التنبيه على قولهم سأوقفك عند القنطرة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

فمما ينتشر اليوم في كلام المتخاصمين قول بعض الناس إذا رأى نفسه مظلوماً
لظالمه (سأوقفك عند القنطرة)، وهذه الكلمة فيها مخالفةٌ شرعية بينه فإن القنطرة كما
ورد في الحديث مكان بعد الصراط يقف عنده أهل الإيمان لاستيفاء الحقوق ورد المظالم.

قال البخاري في صحيحه 6535 – حَدَّثَنِي الصَّلْتُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا
يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ { وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ } قَالَ حَدَّثَنَا
سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ النَّاجِيِّ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ
الْخُدْرِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَخْلُصُ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ النَّارِ فَيُحْبَسُونَ عَلَى قَنْطَرَةٍ بَيْنَ
الْجَنَّةِ وَالنَّارِ فَيُقَصُّ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ مَظَالِمُ كَانَتْ بَيْنَهُمْ
فِي الدُّنْيَا حَتَّى إِذَا هُذِّبُوا وَنُقُّوا أُذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ
فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَأَحَدُهُمْ أَهْدَى بِمَنْزِلِهِ فِي الْجَنَّةِ
مِنْهُ بِمَنْزِلِهِ كَانَ فِي الدُّنْيَا.

وقوله عليه والسلام ( يخلص المؤمنون من النار ) أي بالجواز على الصراط
كما ورد مبيناً في روايات أخرى ( انظر السنة لعبد الله بن أحمد 855 )، ولهذا قال شيخ
الإسلام في الواسطية :” ومنهم من يمر كركاب الإبل ومنهم من يعدو عدوا ومنهم من
يمشى مشيا ومنهم من يزحف زحفا ومنهم من يخطف فيلقى فى جهنم فإن الجسر عليه كلاليب تخطف
الناس بأعمالهم فمن مر على الصراط دخل الجنة، فإذا عبروا عليه وقفوا على قنطرة بين
الجنة والنار فيقتص لبعضهم من بعض فإذا هذبوا ونقوا أذن لهم فى دخول الجنة”.

فإن قلت : إذا كانت هذه حقيقة القنطرة فما وجه المخالفة الشرعية في قول
القائل (سأوقفك على القنطرة ؟)، فالجواب: أنه من أين علم أنه سيموت مسلماً فالقنطرة
خاصةٌ لأهل الإسلام ، بل من أين له أن ظالمه هذا سيموت كذلك على الإسلام ؟

ثم من أين له أنه سيجوز الصراط فالقنطرة خاصة فيمن جاز الصراط من أهل الإيمان
؟ وقد نص على هذا ابن القيم وهو ظاهر النصوص

 قال ابن القيم في شفاء العليل
(1/260) :” أن أهلها يدخلونها قبل دخول أهل الجنة إليها فإن أهل الجنة إنما يدخلونها
بعد عبورهم على الصراط وبعد حبسهم على القنطرة التي وراءه وأهل النار قد تبوءوا منازلهم
منها فإنهم لا يجوزون على الصراط ولا يحبسون على تلك القنطرة” ، فنص على أن النار
لا يوقفون على القنطرة ، ونص في موضع آخر على أنه لا يوقف على القنطرة إلا من جاز الصراط
من أهل الجنة ، ومعلومٌ أنه ليس كل أهل الإيمان يجوزون الصراط.

قال في تحفة المودود (1/310): ” فإذا جاوز المؤمنون الصراط ولا يجوزه
إلا مؤمن أمن من دخول النار فيحبسون هناك على قنطرة بين الجنة والنار فيقتص لبعضهم
من بعض مظالم كانت بينهم في دار الدنيا حتى إذا هذبوا أذن لهم في دخول الجنة”.

وهذا الذي قاله هو ظاهر النصوص، ومن المخالفة الشرعية البينة ، أن يقول
هذه الكلمة من اقتص من خصمه بغيبة أو تشهير أو رد سب

 قال مسلم في صحيحه 6683-
[68-2587] حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ ، وَقُتَيْبَةُ ، وَابْنُ حُجْرٍ ، قَالُوا
: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ يَعْنُونَ ابْنَ جَعْفَرٍ ، عَنِ الْعَلاَءِ ، عَنْ أَبِيهِ
، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
، قَالَ : الْمُسْتَبَّانِ مَا قَالاَ فَعَلَى الْبَادِئِ ، مَا لَمْ يَعْتَدِ الْمَظْلُومُ.

