التنبيه على كلام الشاطبي الذي يستدل به بعض أهل التمييع

في

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

ينسب بعض أهل التمييع للشاطبي في الموافقات أنه قال :

 “ينبغي عدم تعيين من ابتدع
في الدين دون البدع العظيمة كالخوارج وذلك حفظاً للمودة والألفة والمودة بين عموم المسلمين”،
قال الشاطبي في الموافقات (5/ 157) : “وللستر حكمة أيضًا، وهي أنها لو أظهرت
-مع أن أصحابها من الأمة-، لكان في ذلك داع إلى الفرقة والوحشة

، وعدم الألفة التى أمر الله بها ورسوله حيث قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا
بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا}

وقال: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُم}

 وقال: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ
تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَات}

وقال: {وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا
دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا}.

وفي الحديث: “لا تحاسدوا، ولا تدابروا، ولا تباغضوا، وكونوا عباد
الله إخوانًا”، وأمر عليه الصلاة والسلام بإصلاح ذات البين، وأخبر أن فساد ذات
البين هي الحالقة، وأنها تحلق الدين، والشريعة طافحة بهذا المعنى، ويكفي فيه ما ذكره
المحدثون في كتاب “البر والصلة”،

 وقد جاء في قوله تعالى: {إِنَّ
الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْء} الآية

 أنه روي عن عائشة وأبي هريرة
-وهذا حديث عائشة-، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يا عائشة! إن الذين
فرقوا دينهم وكانوا شيعًا، من هم؟”. قلت: الله ورسوله أعلم. قال: “هم أصحاب
الأهواء وأصحاب البدع، وأصحاب الضلالة من هذه الأمة، يا عائشة! إن لكل ذنب توبة؛ ما
خلا أصحاب الأهواء والبدع، ليس لهم توبة، وأنا منهم بريء، وهم مني برءاء”.

فإذا كان من مقتضى العادة أن التعريف بهم على التعيين يورث العداوة والفرقة
وترك الموالفة، لزم من ذلك أن يكون منهيًا عنه، إلا أن تكون البدعة فاحشة جدًّا كبدعة
الخوارج، فلا إشكال في جواز إبدائها وتعيين أهلها، كما عين رسول الله صلى الله عليه
وسلم الخوارج وذكرهم بعلامتهم، حتى يعرفون ويحذر منهم. ويلحق بذلك ما هو مثله في الشناعة
أو قريب منه بحسب نظر المجتهد، وما سوى ذلك، فالسكوت عن تعيينه أولى”.

أقول : فهذا كلام الشاطبي على وجهه وقد بتر هذا الناسب منه قوله (ويلحق
بذلك ما هو مثله في الشناعة أو قريب منه)، وبتر منه قوله (فالسكوت عن تعيينه أولى)
فلم يجزم الشاطبي بالنهي في آخر كلامه بل (أولى)، والشاطبي نفسه قد قيد هذا الكلام
في كتابه  الاعتصام ، والذي صنفه بعد الموافقات.

حيث قال : “فإذا كان من مقتضى العادة أن التعريف بهم على التعيين
يورث العداوة بينهم والفرقة لزم من ذلك أن يكون منهيا عنه إلا أن تكون البدعة فاحشة
جدا كبدعة الخوارج وذكرهم بعلامتهم حتى يعرفوا ويلحق بذلك ما هو مثله في الشناعة أو
قريب منه بحسب نظر المجتهد

وما عدا ذلك فالسكوت عنه أولى”.

فهذا الموطن الأول الذي يجوز فيه الشاطبي التعيين، إلى أن قال :”
والثاني -يعني من المواطن التي يجوز فيها التعيين- حيث تكون الفرقة تدعو إلى ضلالتها
وتزيينها في قلوب العوام ومن لا علم عنده فإن ضرر هؤلاء على المسلمين كضرر إبليس وهم
من شياطين الإنس فلا بد من التصريح بأنهم من أهل البدعة والضلالة ونسبتهم إلى الفرق
إذا قامت له الشهود على أنهم منهم، كما اشتهر عن عمرو بن عبيد وغيره

فروى عاصم الأحول، قال جلست إلى قتادة فذكر عمرو بن عبيد فوقع فيه ونال
منه

 فقلت أبا الخطاب ألا أرى العلماء
يقع بعضهم في بعض فقال يا أحول أو لا تدرى أن الرجل إذا ابتدع بدعة فينبغى لها أن تذكر
حتى تحذر فجئت من عند قتادة وأنا مغتم بما سمعت من قتادة في عمرو بن عبيد وما رأيت
من نسكه وهديه فوضعت رأسي نصف النهار وإذا عمرو بن عبيد المصحف في حجره وهو يحك آية
من كتاب الله

فقلت: سبحان الله تحك آية من كتاب الله قال إني سأعيدها، قال: فتركته حتى
حكها، فقلت: له أعدها، فقال: لا أستطيع.

فمثل هؤلاء لا بد من ذكرهم والتشريد بهم لأن ما يعود على المسلمين من ضررهم
إذا تركوا أعظم من الضرر الحاصل بذكرهم والتنفير عنهم إذا كان سبب ترك التعيين الخوف
من التفرق والعداوة، ولا شك أن التفرق بين المسلمين وبين الداعين للبدعة وحدهم – إذا
أقيم – عليهم أسهل من التفرق بين المسلمين وبين الداعين ومن شايعهم واتبعهم وإذا تعارض
الضرران فالمرتكب أخفهما وأسهلهما وبعض الشر أهون من جميعه كقطع اليد المتأكلة إتلافها
أسهل من إتلاف النفس، وهذا شأن الشرع أبدا يطرع حكم الأخف وقاية من الأثقل فإذا فقد
الأمران فلا ينبغى أن يذكروا لأن يعينوا وإن وجدوا”.

فتأمل قوله (فإذا فقد الأمران): فإذا وجد أحدهما جاز تعيين المبتدع:

    الأول : ألا يكون ذا بدعة شنيعة
كبدعة الخوارج وما قاربها وما شابهها.

    الثاني : ألا يدعو إليها.

وتأمل قوله الأخير (ولا شك أن التفرق بين المسلمين وبين الداعين للبدعة
وحدهم – إذا أقيم – عليهم أسهل من التفرق بين المسلمين وبين الداعين ومن شايعهم واتبعهم).

وبعد أن عرفنا كلام الشاطبي على ما وجهه وما وقع من الناقل من تصرف مخل
بالمعنى:

الأول : أن الشاطبي على علمه وفضله وقع منه بدع جمعها صاحب
( الإعلام بمخالفات الموافقات والاعتصام ) ، فلا ينبغي أن يؤخذ تقريره في هذا الباب
منفرداً عن تقريرات أهل العلم والسنة.

الثاني : قد ثبت عن السلف تبديع وتعيين من بدعته دون بدعة الخوارج ، ومع
كونه غير داعية

 قال ابن أبي يعلى في طبقات
(1/126) :” جَعْفَر بن محمد بْنِ هذيل بن بنت أبي شامة أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الكوفي:
ذكره أبو بكر الخلال ومدحه وقال عنده عَنْ أبي عبد اللَّه مسائل صالحة منها: حَدَّثَنَا
أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ حَدَّثَنَا أبو معاوية يعني الضرير قَالَ: قلت: له يا أبا عبد
اللَّه تحدث عَنْ أبي معاوية وهو مرجىء قَالَ: لم يكن داعية”، فهنا عينه أحمد
مع تنصيصه على ليس بداعية، وقال أحمد في سعيد بن أبي عروبة كما في التهذيب :
“كان يقول بالقدر و يكتمه”، ولا شك أنه لم يقل بقول القدرية نفاة العلم بأن
هؤلاء كفروهم.

فتأمل قول أحمد ( ونبين أمرهم للناس ) ، علماً أن السائل لم يذكر عنهم
دعوةً إلى بدعتهم.

