعض الأشياء والنص
على حلها، هل يكون النص الشرعي فيها تابعاً للعقل ؟!
وسبب خلط الرضواني هو أنه لم يفهم كلام أهل السنة فصار يلفق، وهذه عادةٌ
فيه يعتد بعقله جداً، فيخترع المذاهب الملفقة التي يعتبرها هو تحقيقاً علمياً لم يسبق
إليه.
هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم