الرجولة المنسية والرجولة الزائفة

في

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

قال تعالى: { في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال (٣٦) رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يومًا تتقلب فيه القلوب والأبصار } [النور].

بدت لي فائدة في قوله سبحانه {رجال} والتنصيص على ذلك مع كون الجماعة قد يصليها غير الرجال، مع وجوبها على الرجال.

وذلك أن الرجل يعظُم عند الناس بكفايته من يعول من نساء وأطفال، وذلك إنما يتحقق بالكسب، حلالاً كان أو حراماً.

وكم من رجل يتعب نفسه وهو يكفيه القليل؛ لأن من وراءه من نساء وأطفال لا يقنعون بالقليل، فيتعب نفسه في هواهم.

ولهذا كان من خصال الرجال المحمودة: الكرم؛ لأنه يعول من تحته، ومن خصاله المحمودة أيضاً: الشجاعة؛ لأنه يحمي من تحته، ولذلك كان ذو العيال أبخل وأجبن من غيره كما ورد في الحديث «مبخلة مجبنة»، فالرجل في نفسه ليس بخيلاً ولا جباناً؛ ولكنه يبخل عمن يحتاج لأنه يريد أن يدخر لعياله، ويجبن عمن يحتاج نجدته خشية أن يبقى عياله بعده بلا معيل.

ومن هنا يدخل الشيطان على كثير منهم، ويحمله على الحرام أو التقصير في الطاعات الواجبة بحجة كفاية من يعول.

فجاءت الآية تبين أن الرجل الحق هو من لا ينسيه طلب الرزق عبادة الرزاق، ولا يوسوس في أمر رزقه حتى ينسى ما عليه من واجبات، ويعلم أن طلب الرزق إنما هو للعيش في هذه الحياة، والحياة إنما وجدت لعبادة الله عز وجل فكيف يضيِّع الغاية لأجل الوسيلة.

ولهذا حديث بعض الناس عن الإنتاجية إذا تحدثوا عن الصلاة والصيام هو منطلق من زندقة مبناها على الكفر باليوم الآخر وأن جمع المال غاية لا وسيلة.

فهذه الرجولة: ألَّا تنسى الغاية التي خلقت لأجلها، ولا تتماهى مع أهواء نساء وأطفال تعولهم لا يرون إلا العاجلة، فلا تهملهم وتؤدي حقهم، ولا تزيد في ذلك زيادةً تُذهب آخرتك.

ولهذا كان أول هلاك بني إسرائيل لمَّا كانت امرأة الفقير تكلف زوجها ما تكلف امرأة الغني زوجها، ومعنى هذا أن الفقير صار يكدح ولا ينظر هو يكسب من حلال أو حرام ليحقق ما يراد منه، ولمَّا أهمل الرجل تأديب أولاده لاشتغاله بالكسب، كحال كثير من أهل زماننا، ولهذا من آثار السوء ما لا يحصيه إلا الله عز وجل.

وأما من انضبطت نفسه وقدَّم الطاعة على ما يظنه لذةً عاجلة فذلك مَن حقق الرجولة الحقة، ولم يمكن أن يسيطر عليه كافر لاديني يتحكم بحياته، عن طريق العبث بعقول ناقصي العقول ممن يعولهم بإعلانات وصور زائفة يجعلهم يتطلبونها بشدة، ولا يرون ما في ذلك من الزيف وإجهاد المعيل.