وقال الخلال في السنة 659- أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي هَارُونَ
, وَمُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ , أَنَّ أَبَا الْحَارِثِ حَدَّثَهُمْ قَالَ : وَجَّهْنَا
رُقْعَةً إِلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ : مَا تَقُولُ رَحِمَكَ اللَّهُ فِيمَنْ قَالَ
: لاَ أَقُولُ إِنَّ مُعَاوِيَةَ كَاتَبُ الْوَحْيِ , وَلاَ أَقُولُ إِنَّهُ خَالُ
الْمُؤْمِنِينَ , فَإِنَّهُ أَخَذَهَا بِالسَّيْفِ غَصْبًا ؟ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ
: هَذَا قَوْلُ سَوْءٍ رَدِيءٌ , يُجَانَبُونَ هَؤُلاَءِ الْقَوْمِ , وَلاَ يُجَالَسُونَ
, وَنُبَيِّنُ أَمْرَهُمْ لِلنَّاسِ.

الثالث : أن قول الشاطبي أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبين إلا حال
الخوارج تفصيلاً فيه نظر شديد ويناقش، بأن يقال أن ما ورد في السنة من بيان أوصاف أهل
البدع بينٌ تمام البيان.

قال مسلم في صحيحه 17- [7-7] وحَدَّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى بْنِ
عَبْدِ اللهِ بْنِ حَرْمَلَةَ بْنِ عِمْرَانَ التُّجِيبِيُّ ، قَالَ : حَدَّثَنَا ابْنُ
وَهْبٍ ، قَالَ : حَدَّثَنِي أَبُو شُرَيْحٍ أَنَّهُ سَمِعَ شَرَاحِيلَ بْنَ يَزِيدَ
، يَقُولُ : أَخْبَرَنِي مُسْلِمُ بْنُ يَسَارٍ ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ
، يَقُولُ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَكُونُ فِي
آخِرِ الزَّمَانِ دَجَّالُونَ كَذَّابُونَ ، يَأْتُونَكُمْ مِنَ الأَحَادِيثِ بِمَا
لَمْ تَسْمَعُوا أَنْتُمْ ، وَلاَ آبَاؤُكُمْ ، فَإِيَّاكُمْ وَإِيَّاهُمْ ، لاَ يُضِلُّونَكُمْ
، وَلاَ يَفْتِنُونَكُمْ.

فهذا تحذير من كل أهل البدع.

وقال أبو داود في سننه 4607 – حدثنا أحمد بن حنبل ثنا الوليد بن مسلم ثنا
ثور بن يزيد قال حدثني خالد بن معدان قال حدثني عبد الرحمن بن عمرو السلمي وحجر بن
حجر

 قالا: أتينا العرباض بن سارية
وهو ممن نزل فيه{ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه}فسلمنا
وقلنا أتيناك زائرين وعائدين ومقتبسين

 فقال العرباض صلى بنا رسول الله
صلى الله عليه و سلم ذات يوم ثم أقبل علينا فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت
منها القلوب فقال قائل يارسول الله كأن هذه موعظة مودع فماذا تعهد إلينا ؟

 فقال ” أوصيكم بتقوى الله
والسمع والطاعة وإن عبدا حبشيا فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي
وسنة الخلفاء المهديين الراشدين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور
فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة”.

وقول النبي صلى الله عليه وسلم ( وإياكم ومحدثات الأمور ) يتضمن التحذير
من أهل البدع صغرت أو كبرت لأنهم هم حملة محدثات الأمور، وإنما تنتشر بين الناس بنشرهم
لها ، فلا يكون من قاربهم مطبقاً للأمر النبوي بالبعد عنها، ثم يقال أن بيان النبي
صلى الله عليه وسلم لحال الخوارج تفصيلاً يتضمن بيان حال غيرهم من أهل البدع ، لوضوح
الاشتراك بينهم في الإحداث والمنهج، وعلة الإحداث هنا ، كالعلة الاسكار الجامعة بين
الحشيشة والخمر فيها يجوز لمسلمٍ أن يقول ( أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبين حال
الحشيشة تفصيلاً ونحن نقتدي به فنحذر من الخمر المشروب فقط !).

قال الفريابي في القدر 375 – حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ
بْنُ عَامِرٍ، حَدَّثَنَا سَلَّامُ بْنُ أَبِي مُطِيعٍ، قَالَ: كَانَ أَيُّوبُ يُسَمِّي
أَصْحَابَ الْبِدَعِ كُلَّهَمْ خَوَارِجَ وَيَقُولُ: «إِنَّ الْخَوَارِجَ اخْتَلَفُوا
فِي الِاسْمِ وَاجْتَمَعُوا عَلَى السَّيْفِ».

الرابع : أنه ما ينبغي التسامح مع البدع المستصغرة بحجة أنها لم تصل إلى
بدع الخوارج وأمثالهم فقد كان من فقه السلف أنهم ينكرون البدع العملية لأنها هي التي
تقود إلى البدع الاعتقادية، فأصحاب الحلق الذين أنكر عليهم ابن مسعود انتهى بهم الأمر
إلى القول برأي الخوارج.

قال ابن أبي شيبة في المصنف (5/ 290) حدثنا معاوية بن هشام قال حدثنا سفيان
عن سعيد الجريري عن أبي عثمان قال: كتب عامل لعمر بن الخطاب إليه ان ههنا قوما يجتمعون
فيدعون للمسلمين وللامير، فكتب إليه عمر: أقبل وأقبل بهم معك، فاقبل، وقال عمر للبواب:
أعدلي سوطا، فلما دخلوا على عمر أقبل على أميرهم ضربا بالسوط، فقال: يا عمر! إنا لسنا
أولئك الذين – يعني أولئك قوم يأتون من قبل المشرق”

قلت: فانظر كيف ظن عمر بهؤلاء الذين وقعوا ببدعةٍ عملية أنهم بذرةٌ للخوارج

ومن هذا استفاد البربهاري قوله في السنة ص23:” واحذر صغار المحدثات
فإن صغار البدع تعود حتى تصير كبارا، وكذلك كل بدعة أحدثت في هذه الأمة كان أولها صغيرا
يشبه الحق فاغتر بذلك من دخل فيها ثم لم يستطع المخرج منها فعظمت وصارت ديناً يدان
به”.

الخامس : أن بعض من عرض عليه هذا الكلام للشاطبي أخذ يذكر بعض العلماء
الذين وقعوا في تعطيل الصفات ، وينزل كلام الشاطبي عليهم، والواقع أن كلام الشاطبي
لا ينزل عليهم فإن بدعة التعطيل أشد من بدعة الخوارج الذين ظهروا في زمن الصحابة.

قال شيخ الإسلام في بيان تلبيس الجهمية (2/45) :” ولا يقدر احد ان
ينقل عن احد من سلف الامة وأئمتها في القرون الثلاثة حرفا واحدا يخالف ذلك لم يقولوا
شيئا من عبارات النافية ان الله ليس في السماء والله ليس فوق العرش ولا انه لا داخل
العالم ولا خارجه ولا ان جميع الامكنة بالنسبة اليه سواء ولا انه في كل مكان او انه
لا تجوز الاشارة الحسية اليه ولا نحو ذلك من العبارات التي تطلقها النفاة لان يكون
فوق العرش لا نصا ولا ظاهرا بل هم مطبقون متفقون على انه نفسه فوق العرش وعلى ذم من
ينكر ذلك بأعظم مما يذم به غيره من اهل البدع مثل القدرية والخوارج والروافض ونحوهم”.

فصرح شيخ الإسلام أن السلف ذموا نفاة العلو بأكثر مما ذموا به الخوارج
، وهذا واضح فالخصومة معهم في صفات رب العالمين، والخوارج كفروا الناس بالمعاصي ، وأهل
التعطيل يكفرونهم أو يضللونهم بالتوحيد ، فشتان بين الفريقين، وإنما باب الاستفادة
من المخالف ، باب آخر غير باب الحكم عليه ، وإن كان بينهما اتصال ليس موضع بسطه، والشاطبي
إنما كان يتكلم على التعيين فقط ، وإلا هل يقول عاقل أن من وقع بدعة ونشر ذلك في كتاب
بين المسلمين لا يجوز تعيينه وتنبيه المسلمين على بدعته ؟!

بل الواجب أن يبين ما وقع منه .

هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم