الحق مع من انتسب إلى أحمد بن حنبل

في

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

الحق مع من انتسب إلى أحمد ابن حنبل

جاء في كتاب السلوك في طبقات العلماء والملوك لبهاء الدين الجندي اليمني، المتوفى عام 732 (معاصر لابن تيمية) (2/393)، في ترجمة أبي بكر بن محمد بن عبد الله بن بكر بن عمر بن سعيد الشعبي: “وكان كثيرا ما يرى النبي صلى الله عليه وسلم، فيسأله عن أمور مشكلة فيبينها له، منها ما أخبرني تلميذه الفقيه الصالح أبو الخطاب عمر بن الصفار الآتي ذكره في أهل عدن، أنه لما ظهر الكلام بين قاضي عدن محمد بن أسعد العنسي والبيلقاني والمنافرة، وتعب هذا الفقيه من ذلك، وصار يبلغه تكفير كل منهم لصاحبه واحتجاجه عليه، فتحير الفقيه من قبول كلام أحدهما وصحبته، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم في منامه وأخبره باختلاف القاضي والبيلقاني، فقال الحق مع من انتسب إلى أحمد بن حنبل أو كما قال”.

أقول: يبدو أن هذا النزاع كان حلقة في سلسلة النزاعات بين الحنابلة والأشاعرة بقرينة الزمن، والجواب المنسوب للنبي صلى الله عليه وسلم في الرؤيا.

والبيلقاني رحل إلى الرازي ودرس عليه وعاد إلى اليمن، وجاء في ترجمته في طبقات العلماء والملوك: “ودرس بالمنصورية أظهر المعتقد وأقرأ المنطق، فأنكر القاضي ذلك، وهو يومئذ محمد بن أسعد العنسي الأشرقي إذ الغالب على الفقهاء باليمن عدم الاشتغال بالمنطق خاصة، وغالب بالأصول ثم إن القاضي هجره ونابذه فاستطار الشقاق بينهما وربما أمر بهجره”.

فواضح أن الجواب المنسوب للنبي صلى الله عليه وسلم في الرؤيا ميل للقاضي العنسي لنفرة أحمد ابن حنبل عن الكلام وأهله، ومن باب أولى أهل المنطق.

هذا الكتاب للجندي نظرت فيه فإذا صاحبه ظاهر التصوف، وربما يميل إلى أهل الكلام، ويكثر من الحديث عن كرامات الصوفية، فإن شككوا في خبره هذا سهل التشكيك في أخبارهم اليوم التي يزعمونها في كرامات مشيختهم.

ومتن الرواية يدل على نفرة أهل اليمن آنذاك من دراسة المنطق، وسلوك السبيل التي مال إليها عامة أهل الكلام في الأزمنة المتأخرة، وأما ذكر أحمد ابن حنبل فيشرح ابن تيمية نظائر هذا الأمر:

يقول في الاستقامة ص85: “فإن هؤلاء المشايخ مثل أبى العباس القصاب له من التصانيف المشهورة في السنة ومخالفة طريقة الكلابية الأشعرية ما ليس هذا موضعه، وكذلك سائر شيوخ المسلمين من المتقدمين والمتأخرين الذين لهم لسان صدق في الأمة، كما ذكر الشيخ يحيى بن يوسف الصرصري ونظمه في قصائده عن الشيخ على بن إدريس شيخه أنه سأل قطب العارفين أبا محمد عبد القادر بن عبد الله الجيلى فقال: يا سيدي هل كان لله ولي على غير اعتقاد أحمد بن حنبل؟ فقال: ما كان ولا يكون.
وكذلك نقل الشيخ شهاب الدين أبو حفص عمر بن محمد السهروردى، وحدثنيه عنه الشيخ عز الدين عبد الله بن أحمد بن عمر الفاروثي، أنه سمع هذه الحكاية منه ووجدتها معلقة بخط الشيخ”.

وقال في درء التعارض (5/5) : “بل قد قيل للشيخ عبد القادر الجيلي قدس الله روحه هل كان لله ولي على غير اعتقاد أحمد بن حنبل؟ فقال: لا كان ولا يكون. والاعتقاد إنما أضيف إلى أحمد لأنه أظهره وبينه عند ظهور البدع، وإلا فهو كتاب الله وسنة رسوله، وحظ أحمد منه كحظ غيره من السلف: معرفته والإيمان به وتبليغه والذب عنه، كما قال بعض أكابر الشيوخ الاعتقاد لمالك والشافعي ونحوهما من الأئمة، والظهور لأحمد ابن حنبل”.

ومنافرة الحنابلة للمتكلمين أمر مشهور معروف، حتى من تأثر منهم ببعض مقالات المتكلمين تجده ينسب لأحمد رحمه الله ما يناقض أقوال عامة المتكلمين، مثل إثبات الحرف والصوت، فضلاً عن أمر العلو الذي اختلف فيه أهل الكلام أنفسهم، غير أن متأخريهم مالوا لنفيه في عامتهم، فهؤلاء لا يشك منصف أنهم جهمية على أصول أحمد.