قال النووي في شرحه على مسلم (8/398) :” مَعْنَاهُ أَنَّ إِثْم السِّبَاب
الْوَاقِع مِنْ اِثْنَيْنِ مُخْتَصّ بِالْبَادِئِ مِنْهُمَا كُلّه إِلَّا أَنْ يَتَجَاوَز
الثَّانِي قَدْر الِانْتِصَار ، فَيَقُول لِلْبَادِئِ أَكْثَر مِمَّا قَالَ لَهُ”
، ثم قال :” قَالُوا : وَإِذَا اِنْتَصَرَ الْمَسْبُوب اِسْتَوْفَى ظُلَامَته
، وَبَرِئَ الْأَوَّل مِنْ حَقِّهِ ، وَبَقِيَ عَلَيْهِ إِثْم الِابْتِدَاء ، أَوْ
الْإِثْم الْمُسْتَحَقّ لِلَّهِ تَعَالَى . وَقِيلَ : يَرْتَفِع عَنْهُ جَمِيع الْإِثْم
بِالِانْتِصَارِ مِنْهُ ، وَيَكُون مَعْنَى عَلَى الْبَادِئ أَيْ عَلَيْهِ اللَّوْم
وَالذَّمّ لَا الْإِثْم”.

فإذا جاء من اقتص من ظالمه أو زاد على حد الاقتصاص ثم قال ( سأوقفك للحساب
عند الله عز وجل ) كان مستهيناً بالحدود الشرعية ، متكلماً بالغيب بما لا علم له فيه
، ولو قالها ثم اقتص كان مكذباً لنفسه وكانت كلمته ( سأوقفك للحساب عند الله عز وجل
) مخالفة شرعية لأنه لا يدري هل يقتص فيسقط حقه أم لا ؟ ، بل لعله اقتص بأكثر مما نيل
به منه فصار ظالماً بعد أن كان مظلوماً ، بل لا يدري هل يموت على الإسلام أم يكفر ولا
تكون له تلك الحرمة التي للمسلم.

وتلخيص هذا الوجه في أن يقال ( لو ضمنت أنك ستموت مسلماً وأن أعمالك ستوفيك
القنطرة ، فهل تضمن أنك ستبقى عمرك كله لا تقتص من ظالمك وتصبر عليه ؟)، وهذا مقامٌ
عظيم لا يدعيه ورع لنفسه إلا بالاستثناء والاستعانة بالله عز وجل على ذلك ، بدون جزم
بأثر ذلك الفعل الغيبي، قال تعالى عن الذبيح (سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا
وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا)، فهذا نبي ابن نبي يستثني ، والقوم يجزمون والله المستعان،
وقال تعالى: (فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى).

بل ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن من دعا على ظالمه فقد انتصر وما صبر،
قال شيخ الإسلام كما في المستدرك على مجموع الفتاوى (5/ 79) :” وقوله: الله أكبر
عليك، كالدعاء عليه، شتمه بغير فرية نحو: يا كلب، فله قوله له أو تعزيره، ولو لعنه
فهل له أن يلعنه؟ ينبني على جواز لعن المعين.

ومن لعن نصرانيا أدب أدبا خفيفا، إلا أن يكون صدر من النصراني ما يقتضي
ذلك.

 وقال الإمام أحمد رحمه الله: (
الدعاء قصاص، ومن دعا على ظالمه فما صبر وهذا أمر لا يطيقه إلا أهل العزم (يعني ترك
كل صور الانتصار بما فيها الدعاء)

 هذا في المظلوم حقاً، فكيف بمن
ليس مظلوماً أصلاً بل ظالم فاجر ثم يتظلم ويكذب في تظلمه ؟

 ثم هو يريد إيقاف الناس على القنطرة!

وبعضهم يطلق هذه الكلمات (سأوقفك عند القنطرة) و (سأوقفك للحساب عند الله
عز وجل) ، وكأنه ما ظلم أحداً في حياته فيتكلم عن مثل هذا الموقف كلام الآمن المستفيد
.

 وقد رأيت فجاراً كذبة يقولون مثل
هذه الكلمة فتعجبت من إطلاقهم لها على من أعرفه من حالهم .

 وما ذلك إلا الجهل وضعف الإيمان
والله والمستعان.

هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم