الذكاء وحده لا يكفي (سر الراسخين وعلاقة ذلك بحديث الافتراق)

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

قال تعالى:

{هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب (٧) ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب (٨) ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد (٩)}

[آل عمران].

أقول: بعدما ذكر ربُّ العالمين الراسخين في العلم ذكر دعاءً: {ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب}.

فكأنها إشارة إلى أن الرسوخ لا يُنال بالذكاء وحده، بل ليس الإفراط في الذكاء من شرطه، وإنما يُنال بالدعاء والتوفيق.

وفي ذلك حديث رسول الله ﷺ: «يا مقلب القلوب ثبِّت قلبي على دينك» هذا تطبيقٌ للآية.

قال ابن أبي شيبة في «المصنف»: “37145- أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن همام، عن حذيفة، قال:

«ليأتين على الناس زمان لا ينجو فيه إلا الذي يدعو بدعاء كدعاء الغريق»”.

وهذا إسناد صحيح إلى حذيفة، وكأنه يشير إلى آخر الزمان وغربة الدين وكثرة الملبِّسين (الدعاة على أبواب جهنم)، فقال: إنه لا ينجو إلا من يدعو كدعاء الغريق، يعني: يُكثر من الدعاء ويُلح كما يفعل الغريق إذا سأل الناس النجدة، فتأمَّل أنه ما ربط الأمر بالذكاء وإنما ربطه بالدعاء.

والكلام على قوم جاءتهم آيات وبيِّنات فيها محكم ومتشابه، فاتّبع قوم المتشابه وتركوا المحكم، وذلك يأتي إما من سوء في الفهم، وهذا علاجه بالدعاء والتواضع والرجوع إلى أهل العلم، وإما من سوء في القصد، وهذا علاجه بكثرة تذكّر الآخرة، لذا جاء الدعاء: {ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد}، فكم من إنسان يغريه ذكاؤه أن يستخدمه للتحريف والتلبيس، كما فعل علماء أهل الكتاب، وأرادوا بذلك تحقيق مصالح دنيوية من رياسة ومال ونحو ذلك.

فإن قيل: ذكر الله الراسخين وذكر أهل الزيغ، فأين عوام أهل السنة وطلبة العلم ومن له سبب في العلم وليس راسخاً وأين الأتباع من أهل الضلال؟

فيقال: هؤلاء الرؤوس وكل له حكم متبوعه، لهذا كان بعض أهل العلم يقول: “الصغير إذا أخذ بقول رسول الله ﷺ والصحابة والتابعين فهو كبير والشيخ الكبير إن أخذ بقول أبي حنيفة وترك السنن فهو صغير” كما رواه اللالكائي عن إبراهيم الحربي بإسناد قوي.

وهذا معنى قول بعض السلف: (الأصاغر أهل البدع) وجعل التماس العلم عندهم من أشراط الساعة كما روي في الخبر، وهذا مشاهد، فاليوم كثير من الناس إذا ذكر (علماء الإسلام) فإنما يريد أهل البدع الذين هو نفسه لا يعتقد اعتقادهم.

فهذا التماس العلم عند الأصاغر الذي روي أنه من أشراط الساعة.

فمن تبع الراسخين كان في حكمهم، ومن تبع الهالكين كان في حكمهم، هذا باعتبار الأصل وقد توجد استثناءات.

وهذا يشهد بالجملة لحديث: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين» فالراشدون هم رأس الراسخين.

وكذلك حديث الافتراق المروي، ففيه ذكر الفرقة الناجية (الراسخون ومن تبعهم) والفرق الهالكة (أهل الزيغ واتباع المتشابه ومن تبعهم).

قال تعالى:

{ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين، إلا من رحم ربك}

[هود]

هذه الآية جعلها ابن كثير شاهدة لحديث الافتراق، فالمستثنى {من رحم ربك} هم (الفرقة الناجية) وهذا المعنى مروي عن السلف.

وعليه: يكون قوله تعالى: {وهب لنا من لدنك رحمة} يعني اجعلنا من الناجين المتَّبعين لطريقة الراسخين.